حبُّه في قلبي يمزقني

منذ 2014-03-20
السؤال:

أنا فتاةٌ قربتُ على إتمام العشرين مِن عمري، من أسرةٍ محافظة، ظاهري أخاف الله، ومصدر ثقة من أهلي، لكني مِن داخلي أستحقر نفسي، ولا أستحق ثقتهم! أنا متفوِّقة دراسيًّا، وعلى مستوًى عالٍ من العلم والثقافة والوعي.

دخلتُ عالم الإنترنت والمنتديات، وأصبحتْ لي علاقةٌ بالعديد مِن الشباب، وجميع مَن تعرفتُ عليهم يكبرني سنًّا، علاقتي بهم جيدة جدًّا، وكل مناقشاتي معهم في مواضيع عامَّة، واستشارات، وضحك ومرح، وكان الكل يُعجَب بي!

حاولتُ أكثر مِن مرة أن أبعدَ عن الإنترنت ولكن ما استطعتُ، تدرجتُ في الحديث حتى ذهَبَ الحياءُ مِن قلبي، فأصبحتْ لي علاقات كثيرة بالشباب، وكثيرًا ما كان الحوارُ يخرج إلى أحاديث غير محترمة! لكني سرعان ما أرجع، وأراجع نفسي، وأتضايق مما أفعل! وما يزيدني ضيقًا أن أهلي يرون فيَّ أهلًا للتقوى، وأهلًا للإيمان، ولكني أراني مُنافقة، وما أفعله مِن صيام وصلاة و... و... رياء!

منذ مدة ليستْ بالبعيدة تعرفتُ على شابٍّ يكبرني، أحببتُه جدًّا، وكانتْ علاقتي به ممتازة، وتطوَّر الحديث بيننا، مِن مكالماتٍ على الهاتف، وعلى الإنترنت، حتى إني أرسلتُ له صوري، فبيننا حبٌّ كبيرٌ، ولكن زواج لا!

قطعتُ علاقاتي بكلِّ مَن كنتُ أكلِّم مِن الشباب مِن أجْلِ ذلك الحبِّ؛ خوفًا مِن أن أكونَ خائنةً له، كثيرًا ما حاولنا أن نَتَخلَّص مِن هذا الحبِّ، ولكننا لم نستطعْ! حدَث أن تدرَّجْنا في الحديث، حتى وصل الحديث بيننا إلى كلامٍ غير سويٍّ، ومن بعدها لم يكلمني، فلا أعلم هل تركني لأجْل ذلك؟ أو لأمر آخر؟

أشعر بذنبٍ كبير، وأخاف الله، فقد لوثتُ نفسي بأفعالي، ولا أستطيع أن أنساه! أخبروني ماذا أفعل؟ فلا أستطيع العيش بدونه، فحبُّه في قلبي يُمَزقني، وألوم نفسي كثيرًا على التفريط فيه، أدعو الله أن يجمعني به في الدُّنيا، وإن لم يكنْ ففي الجنة!

الإجابة:

لا أظن أنَّ الجواب سيختلف باختلاف الأشخاص إن كنتُ قد تشرفتُ بالإجابة عن الرسالة المعنيَّة، وقد يتضمن جوابي عليكِ بعضَ الأحاديث البعيدة عن التعقُّل، النائية عن الحكمة؛ لسابق علمي بقلوب المحبين، وأنها لا تستجيب لنداء العقل، وإن علا صوته، ولا تُنصت لقول الحكمة، وإن قويتْ حجتها، ولكنها تحب الاستماع لأنين القلوب، وتُحسن التعامُل مع خفقات الأفئدة؛ فلا يعجبها إلا كلام العاطفة، ولا يطربها إلا صوت المشاعر، تدقُّ في القلوب، فتملؤها سعادة, وترن في الآذان، فتطير بروحها لأعالي الغمام, هكذا حياتها، وذاك منطقها! لهذا سأحاول أن أجمع لكِ مع حديث المنطق ومبدأ العقل روحَ العواطف، ورائحة المشاعر؛ علها تجد لديكِ رضًا أو تلقى قبولًا.

كنتِ تنجحين في ترْكِ علاقاتكِ بغيره مِن الشباب؛ لخوفكِ الشديد مِن خيانة هذا الحب، ولشعورٍ قاتل كان يعصف بقلبكِ، ويكدر عليكِ حياتكِ بتهديد هذا الحب، ووأد العلاقة التي باتتْ مصدر سعادتكِ الأوحد، وعنوان راحتكِ الحقيقي؛ ولهذا كان يسهل عليكِ التخلي عنها وقت رضاه عليكِ، وتواصلكِ معه، ويشق عليكِ حال ابتعاده عنكِ؛ فهناك عونٌ عاطفي يشدُّ مِن أزركِ، ويعينكِ على أمركِ, وهذه العاطفةُ التي باتت محرككِ الرئيس وموجهكِ الأول لا علاقة لها بحسن تعاملكِ مع الأهل، وكثرة علاقاتكِ بالصديقات, أو حسن ظن الناس بكِ، ولا ثقافتكِ، ومدى اطلاعكِ ولا تفوقكِ الدراسي، ولا تستلزم شعورًا بالنقص في مجال ما، وإنما علاقتها بأمرين رئيسين:

أولا: صلتكِ الحقيقيَّة بالله.
ثانيًا: حاجتكِ الفطرية لوجود رجل في حياتكِ.

أولًا: القُرب من الله، وصِدْق تقواه، تزيل كلَّ وحشة، وتذهب بكلِّ غربة؛ وكان أحدُ الصالحين ينصح سائلًا: عليك بتقوى الله؛ فإن المتقي ليستْ عليه وحشة.

نعم، مَن يأنس بالله لا يعرف قلبه الوحشة، ولا تستشعر نفسُه رهبة, قال ابن القيِّم -رحمه الله-: «من خُلق فيه قوة واستعداد لشيء, كانتْ لذته في استعمال تلك القوة فيه, فلذة من خُلقت فيه قوة الغضب والتوثب استعمال قوته الغضبية في متعلقها, ومن خُلقت فيه قوة الأكل والشرب؛ فلذته باستعمال قوته فيهما، ومن خُلقت فيه قوة العلم والمعرفة، فلذته باستعمال قوته، وصرفها إلى العلم، ومن خُلقت فيه قوة الحب لله, والإنابة إليه, والعكوف بالقلب عليه, والشوق إليه, والأنس به, فلذَّتُه ونعيمه استعمال هذه القوة في ذلك، وسائر اللذات دون هذه اللذة مضمحلَّة فانية, وأحمد عاقبتها أن تكون لا له ولا عليه». ا.هـ من الفوائد بتصرُّف يسير.

وليس بالضرورة أن تعني قوة الصلة بالله كثرة صلاة أو صيام، أو غيرها من الأعمال الصالحة، وإن كانت تُقرب العبد من ربه، وتُهذِّب خلقه، وترقق قلبه بلا شك, لكن قد يكون القلب في وادٍ، والعمل في آخر, وكم يكون الفرق بيِّنًا، والمسافة شاسعة بين ما يؤديه الإنسان من عمل، وما يحويه قلبه من إيمانٍ راسخٍ وعقيدةٍ ثابتة.

فالقلبُ بحاجةٍ لتطهير وتنقية مستمرة، «ومن الناس من يكون حي القلب واعيه، تام الفطرة، فإذا فكَّر بقلبه، وجال بفكره، دلَّه قلبُه وعقلُه على صحَّة القرآن، وأنه الحق، وشهد قلبه بما أخبر به القرآن، فكان ورود القرآن على قلبه نورًا على نور الفطرة...»، إلى آخر كلام ابن القيِّم رحمه الله، والقلبُ هو الموجه الأساسي لعمل الإنسان، وهو المحرِّكُ الأكبر الذي يحدد اتجاهه، ويميِّز طريقه, فمتى حرص الإنسان عليه، وطهره من أدرانه، ونقاه من الآفات، ضمن سلامته؛ يَوْمَ {لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]؛ لهذا عليكِ بتفحص قلبكِ قبل مراقبة عملكِ، وعليكِ بتجديد الإيمان فيه كلما رأيتِ تناقضًا بين العمل الظاهري والباطني, فبصلاحه يصلح كافة عملك، ويستقيم كل أمرك؛ "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، أَلَا وهي القلب".

ثانيًا: قد تكون الفتاة في راحة ونعيم أسري، وقد تشعر ببالغ السعادة مع أهلها, وقد تكون بينهما وبين والدتها أو أخواتها صداقة قويَّة ومحبة بالغة، وقد يكون والدها منبع الحنان، ومصدر الأمان، ولديها من الصديقات أو القريبات ما يكمل هذا الجو الرائع، ويعزِّز في نفسها أجمل معاني العاطفة، وأسمى صور المشاعر، لكن هل يُغني ذلك عن حاجتها الفطرية لوُجود رجل في حياتها؟ هذه فطرة الله التي فطر عليها الذكَر والأنثى، وتلك حكمته التي قضاها عليهم؛ فالميلُ الفطري والحاجة الطبيعية لوجود رجل في حياتك، لا تحتاج لمبرر، ولا تستلزم حرمانًا عاطفيًّا في بيت أهلكِ، أو شعورًا بالوحدة يكدر حياتك، ويضيق أنفاسكِ، ويضطركِ لاستشعار ذلك, لكن تلك الحاجة وإن كانتْ تختلف من فتاة إلى غيرها، لكنها لا تحمل الفتاة في الظروف الطبيعية على ارتكاب المحرم، ولا تلجئها إلى مراسلة الشباب، والتواصل معهم؛ لإرواء هذا الظمأ، وقد بالغتِ في إساءة الظن بنفسكِ، حينما حاولتِ زجرها بالقوة، وتقريعها بما يظن الناس بها من حسن خلق، وفضيلة عالية، وكم نظلم أنفسنا حين نتعامل معها وكأنها ليستْ بشرًا يخطئ ويصيب! وكم نقسو عليها حين نوبِّخ دون تفهُّم لعميق المشاعر، وصادق الإحساس!

تفوُّقكِ الدراسي، ونظرة الناس لكِ، وحرصكِ على الخير، لا تستلزم العصمة، وتجنُّب الخطأ البشري، ولعل هذا ما باعد بينك وبين الرجوع في وقت مبكر؛ فالنفس تشعر ببالغ الإحباط، وبُعد الطريق، وقصر الأمل في الرجوع متى ما دخلنا إليها من مدخل التقريع واللوم الذي لا يفيد بشيء, ومن يخطئ ويتوارى عن أعين الناس خجلًا وحياءً مما يفعل خيرٌ ممن يخطئ ويجاهر، ويفرح أن ظاهره كباطنه! وليس الوقوع في ذنب يعني بالضرورة نفاقًا، بل الستر على النفس خير وأفضل من الجرأة في المعصية والقوة بالباطل؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كلُّ أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه" (صحيح البخاري) .

فالواجبُ عليكِ أن تُبالغي في الستر على نفسكِ، مع العمل على تنقية قلبكِ مما يشوبه من شوائب، وأن تعلمي أنها نفس بشرية ضعيفة بحاجة لقوة داخلية وخارجية؛ والقوة الداخلية لا بد أن تنبعَ من داخل نفسكِ، وذلك بمحاولة التقرُّب إلى الله أكثر، والتعرف عليه بصورة أكبر، والتفكر في الآخرة، وما أعد الله لمن صبر، وكف نفسه عن الرذيلة ونهاها عن الهوى؛ {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41].

وأمَّا القوة الخارجية فتكون بالتعامُل مع مجتمعكِ، والتعرُّف على صداقات تعمل على تقريبكِ من الله، والانغماس معهن؛ كمُحاولة للتغاضي عما يصول ويجول في قلبكِ من مشاعر تجاه هذا الرجل.

أنصحكِ أيضًا بالتفكير العقلي إن استطعتِ! من حيث إنه قد ترككِ الآن، ولم يعد لكِ من خيار في استمرار العلاقة، أو تركها طاعة لله، وإنما قُدِّر عليكِ أن تقاسي ألم فراقه، وكُتِب على قلبكِ أن يُعاني وجع بُعده عنكِ؛ بصرف النظر عن السبب، وسلي نفسكِ: أليس من العبث أن تبقى فتاة دون العشرين بلا زواج؟ أو تظنين أنه بإمكانكِ الارتباط برجل غيره وقلبُكِ معه؟ أو أن حالكِ مِن حال القائل:

تُصرَّفُ أهواءُ القلوبِ ولا أرَى °°° نصيبك مِنْ قلبِي لغيرك يُمنحُ

وَبعضُ الهَوى بِالهَجرِ يُمحى فَيمتَحي °°° وَحُبُّك عِندي يَستَجِدُّ وَيَربَحُ

أبِينُ وشكوَى بالنَّهارِ شديدةٌ °°° عليَّ وما يأتِي بهِ اللَّيلُ أبرحُ؟

أليس من الخطأ أن تحيي بقية عمركِ مع ذكرى لم يعد لها وجود واقعي، أو كيان حقيقي، على أمل اللقاء في الدنيا أو الآخرة؟ أليس من الظلم لقلبكِ أن تذكِّريه في كل لحظة بحبٍّ مات برحيل الحبيب، ولا فائدة ترتجى من تلك الذكرى سوى دقائق يعيشها القلب معه في عالم الخيال، ثم يتعذب ما تبقى من حياته؟

تريدين تفويت فرص الزواج من غيره على نفسكِ، ولا تعلمين من حقيقة أمره إلا أوهام "إنترنتية"، وخيالات غير واقعية؟

لا تُحمِّلي نفسكِ ما لا تطيق، ولا تكرهي قلبكِ على تذكر أو نسيان شخص, بل دعي القلب لمقلبه ومصرفه، واشغلي نفسكِ بما ينفعكِ في دينكِ ودنياكِ, وتذكري أن الكثير من الفتيات يقاسين مثلما تقاسين، أو أكثر أو أقل, وتتألم قلوبهن، وتذرف عيونهن، وتتوجع أنفسهن على قصص حب وهمية، أو حقيقية مضت بلا عودة, فلستِ وحدكِ على درب الحزن، ولست أول من ذابت نفسها في بحور العشق، واكتوى قلبها بنيرانه المستعرة.

نصيحتي الأخيرة لكِ: ألَّا تُذكري نفسكِ به في دعاء، أو صلاة، أو غيرها, وليكن دعاؤكِ للمسلمين عامَّة؛ فإن الحرصَ على تذكير النفس به ولو في الصلاة مما يؤصِّل محبته في قلبكِ، ويمكِّنها من نفسكِ, فإن كنت لا أقدر على نصحكِ بالتخلي عن حبه لاستحالة ذلك عليكِ، فليس أقل مِن ترك ذكره، والتخلي عن الحياة مع شبحه؛ فهي حياةٌ قاسية فيها ذلٌّ ورِقٌّ، وبها ألمٌ وكمد, حياة صبحها دموع، ومساؤها هموم.

ذُلِّيَ في حُبِّكَ ما يُذْكَر °°° وَوَجْدُ قَلْبي بِكَ لا يَفْتُر

أَنْفاسُ قَلْبي رِيحُها عاصِف °°° وَصَحنُ خَدِّي أَبدًا يمطر


ولتكن حياتكِ مع أشخاص واقعيين، لهم عليكِ حقوق وواجبات، ولهم الحق في حُسن صحبتكِ، وجميل خُلقكِ.

لا أجد لديَّ وصفة سحرية تخرجه من قلبكِ إلى الأبد، وإلا لملكتُ ما لا يملكه بشر, ولكن نصيحة ود, وكلمة إشفاق ومحبة لكل فتاة في عمركِ، تفني أجمل أيام شبابها، وتمضي أروع لحظات عُمرها في تحسُّر على ما لن تجده، أو تمسك بأمل لن ترى له خيطًا حقيقيًّا.

وفقكِ الله، وعصم قلبكِ من الزلل، وطهَّره مِن كل ما لا يرضيه، وشغلكِ بما ينفعكِ ونفع بكِ، ويسعدني التواصل معكِ متى شئتِ, والله الموفق، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام