حرمة استغلال الوظائف للتعدي على المال العام

منذ 2013-04-24
السؤال:

أرجو أن تبينوا لنا الحكم الشرعي فيما يقوم به بعض الموظفين والمسئولين من استغلالٍ لمناصبهم بالإثراء غير المشروع، والتعدي على الأموال العامة؟

الإجابة:

لا بد أولًا أن نعرف أن المال العام هو: (كل مالٍ ثبتت عليه اليد في بلاد المسلمين، ولم يتعين مالكه، بل هو لهم جميعًا). قال القاضي الماوردي والقاضي أبو يعلى: "كل مال استحقه المسلمون، ولم يتعين مالكه منهم". (الموسوعة الفقهية 8/242).

والأصل في المال العام عند الفقهاء أنه ملك للمسلمين، وليس ملكًا لولي الأمر (الخليفة أو الأمير أو الملك أو الرئيس) ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "" (رواه البخاري)، وفي رواية أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "" (رواه أبو داود وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود)، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: " قوله "" في رواية أحمد عن شريح بن النعمان عن فليح في أوله (واللهُ المعطي) والمعنى لا أتصرف فيكم بعطيةٍ ولا منعٍ برأيي، وقوله (إنما أنا القاسم) أضع حيث أُمرت، أي لا أُعطي أحدًا ولا أمنع أحدًا إلا بأمر الله، وقد أخرجه أبو داود من طريق همام عن أبي هريرة بلفظ (إن أنا إلا خازن)" (فتح الباري 6/218).

وهذا الحديث يؤكد مبدأ أن ملكية المال العام للمسلمين، وليست لولي الأمر، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "" يدل على أنه ليس بمالكٍ للأموال" (منهاج السنة النبوية 4/97).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: "وأما أراضي المسلمين، فمنفعتها حقٌ للمسلمين، وولي الأمر قاسمٌ يقسم بينهم حقوقهم، ليس متبرعًا لهم كالمُعير والمُقْطِع" (الحسبة ص40).

وروى ابن زنجويه عن مالك بن أوسٍ قال: "ذكرَ عمرُ بن الخطاب يومًا الفيء (ما يؤخذ من العدو من مالٍ ومتاعٍ بغير حرب) فقال: "ما لكم أيها الناس لا تكلموا، أما والله ما أنا بأحق بهذا الفيء منكم، وما أحدٌ منَّا بأحق به من أحدٍ، إلا أنَّا على منازلنا من كتاب الله وقسم رسوله صلى الله عليه وسلم، الرجلُ وقِدمه، والرجلُ وبلاؤه، والرجل وعياله، والرجل وحاجته، وما منَّا أحدٌ من المسلمين إلا وله في هذا الفيء حقٌ، أعطيه أو منعه إلا عبدًا مملوكًا، ولئن بقيت ليبلُغنَّ الراعي وهو في جبال صنعاء حقُهُ من فيء الله" (الأموال لابن زنجويه 2/284).

وروى أبو عبيد القاسم بن سلام عن عطية بن قيس قال: "خطبنا معاوية فقال: إن في بيت مالكم فضلًا عن أُعطيتكم، وأنا قاسمٌ بينكم ذلك، فإن كان في قابلٍ (أي العام القادم) فضلٌ قسمناه بينكم، وإلا فلا عتيبة علينا فيه، فإنه ليس بمالنا، إنما هو فيء الله الذي أفاءه عليكم" (الأموال لأبي عبيد 2/84).

وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: "وأما مال بيت المال، فإنما هو مملوكٌ للمسلمين وللإمام ترتيبُ مصارفه" (المغني 6/204).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وليس لولاة الأمور أن يقسموها بحسب أهوائهم، كما يقسم المالك ملكه، فإنما هم أمناء ونواب ووكلاء ليسوا مُلاكًا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "" (رواه البخاري)، (مجموع فتاوى شيخ الإسلام 6/372).

وقال الشوكاني: "بيت المال هو بيت مال المسلمين، وهم المستحقون له" (السيل الجرار 3/333).

وبناءً على ما سبق، فلا يصح ما تتداوله وسائل الإعلام من ألفاظٍ، كتوزيع مكرمةٍ ملكيةٍ، أو رئاسيةٍ أو أميريةٍ، أو توزيع مكرمة الملك أو الرئيس أو الأمير، إلا إذا كانت المكرمة من المال الشخصي للملك أو الرئيس أو الأمير، وأما أن تكون من المال العام فلا، لأن الإنسان يجود ويكرم من ماله الشخصي، ولا يجود بمال غيره.

إذا تقرر هذا فأعود إلى جواب السؤال فأقول:

أولاً: الأصل في الموظف والمسئول صغيرًا كان أو كبيرًا أنه أجيرٌ، والأجير لا بد أن يكون أمينًا، ويدخل في الأمانة، الأمانة في استخدام المال العام، والمحافظة عليه، قال الله تعالى: {} [القصص:26]، ويقول تعالى: {} [النساء: 58]، ويقول تعالى: {} [المؤمنون: 8]، وقال تعالى: {} [الأنفال: 27].

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: "قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟، قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: "" (رواه مسلم).

ثانيًا: دلت الأدلة من كتاب الله عز وجل، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم على حرمة الخوض في الأموال العامة، قال الله تعالى: {} [البقرة: 188]،

وجاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "" (رواه البخاري ومسلم).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "" (رواه مسلم).
وعن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "" (رواه البخاري). قال الحافظ ابن حجر: "قوله "" أي يتصرفون في مال المسلمين بالباطل" (فتح الباري 6/263).

وروى الإمام البخاري بسنده عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا من الأزد يقال له (ابن اللتبية) على الصدقة فلما قدم قال: هذا مالكم وهذا أهدي إليَّ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ""، وحديث ابن اللتبية هذا فيه دلالة واضحة على حرمة استغلال النفوذ والوظيفة والمنصب، وتحريم الثراء غير المشروع بالتعدي على المال العام.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول فعظَّمه وعظَّم أمره قال: "" (رواه البخاري ومسلم).

قال الإمام النووي: "قوله: (ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلول فعظمه وعظم أمره)، هذا تصريح بغلظ تحريم الغلول، وأصل الغلول: الخيانة مطلقًا, ثم غلب اختصاصه في الاستعمال بالخيانة في الغنيمة.

قال نفطويه: "سمي بذلك لأن الأيدي مغلولة عنه, أي محبوسة, يقال: غلَّ غلولًا وأغل إغلالًا"، قوله صلى الله عليه وسلم: ""هكذا ضبطناه (ألفين) بضم الهمزة وبالفاء المكسورة, أي: (لا أجدن أحدكم على هذه الصفة), ومعناه: لا تعملوا عملًا أجدكم بسببه على هذه الصفة، و(الرغاء) بالمد صوت البعير, وكذا المذكورات بعد وصف كل شيء بصوته، والصامت: الذهب والفضة، قوله صلى الله عليه وسلم: "" قال القاضي: "معناه من المغفرة والشفاعة إلا بإذن الله تعالى ، وأجمع المسلمون على تغليظ تحريم الغلول, وأنه من الكبائر, وأجمعوا على أن عليه ردُّ ما غلَّه" (شرح النووي على صحيح مسلم 4/532).

ونقل الحافظ بن حجر العسقلاني عن بعض أهل العلم: "أن هذا الحديث يفسر قوله عز وجل: {} أي يأت به حاملًا له على رقبته"، ثم قال: "ولا يقال إن بعض ما يسرق من النقد أخف من البعير مثلاً والبعير أرخص ثمنًا، فكيف يعاقب الأخف جناية بالأثقل وعكسه؟ لأن الجواب أن المراد بالعقوبة بذلك فضيحة الحامل على رؤوس الأشهاد في ذلك الموقف العظيم لا بالثقل والخفة" (فتح الباري 6/224)، وغير ذلك من النصوص.

وخلاصة الأمر أن حرمة المال العام أشدُّ من حرمة المال الخاص، لكثرة الحقوق المتعلقة به، ولتعدد الذمم المسلمة المالكة له.

وقد قرر الشرع حماية المال العام كما سبق في النصوص من كتاب الله عز وجل ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جعل الفقهاء المال العام بمنـزلة مال اليتيم في وجوب المحافظة عليه وشدة تحريم الأخذ منه، وواجب الموظف أو المسئول المحافظة على المال العام، ويحرم شرعًا استغلال المنصب والوظيفة للتعدي على المال العام، وقرر العلماء أن استغلال المنصب للتعدي على المال العام من كبائر الذنوب.

تاريخ الفتوى: الجمعة 25- فبراير- 2011.

حسام الدين عفانه

دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.