إشكال في تشبيه الصوت الحسن بالقرآن بالمزمار
النبي صلَّى الله عليه وسلَّم مدَح صوت أبي موسى الأشْعري -وكان حلوًا- وقد سمِعَه يتغنَّى بالقرآن، فقال له: ""، فكيف يكون المزمار حرامًا؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فالحديث المُشار إليه متَّفق عليه، والمُراد بالمِزْمار فيه الصَّوت الحسَن، فشبَّه صلَّى الله عليْه وسلَّم حُسنَ صوت أبي موسى بما أُعطيه داود عليه السلام من حُسْن صوت، وليس المراد التشبيه بالآلة المعروفة، فلا مانع عند أهل اللُّغة من إطلاق اللَّفظ مرادًا به حقيقته، وإطلاقه في دلالة أُخرى مجازيَّة، فلا حجَّة فيه لِمن أراد إباحة أمرٍ تقرَّر تَحريمه بنصوص صحيحة صريحة.
وأصله: الآلة المعروفة، وأُطْلِق على الصَّوت الحسَن لِلمشابَهة بيْنهما، فالحديث فيه استِحْباب تَحسين الصوْت بالقرآن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأمَّا قوْله "صوت مزمار"، فإنَّ نفْس صوْت الإنسان يسمَّى مزمارًا، كما قيل لأبي موسى: ""، وكما قال أبو بكر رضِي الله عنْه: "أبِمزمور الشَّيطان في بيْت رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟!".
قال النَّووي: "المُراد بِالمِزْمارِ هُنا: الصَّوْت الحَسَن، وأصْل الزَّمْر الغِناء، وآلُ داوُدَ هُوَ داودُ نَفْسه، وآلُ فُلان قَدْ يُطْلَق على نَفْسه، وكانَ دَاودُ صلَّى اللَّه علَيْهِ وسلَّم حَسَن الصَّوْت جِدًّا". اهـ.
وقال المناوى في "فيض القدير": نفْس صوْت الإنسان يسمَّى مزْمارًا، كما في قوله: "". اهـ.
وقال القرطبي في "المفهم": "المزْمار والمزْمور: الصَّوت الحسن، وبه سُمِّيت آلة الزَّمر: مزمارًا، وآل داود: نفسه، وآل: صلة، والمراد به داود نفسه". اهـ.
هذا؛ وقد استدلَّ بِحديث أبي موسى السَّابق بعضُ غلاة الصوفيَّة على إباحة الغناء والمعازف، وقد أجاب عنهم العلاَّمة ابن القيم فقال: "فالجواب: أنَّ هذه حيْدة عن المقصود، وروغان عن محلّ النزاع، وتعلُّق بما لا متعلَّق به؛ فإنَّ جهة كوْن الشَّيْء مستلذًّا للحاسَّة، ملائمًا لها لا يدلُّ على إباحتِه، ولا تحريمِه، ولا كراهتِه، ولا استحبابِه؛ فإنَّ هذه اللَّذَّة تكون فيما فيه الأحكام الخمسة: تكون في الحرام والواجب، والمكْروه والمستحبّ، والمباح، فكيف يَستدلُّ بها على الإباحة مَن يعرف شروط الدَّليل ومواقع الاستدلال؟! وهل هذا إلاَّ بمنزلة منِ استدلَّ على إباحة الزِّنا بِما يجِدُه فاعله من اللَّذَّة، وأنَّ لذَّته لا يُنْكِرها مَن له طبع سليم؟! وهل يستدل بوجود اللَّذَّة والملاءمة على حلِّ اللَّذيذ الملائم أحد؟! وهل خلَت غالب المحرَّمات من اللذَّات؟! وهل أصْوات المعازف التي صحَّ عن النَّبيِّ تَحريمها، وأنَّ في أمَّته مَن سيستحلُّها بأصحِّ إسناد، وأجمع أهلُ العلم على تحريمِ بعضِها، وقال جمهورهم بتحريم جملتها - إلاَّ لذيذة تلذّ السَّمع؟! وهل في التِذاذ الجَمل والطِّفل بالصَّوت الطيِّب دليلٌ على حُكْمِه من إباحةٍ أو تَحريم؟! وأعجب من هذا: الاستدلال على الإباحةِ بأنَّ الله خلق الصَّوت الطيِّب، وهو زيادة نعمة منه لصاحبه، فيقال: والصورة الحسنة الجميلة أليستْ زيادة في النعمة، والله خالقُها، ومعطي حسنِها، أفيدلُّ ذلك على إباحة التمتُّع بِها، والالتِذاذ على الإطْلاق بها؟! وهل هذا إلاَّ مذهب أهل الإباحة الجارِين مع رسوم الطبيعة؟! وهل في ذمّ اللهِ لصوْت الحمار ما يدل على إباحة الأصْوات المطربات بالنَّغمات الموزونات، والألحان اللَّذيذات، من الصُّور المستحْسنات، بأنْواع القصائِد المنغمات، بالدُّفوف والشبابات؟! وأعجب من هذا: الاستِدلال بسماع أهل الجنَّة وما أجدر صاحبه أن يستدلَّ على إباحة الخمر بأنَّ في الجنَّة خمرًا، وعلى حلّ لباس الحرير بأنَّ لباس أهلِها حرير، وعلى حلِّ أواني الذَّهَب والفضَّة والتحلِّي بهما للرِّجال بِكَوْن ذلك ثابتًا وجود النَّعيم به في الجنَّة!
فإن قال: قد قام الدَّليل على تَحريم هذا، ولم يقُم على تَحريم السَّماع، قيل: هذا استِدلال آخَر غير الاستِدْلال بإباحتِه لأهل الجنَّة، فعلم أنَّ استدلالَكم بإباحته لأهل الجنَّة استدلال باطل لا يرضى به محصل، وأمَّا قولكم: لم يقم دليل على تَحريم السَّماع، فيقال لك: أيَّ السَّماعات تعني؟ وأيَّ المسموعات تريد؟ فالسماعات والمسموعات منها المحرَّم والمكْروه والمباح والواجِب والمستحب، فعيِّن نوعًا يقع الكلام فيه نفيًا وإثباتًا، فإن قلت: سماع القصائد، قيل لك: أيَّ القصائد تعنِي؟ ما مُدِح به الله ورسوله، ودينُه وكتابُه، وهُجي به أعداؤه، فهذه لم يزل المسلمون يرْوُونها ويسمعونها ويتدارسونَها، وهي التي سمِعَها رسولُ الله وأصحابُه، وأثاب عليْها وحرَّض حسَّانَ عليْها، وهي التي غرَّت أصْحاب السَّماع الشَّيطاني، فقالوا: تلك قصائد، وسَماعنا قصائد، فنعَم إذًا، والسنَّة كلام والبدعة كلام، والتسبيح كلام والغيبة كلام، والدُّعاء كلام والقذْف كلام، ولكن هل سمِع رسولُ الله وأصحابُه سماعَكم هذا الشَّيطانيَّ المشتمِل على أكثرَ من مفسدة مذكورة في غير هذا الموضع؟! وقد أشرنا فيما تقدَّم إلى بعضها، ونظير هذا: ما غرَّهم من استِحْسانه الصوْت الحسن بالقرآن، وأذنه له، وإذنه فيه، ومحبَّة الله له، فنقلوا هذا الاستِحْسان إلى صوْت النسوان والمرْدان وغيرهم، بالغناء المقرون بالمعازِف والشَّاهد، وذكْر القدِّ والنَّهْد والخصر، ووصْف العيون وفعلها، والشعر الأسْود ومحاسن الشَّباب، وتوْريد الخدود وذكْر الوصْل، والصدّ والتجنِّي". اهـ.
هذا؛ والله أعلم.
خالد عبد المنعم الرفاعي
يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام
- التصنيف:
- المصدر: