من افتتن بالردود عوقب بالصدود

منذ 4 ساعات

ولقد تأملت فيمن افتُتن بالردود على إخوانه من طلاب العلم وغيرهم فرأيتهم قد حُرموا – والله – التوفيق، وبركة العلم، والعناية بالعمل، ونُزعت منهم الرحمة والرفق والحلم والأناة، وابتُلوا بالكبر والعلو والبغي.

‏من أعظم علامة توفيق الله للمسلم، وسلامةِ قلبه من الكبر والعلوّ والبغي: أنْ يكون في قلبه رحمةٌ على من زلّ وأخطأ من المسلمين الذين اجتهدوا في تحرّي الحق والصواب، وأن يحترم الكبير والعالم والمصلح ويتأدّب معه.
وإذا رأى من أحدٍ من المسلمين خطأ تحقّق غاية التحقق من خطئه، وإذا تحقّق أنه أخطأ خطأً بيّنًا سعى في نصحه سرًّا وبأدب؛ لأنّ غايته الإصلاح، لا التّشفّي وإظهار علمه وقوة حجّته، ولا إثبات خطأ المخطئ أمام الناس، مادام بالإمكان أن يُناصحه سرًّا.

ولا يُبادر بالردّ على أخيه المسلم المجتهد في تحرّي الحق والنفع إلا من اضطرّ لذلك، أما في حال السعة فهو في عافية، ويكل الردود العلنية لأهل الاختصاص والشأن، وهم العلماء، الذين يرجع الناس إلى أقوالهم ويرضون بهم.
وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لا يردّ على أهل العلم والفضل في زمانه من أهل السنة والجماعة، وإنما يُناقش الأخطاء ويردّها، ويحفظ لأهل العلم والصلاح هيبتهم ومكانتهم.

وليس كلّ من طلب العلم وتعلّم يتصدّى للردّ على إخوانه من طلاب العلم والدعاة إلى الله بعلم وبصيرة، بل هذا الباب له أهله، وهم العلماء والمتخصّصون، وردّهم يكون على الخطأ، دون الإشارة إلى قائله، إلا عند الضرورة التي تُلجئهم إلى التصريح بالقائل.

ولقد تأملت فيمن افتُتن بالردود على إخوانه من طلاب العلم وغيرهم فرأيتهم قد حُرموا – والله – التوفيق، وبركة العلم، والعناية بالعمل، ونُزعت منهم الرحمة والرفق والحلم والأناة، وابتُلوا بالكبر والعلو والبغي.

والرود بين طلاب العلم علنًا بدون ضرورة لها عواقب وأضرار كثيرة على الرادّ نفسه، وعلى المردود عليه، وعلى عموم المسلمين:
فأما العواقب والأضرار المترتبة على الرادّ نفسه: فهي أنها تُحدث في قلبه العلو والكبر والغرور من حيث لا يشعر، وقد يجرّه ذلك إلى البغي والفجور، كما هو مشاهد.
فلا يكاد يسلم المفتون بالردود من أمراض القلب الخطيرة، التي غفل عنها وتركها وتفرغ للرد على إخوانه طلاب العلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: كثير من المنتسبين إلى العلم يُبتلى بالكِبْر, كما يُبتلى كثيرٌ من أهل العبادة بالشرك، ولهذا فإن آفة العلم الكِبْر، وآفة العبادة الرياء، وهؤلاء يُحْرَمون حقيقة العلم، كما قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146].

وأما العواقب والأضرار المترتبة على المردود عليه: فهي أنها تُؤدّي إلى النفرة والتدابر، وهذا مصادم لمقصود الشرع، فكم رأينا من نفور وصدود بسبب تلك الردود؟
فقد ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تقاطعوا، وكونوا ‌عباد ‌الله ‌إخوانا».

وهذه الردود العلنيّة بلا ضرورة تؤدّي بلا شكّ ولا ريب إلى التّحاسد والتباغض والتقاطع، ومن تسبّب في ذلك فقد سعى في الأرض فسادًا والعياذ بالله.

وتُؤدّي كذلك إلى إشغال المردود عليه عما هو فيه من التعليم والعمل والنفع، فينشغل خاطره بما ورَد عليه من هذا الردّ المكدّر، وليس كلّ أحد يحتمل ردود إخوانه عليه، فإني أعرف بعض طلاب العلم إذا رُدّ عليه يتكدّر خاطره إلى درجةٍ يُحرم معها لذة العبادة، والتفرغ للعلم، فيبوء هذا الرادّ المتسلّط بالإثم، والله المستعان.

وأما العواقب والأضرار المترتبة على عموم المسلمين: فهي عدم ثقتهم بالعلماء وطلاب العلم، حيث رأوهم يتشاكسون ويردّ بعضهم على بعض، فتقلّ هيبتهم عندهم، وربما زالت وتلاشت، ويترتب على ذلك عدم قبولهم لما يقولون وينقلون من الخير والعلم النافع.

فيا من افتُتِنت بالردود على إخوانك: إنك لن تضرّ إلا نفسك، ويومًا سيكشف الله عن خبايا قلبك، ويعرّفك بما أخفيته من أمراض جهلتها أو تجاهلتها {يوم تبلى السرائر}.

يومًا ستعرف فداحة وشناعة فعلك، في تكدير خواطر إخوانك، وتضييق صدورهم، وهم قد نذروا أنفسهم في نفع الناس ونشر الخير، فبدلا من أن تُساندهم وتشْكرهم، صرت خنجرًا تطْعَنهم به، ومِعْولاً للهدم لا للبناء.

وإذا حُرمت من التفرغ لنفع المسلمين فدَع مَن تفرّغ لنفعهم من شرّ لسانك وقلمك، فربّ كلمة تردّ بها عليهم كانت سببًا في فتور هممهم عن نشر الخير، ولا يُحصى من توقف عن نشر الخير والعلم والنفع بسبب تلك الردود والانتقادات، والحساب يوم القيامة عسير.

أسأل الله أن يجعلنا سببًا في نشر الخير، وتأليف القلوب، وأن يحفظ ألسنتنا وأقلامنا من الزلل والخطأ والفتن، إنه سميع قريب مجيب.