ضمان المضارب بالتقصير والتعدي
دفعت مبلغاً من المال لشخص يشتغل في تجارة المواد الغذائية كشريك مضارب، وقام هذا الشخص وبدون علمي بتشغيل مالي مع شخص آخر يشتغل في مجالات أخرى فخسر المال، فمن يتحمل الخسارة في هذه الحال؟
عقد المضاربة عند الفقهاء هو أن يدفع شخص مبلغاً من المال لآخر ليتجر فيه، والربح مشترك بينهما على حسب ما يتفقان. والمضاربة جائزة عند عامة الفقهاء اتباعاً لما ورد عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم الذين أجازوها وعملوا بها ولم يثبت فيها بعينها دليل لا من الكتاب ولا من السنة كما قال جماعة من أهل العلم. ويشترط في المضاربة أن يكون نصيب كل من المتعاقدين من الربح معلوماً على أن يكون جزءاً مشاعاً كنسبة مئوية 10% أو 15% أو 40% على حسب ما يتفقان. ولا يجوز أن يكون الربح مبلغاً محدداً، فإن حصل ذلك أدى ذلك إلى فساد عقد المضاربة. ومن الأمور المهمة في عقد المضاربة أن الخسارة إن حصلت يتحملها صاحب المال دون العامل لأن العامل يخسر جهده وعمله، إلا إذا كانت المضاربة مقيدة ومشروطة بشروط محددة، فخالف العامل تلك الشروط فإنه حينئذٍ يضمن، والأصل المتفق عليه بين الفقهاء أن يد المضارب يد أمانة، ويد الأمانة في الفقه الإسلامي لا تضمن إلا بالتفريط أو التعدي أو التقصير. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: "والوضيعة (الخسارة) في المضاربة على المال خاصة، ليس على العامل منها شيء، لأن الوضيعة عبارة عن نقصان رأس المال، وهو مختص بملك ربه، لا شيء للعامل فيه، فيكون نقصه من ماله دون غيره، وإنما يشتركان فيما يحصل من النماء" (المغني 5/22). وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ما يلي: "المضارب أمين ولا يضمن ما يقع من خسارة أو تلف إلا بالتعدي أو التقصير، بما يشمل مخالفة الشروط الشرعية أو قيود الاستثمار المحددة التي تم الدخول على أساسها، ويستوي في هذا الحكم المضاربة الفردية والمشتركة" (قرار رقم 122).
وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة 1408هـ، بشأن سندات المقارضة: "لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال أو ضمان ربح مقطوع أو منسوب إلى رأس المال، فإن وقع النص على ذلك صراحة أو ضِمناً بطل شرط الضمان" (مجلة مجمع الفقه الإسلامي 4/3/2159). وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي ما يلي: "الخسارة في مال المضاربة على رب المال في ماله، ولا يُسأل عنها المضارب إلا إذا تعدى على المال أو قصر في حفظه". وورد في فتاوى المستشار الشرعي لمجموعة البركة الجزء 2 الفتوى رقم (107) ما يلي: "رأس المال في شركة المضاربة أمانة في يد المضارب فلا يضمن ما يحصل فيه من خسارة إلا في حالات التعدي أو التقصير أو مخالفة الشروط". وورد في مجلة الأحكام العدلية: "المادة 1413- المضارب أمين ورأس المال في يده في حكم الوديعة، ومن جهة تصرفه في رأس المال وكيل لرب المال، وإذا ربح يكون شريكاً فيه". والمادة التي ذكرت حكم الوديعة في المجلة هي: المادة 777- الوديعة أمانة بيد المستودع بناء عليه إذا هلكت أو فقدت بدون صنع المستودع وتعديه وتقصيره في الحفظ لا يلزم الضمان. وقد قرر العلماء أن المضارب يضمن في حالات التعدي أو التقصير أو التفريط أو مخالفة شرط رب المال، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: "إذا تعدَّى المضارب وفعل ما ليس له فعله أو اشترى شيئاً نُهي عن شرائه فهو ضامن للمال في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن أبي هريرة وحكيم بن حزام وأبي قلابة ونافع وإياس والشعبي والنخعي والحكم وحماد ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي... ولنا أنه متصرف في مال غيره بغير إذنه فلزمه الضمان كالغاصب" (المغني 5/39).
ومن المعلوم أن الأصل المقرر عند الفقهاء أن على المضارب أن يتولى العمل بنفسه، لأن صاحب المال ما أعطى ماله للمضارب إلا لحصول الثقة به وبخبرته في العمل، فلا يجوز له أن يعطي مال المضاربة لغيره إلا أن يأذن له صاحب المال، فإن أذن له في ذلك جاز وهذا مذهب جمهور الفقهاء. قال الشيخ المرداوي: "ليس للمضارب دفع مال المضاربة لآخر من غير إذن رب المال على الصحيح" (الإنصاف 2/438). وجاء في الموسوعة الفقهية: "ولو ضارب العامل شخصاً آخر بغير إذن المالك فسدت المضاربة مطلقاً، سواء أقصد المشاركة في عملٍ وربحٍ أم ربحٍ فقط أم قصد الانسلاخ، لانتفاء إذن المالك فيها وائتمانه على المال غيره، فإن تصرف العامل الثاني بغير إذن المالك فتصرف غاصب فيضمن ما تصرف فيه، لأن الإذن صدر ممن ليس بمالك ولا وكيل... وإذا تعدى المضارب وفعل ما ليس له فعله فهو ضامن للمال لأنه متصرف في مال غيره بغير إذنه، فلزمه الضمان كالغاصب، ومتى اشترى ما لم يؤذن فيه فربح فيه فالربح لرب المال" (الموسوعة الفقهية الكويتية 38/60-61). وكذلك فإن على المضارب أن يلتزم بالشروط التي يفرضها صاحب المال بناءً على العقد المبرم بين الفريقين، ويدل على ذلك قوله تعالى: {} [المائدة: 1]. ومما يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "" (رواه الترمذي وقال:حسن صحيح)، ورواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم لكنه بدون الاستثناء، ورواه كذلك الحاكم وأبو داود عن أبي هريرة بلفظ: "" أي بدون الاستثناء. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الوفاء بها أي بالالتزامات التي التزم بها الإنسان من الواجبات التي اتفقت عليها الملل بل العقلاء جميعاً" (مجموع الفتاوى 29/516).
ومن المعلوم حرص صاحب المال على ماله فهو أدرى بما يحفظ ماله، وقد كان الصحابة يشترطون في المضاربة ما يرونه مناسباً لحفظ أموالهم، فعن حكيم بن حزام صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالاً مقارضة يضرب له به أن لا تجعل مالي في كبدٍ رطبةٍ ولا تحمله في بحر ولا تنزل به بطن مسيل، فإن فعلت شيئاً من ذلك فقد ضمنت مالي" (رواه البيهقي والدارقطني وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/295). وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان العباس بن عبد المطلب إذا دفع مالاً مضاربةً اشترط على صاحبه أن لا يسلك به بحراً ولا ينزل به وادياً ولا يشتري به ذات كبدٍ رطبةٍ، فإن فعل فهو ضامن فرفع شرطه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجازه" (رواه البيهقي والدارقطني والطبراني وفي سنده ضعف). قال الإمام الماوردي: "... فأما تعدي العامل في مال القراض من غير الوجه الذي ذكرنا فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون تعديه فيه لم يؤمر به مثل إذنه بالتجارة في الأقوات فيتجر في الحيوان، فهذا تعدٍ يضمن به المال، ويبطل معه القراض، فيكون على ما مضى في مقارضة غيره بالمال. والضرب الثاني: أن يكون تعديه لتغريره بالمال، مثل أن يسافر به ولم يؤمر بالسفر أو يركب به بحراً ولم يؤمر بركوب البحر، فإن كان قد فعل ذلك مع بقاء عين المال بيده ضمنه، وبطل القراض بتعديه، لأنه صار مع تعديه في عين المال غاصباً" (الحاوي الكبير 7/340-341).
وقد نصت مجلة الأحكام العدلية على التزام المضارب بشروط رب المال وأن المضارب إذا خالفها فهو ضامن، فقد جاء في [المادة 1420- يلزم المضارب في المضاربة المقيدة مراعاة قيد وشرط رب المال مهما كان. وجاء في المادة 1421- إذا خرج المضارب عن مأذونيته وخالف الشرط يكون غاصباً وفي هذا الحال يعود الربح والخسارة في بيع وشراء المضارب عليه، وإذا تلف مال المضاربة يكون ضامناً. وورد في المادة 1422- إذا خالف المضارب حال نهي رب المال إياه بقوله: لا تذهب بمال المضاربة إلى المحل الفلاني أو لا تبع بالنسيئة، فذهب بمال المضاربة إلى ذلك المحل فتلف المال أو باع بالنسيئة فهلك الثمن يكون المضارب ضامناً]. وهذا الكلام الذي ذكرته في ضمان المضارب لرأس المال في حالات التعدي أو التقصير أو التفريط أو مخالفة شرط رب المال، ينطبق على المصارف الإسلامية، فالأصل أن المصرف الإسلامي لا يضمن إلا في الحالات المذكورة، فإذا حصل شيء من التعدي أو التقصير أو التفريط أو مخالفة شرط رب المال، [المسئول عما يحدث في البنوك والمؤسسات المالية ذات الشخصية الاعتبارية هو مجلس الإدارة؛ لأنه الوكيل عن المساهمين في إدارة الشركة، والحالات التي يُسأل عنها مجلس الإدارة هي الحالات التي يُسأل عنها مضارب الشخص الطبيعي، فيكون مجلس الإدارة أيضاً مسئولاً أمام أرباب المال عن كل ما يحدث في مال المضاربة من خسارة بتعدٍ أو تفريط، أما إذا لم يكن هناك تعدٍ ولا تفريط، فإن الشركة أو البنك لا يتحمل شيئاً من الخسارة، وعلى المساهمين محاسبة مجلس الإدارة على التعدي أو التقصير] (مسائل متعلقة بشركات المساهمة عن شبكة الإنترنت).
وخلاصة الأمر أنه يجب على المضارب أن يعمل في المال بنفسه ولا يصح أن يعطيه لغيره بدون إذن رب المال، فإن فعل فهو ضامن ويتحمل الخسارة وحده ولا شيء على رب المال، لأنه قد تعدى بإخراج المال من يده إلى يد أخرى لم يأذن لها رب المال بالتصرف، وإن حصل ربح من ذلك فهو لرب المال.
تاريخ الفتوى: 20-8-2009.
حسام الدين عفانه
دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.
- التصنيف:
- المصدر: