ضابط الإعسار في الديون وفضل إنظار المعسر
أقرضت شخصًا مبلغًا من المال واتفقنا على أجلٍ لقضاء الدين، ولما حلَّ الأجل لم يستطع سداد الديون، وله قطعة أرض فهل يجوز أن أطالبه ببيعها ليسدد ديوني؟
لا بد أن يعلم أن قضاء الديون من الواجبات، والعزم على سداد الديون مطلوب شرعًا بمجرد أن يستدين الإنسان، فقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "" (رواه البخاري).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "" (رواه النسائي وابن ماجة وابن حبان، وهو حديث صحيح، كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2/52).
وعن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "" (رواه ابن ماجة والبيهقي، وقال العلامة الألباني: حسن صحيح. المصدر السابق 2/52).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "" (رواه ابـن مـاجة وصححه العلامة الألباني في المصدر السابق 2/53).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "" (رواه أحمد والترمذي، وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/168).
وتحرم المماطلة على الغني القادر على سداد دينه، وقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "" (رواه البخاري ومسلم).
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: "والمراد هنا تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر، والغني مختلف في تعريفه، ولكن المراد به هنا من قدر على الأداء فأخرَّه ولو كان فقيرًا (فتح الباري 5/371).
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني أيضاً:"وفي الحديث الزجر عن المطل، واختلف هل يُعَدُّ فعله عمدًا كبيرة أم لا؟ فالجمهور على أن فاعله يفسَّق" (فتح الباري 5/372).
وقال الإمام النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم "" قال القاضي وغيره: "المطل منع قضاء ما استحق أداؤه فمطلُ الغني ظلمٌ وحرامٌ" (شرح النووي على صحيح مسلم 4/174-175).
إذا تقرر هذا فأبين أن من لم يستطع قضاء دينه يعتبرًا معسرًا، والإعسار ضد اليسار، وهو في الاصطلاح: (عدم القدرة على النّفقة، أو عدم القدرة على أداء ما عليه بمالٍ ولا كسبٍ) (انظر الموسوعة الفقهية 5/246)، والمعسر يستحق الإنظار كما قال الله تعالى: {} [ البقرة:280]، وهذه الآية عامة في كل معسر كما هو قول جمهور العلماء، قال القرطبي: "وقال جماعة من أهل العلم قوله تعالى: {} عامةٌ في جميع الناس، فكل من أعسر أُنْظر، وهذا قول أبى هريرة، والحسن وعامة الفقهاء.
قال النحاس: "وأحسن ما قيل في هذه الآية قول عطاء والضحاك والربيع بن خيثم، قال: هي لكل معسر يُنظر في الربا والدَّين كله، فهذا قول يجمع الأقوال، لأنه يجوز أن تكون ناسخة عامة نزلت في الربا ثم صار حكم غيره كحكمه،
وقال ابن عباس وشريح: "ذلك في الربا خاصة، فأما الديون وسائر المعاملات فليس فيها نظرة، بل يؤدى إلى أهلها أو يحبس فيه حتى يوفيه، وهو قول إبراهيم"، واحتجوا بقول الله تعالى: {} الآية، قال ابن عطية: "فكان هذا القول يترتب إذا لم يكن فقر مدقع، وأما مع العدم والفقر الصريح، فالحكم هو النَّظِرَة ضرورة" (تفسير القرطبي 3/371-372).
وضابط الإعسار عند الفقهاء هو ألا يجد المدين وفاءً لديونه من أموال نقدية أو عينية كالعقارات والأراضي ونحوها، وقد حدد مجمع الفقه الإسلامي ضابط الإعسار في قراره المتعلق ببيع التقسيط حيث ورد في القرار: "ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار: ألا يكون للمدين مالٌ زائدٌ عن حوائجه الأصلية يفي بدينه نقدًا أو عينًا"، فالمعسر الذي عنده أموال عينية كالأراضي أو العقارات وهي زائدة عن حوائجه الأصلية، يلزمه بيعها لقضاء ديونه، ولا يلزمه أن يبيع بيته الذي يسكن فيه، أو أرضه الزراعية التي يعتاش منها، أو سيارته التجارية التي يشتغل عليها. وينبغي أن يعلم أن إنظار المعسر واجب شرعًا عند الأئمة الأربعة ما دام معسرًا حقيقةً، لقوله تعالى: {} [البقرة:280]، قال ابن كثير في تفسير الآية الكريمة: " يأمر الله تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء، فقال: {} أي لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حلَّ عليه الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي، ثم يندب إلى الوضع عنه، ويعد على ذلك الخير والثواب الجزيل، فقال: {} أي: وأن تتركوا رأس المال بالكلية وتضعوه عن المدين"، (تفسير ابن كثير 1/653).
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل إنظار المعسر وثوابه عند الله تعالى في أحاديث كثيرة منها: عن أبي قتادة رضي الله عنه أنه طلب غريمًا له فتوارى عنه ثم وجده، فقال: إني معسر، قال: آلله، قال: آلله، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "" (رواه مسلم).
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "" (رواه البخاري ومسلم)،
وفي رواية لمسلم وابن ماجة عن حذيفة أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم: "" (التجوز والتجاوز معناهما المسامحة في الاقتضاء والاستيفاء وقبول ما فيه نقصٌ يسير) كما قال النووي في شرح صحيح مسلم 5/409.
وفي رواية للبخاري ومسلم عنه أيضًا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "" (رواه البخاري ومسلم)، وفي رواية للنسائي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ""، وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "" (رواه مسلم).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "" (رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 1/542). وعن أبي اليسر رضي الله عنه قال: "أبصرت عيناي هاتان - ووضع أصبعيه على عينيه - وسمعت أذناي هاتان - ووضع أصبعيه في أذنيه - ووعاه قلبي هذا - وأشار إلى نياط قلبه- رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "" (رواه ابن ماجة والحاكم، وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 1/543).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "" (رواه مسلم).
وخلاصة الأمر أن قضاء الديون من الواجبات، وتحرم المماطلة في قضاء الديون من المدين الموسر، وأما المعسر حقيقة فيجب إنظاره إلى ميسرة كما أمر رب العالمين بذلك، ووردت أحاديث كثيرة في فضل من أنظر معسرًا وتجاوز عنه.
تاريخ الفتوى: الجمعة 26- نوفمبر- 2010.
حسام الدين عفانه
دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.
- التصنيف:
- المصدر: