رواء المدينة المنورة...(الحلقة الخامسة)

منذ 8 ساعات

حين تنطق الأمكنة بسيرة سيد الخلق عليه الصلاة والسلام (الحلقة الخامسة)

حين تنطق الأمكنة بسيرة سيد الخلق عليه الصلاة والسلام (الحلقة الخامسة)

كثيرة هي المزارات التي يستحب للمعتمر أن يقف على تفاصيلها عمرانا وحدثا وموقعا، مزارات ليست أحجارا صامتة ولا أطلالا جامدة، بل شواهد حية تنبض بالتاريخ، وتستدعي الذاكرة، وتشد الوجدان إليها شدا، حتى ليجد الزائر نفسه مأخوذا إليها، مرهون الخاطر بها، محبوس النواصي في رحاب ماضيها العزيز المشرق.
والحقيقة أن ما كان لتلك الصفحات من التاريخ من عزة  وإشراق، فإنما جذوة إشراقها قد استمدت نورها من سيرة سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، ومن خطى صحبه الكرام رضي الله عنهم، ذلك الرعيل الذي صنع لأمته رصيدا وافرا من المجد والتضحية والبذل، فكان التفوق للإنسان على العمران حتى صار استمدادا منه للمكان تلك المنزلة الرفيعة والقداسة البديعة.
ومن هاهنا كانت الزيارات المبرمجة خلال مقام المعتمر بالمدينة المنورة زيارات وعي وذكرى لا طقوس إلف وعادة، وزيارات اعتبار لا تعبد، واقتداء لا تبرك، ودعاء مشروع لا غلو فيه ولا ابتداع، إذ المقصود منها أن يتصل الحاضر بالماضي اتصال المتعلم بالمعلم، والسائر بالقدوة، لا اتصال المتعلق بالمكان لذاته.
فكانت أولى محطاتنا مسجد قباء، ذلك المسجد الذي تشرف بأن يكون أول بيت أسس على التقوى من أول يوم، فليس شرفه في جدرانه، وإنما في القلوب التي عمرته بالإيمان،
وفي الأقدام التي وطئته طاعة وخضوعا وإخباتا وإنابة، هناك يستحضر الزائر في تحيين مبارك كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يشارك في البناء، وكيف ارتبطت العبادة منذ بدايتها بالعمل، والطهارة بالبذل، والنية بالصدق والتميز بالإخلاص.
ثم كانت الزيارة إلى مسجد القبلتين، حيث توقف الزمان لحظة في سياق سيرورته الكونية ليشهد تحولا مفصليا في مسيرة الأمة الشرعية، ففي هذا المسجد نزل الأمر الإلهي بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، في مشهد تجلت فيه حقيقة الامتثال الفوري، والانقياد المطلق لأمر الله، دون أن تسجل لحظة التسليم أدنى كلمة أو إشارة تفيد اعتراضا أو تحيل على جدل أو تردد، وكأن الأمة ما فتئت منذ نشأتها تدرب على أن وجهتها وصوب حركتها وبوصلة سكونها مستقرة منقادة إلى حيث أمر ويأمر الله، لا حيث تهوى النفوس وتسوق الطباع.
ثم انطلقنا إلى جبل أحد، ذلك الجبل الذي نطق بحبه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أحد جبل يحبنا ونحبه"، وكأن العلاقة بين الإيمان وتربة المكان هنالك هي علاقة ود وشهادة، وفي حضن الجبل، يقف الزائر عند تل الرماة، لا كواقف أمام تضاريس جامدة، بل كشاهد على درس خالد في سنن النصر، وأسباب الهزيمة، وأثر المخالفة.
ففي تلك البقعة تستحضر أحداث غزوة أحد بكل ما حملته من عبر موجعة مفجعة، الغزوة التي ذاق فيها المسلمون مرارة المخالفة، حين غلبت الرغبة على الأمر، والعاجل الخسيس على الآجل النفيس، فكان الثمن قاسيا، وكانت النتائج صادمة
هناك فقط تستعاد لحظات الزلزلة، حين اضطرب الصف، وتكاثفت الرماح وترادف صليل السيوف على أجساد الصحابة، ونال النبي صلى الله عليه وسلم من الأذى ما نال، حتى كسرت رباعيته، وشج وجهه الشريف، وسالت دماؤه الطاهرة، في مشهد تخلخلت له القلوب، واهتزت له الأرض تحت الأقدام.
وهناك يستحضر الزائر عبر كلمات الوعظ الراشد المشهد المفجع لاستشهاد سيدنا حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وما وقع له من تمثيل وتنكيل، ليبقى الجرح نازفا في الذاكرة، لا حقدا ولا ثأرا، بل درسا في ثمن الحق، وضريبة الصدع به.
وفي خضم تلك الفوضى، يتذكر المرء أن  خالد بن الوليد رضي الله عنه كان – يومئذ – قائدا لفيلق من فيالق المشركين، يغير بذكاء عسكري على ثغرة قصور الرمي وتقصير الرماة، لتتحول موازين المعركة، ويشيع بين الصفوف المؤمنة خبر كاد أن يقصم الظهور مفاده: مقتل النبي صلى الله عليه وسلم.
إنه الخبر الذي اهتزت من وقعه القلوب، وطاشت موازين النفوس، وانكشف للعيان معدن الإيمان، حيث ثبت من ثبته الله، واضطرب من اضطرب، لتكتب تلك اللحظات من تاريخ الأمة سطورا خالدة في سجل السيرة العطرة تحكي على وجه اليقين حكاية أن النصر ليس بالاطراد دائما هو ثمرة العدد ولا نتيجة مباشرة لامتلاك العدة والقوة، وإنما هو مباشرة لثمرة الطاعة والثبات على الأمر.
وإنها والله وبالله وتالله لمحطات يخرج الزائر من جبلها أحد، لا محملا بالحزن والكمد، بل يبرحها مثقلا بنور البصيرة، مهديا إلى حقيقة أن هذا الدين قام على التسليم قبل البطولة، وعلى الامتثال قبل الاندفاع، وعلى الاتباع لا الابتداع...
وأن محبة النبي صلى الله عليه وسلم ليست مزاعم تترجم بالعاطفة وحدها، بل هي عروة وثقى لا تقوم لأنفاسها قائمة إلا باتباع أمره، وتصديق خبره والوقوف عند حدود نهيه، والتزام تركته مهما قعقعت المغريات وفرقعت المبررات، وإلى أي سقف بلغت دعاوى وتلبيسات مطففي الانتساب إلى منهجه القولي وسننه الفعلي، من الوضاعين والكذابين المنتحلين ثوب المحبة زورا وبهتانا.

محمد بوقنطار

محمد بوقنطار من مواليد مدينة سلا سنة 1971 خريج كلية الحقوق للموسم الدراسي 96 ـ97 الآن مشرف على قسم اللغة العربية بمجموعة مدارس خصوصية تسمى الأقصى.