نظرةٌ شرعيةٌ في النقوطُ في الأفراح

منذ 2014-03-23
السؤال:

كما تعلمون فمن عادة الناس النقوطُ في الأفراح، فهل يلزم شرعاً ردُّه أم لا؟ أفيدوني؟
 

الإجابة:

النقوط هو ما يُهدى في الأعراس خاصةً، وفي الأفراح والمناسبات السعيدة عامةً، كبناء بيتٍ جديدٍ أو النجاح في التوجيهي أو في الجامعة أو عند الولادة ونحوها. والنقوطُ من العادات والأعراف الحسنة في المجتمع، وهو معروفٌ قديماً، ولا زال العملُ به جارياً في كثيرٍ من المجتمعات في وقتنا الحاضر، وللنقوط أثرٌ طيبٌ في التكافل الاجتماعي، وخاصةً في الأعراس، حيث يُسهم النقوطُ في مساعدة العرسان على تلبية متطلبات الزواج المادية. والنقوطُ شرعاً يندرجُ تحت الهبات والهدايا والصدقات والعطايا، وهذه الألفاظ متقاربة في المعنى، فالهبةُ هي تمليكُ المال بلا عوضٍ في الحال، وتكون للتوددِ والمحبةِ غالباً، والهديةُ هي المال الذي أُتحفَ به وأُهديَ لأحدٍ إكراماً له، والصدقةُ تمليك مالٍ بلا عوض طلباً لثواب الآخرة، والعطيةُ كالهبة إلا أنها أعمُّ من الهبة والصدقة والهدية، فالهبةُ والهديةُ والصدقةُ والعطيةُ أنواعٌ من البر، يجمعها تمليكُ العين بلا عوضٍ. انظر الموسوعة الفقهية 42/120. وقد وردت الأدلةُ الشرعيةُ على فضيلة ذلك كله، قال تعالى: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} [سورة النساء الآية 4]. وقال تعالى في قصة ملكة سبأ: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [سورة النمل الآية 35]. وصح في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلُ الهدية ويُثيبُ عليها» (رواه البخاري). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أُهـديـت إلـيَّ ذراعٌ لقبـلتُ، ولو دُعيتُ إلى كُراعٍ لأَجبتُ» (رواه البخاري)، والمقصود ذراع الشاة، والكراعُ ما دون الرُّكبة إلى الساق من نحو شاةٍ أو بقرة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تهادوا تحابوا» (رواه البخاري في الأدب المفرد، والبيهقي في السنن، وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل6/44). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا نساء المسلمات، لا تحقرنَّ جارةٌ لجارتها ولو فرسن شاة» (رواه البخاري ومسلم). والفرسن: الظلف. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أهدت أم حفيدٍ خالة ابن عباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم إقطاً وسمناً وأَضبَّاً -جمع ضبٍّ وهو حيوانٌ- فأكلَ النبيُ صلى الله عليه وسلم من الإقط والسمن، وترك الأَضبَّ تقذراً، قال ابن عباس: فأُكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان حراماً، ما أُكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم) (رواه البخاري). قال الحافظ ابن عبد البر: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية وندب أمته إليها، وفيه الأسوة الحسنة به صلى الله عليه وسلم. ومن فضل الهدية مع اتباع السنة أنها تورث المودة وتذهب العداوة على ما جاء في حديث مالك وغيره مما في معناه. . . عن أبي هريرة عن النبي رضي الله عنه أنه قال: «تهادوا، فإن الهدية تذهب وَحَرْ الصدور» [فتح المالك بتـبـويـب الـتـمـهيـد عـلى مـوطـأ مالك9/358-359] وأما التكييف الفقهي للنقوط شرعاً، فقد اختلف الفقهاء في ذلك، فمنهم من اعتبره قرضاً يجب سدادُهُ مستقبلاً، وهو قول المالكية والشافعية والحنابلة. وقال الرملي والبلقيني من فقهاء الشافعية النقوط هبةٌ لا تُردُّ. وقال الحنفية المرجع في تكييف النقوط يعود لعرف الناس وعادتهم. قال الشيخ القرافي المالكي: [والعادة في هدية العرس والولائم للثواب]الذخيرة6/276. وقال الشيخ عليش المالكي: قال[الباجي ما جرت به عادة الناس ببلدنا من إهداء الناس بعضهم إلى بعض الكباش وغيرها عند النكاح، فقد قال ابن العطار إن ذلك على الثواب، وبذلك رأيت القضاء في بلدنا] منح الجليل شرح مختصر خليل عن الشاملة. وقال الشيخ سليمان الجمل الشافعي: [وفي آخر فتاوى البلقيني: أن النقوط لا رجوع به اهـ والظاهر في النقوط الرجوع خلافاً للبلقيني اهـ أقول في العُباب في آخر باب القرض ما نصه:

خاتمة: النقوطُ المعتادُ في الأفراح، أفتى الباني والأزرق اليمني أنه كالقرض يطلبه متى شاء. وأفتى البلقيني بخلافه] حاشية الجمل على المنهج لزكريا الأنصاري8/531. وقال الشيخ ابن حجر المكي الشافعي وقد سئل: [ما حكم النقوط المعتاد في الأفراح هل يُرجع به أم لا؟ فأجاب بقوله: الذي أفتى به النجم البالسي وغيره، أنه كالقرض يطلبه هو ووارثه، وخالف في ذلك البلقيني. . . والأوفق بكلامهم ما أفتى به البلقيني] فتاوى ابن حجر الهيتمى2/278. وقال المرداوي الحنبلي: [قال الكمال الدميري في شرحه على المنهاج في النقوط المعتاد في الأفراح: قال النجم البالسي: إنه كالدَّين لدافعه المطالبة به، ولا أثر للعرف في ذلك. فإنه مضطرب. فكم يدفع النقوط ثم يستحق أن يطالب به؟] الإنصاف 8/315. [وذهب الحنفية إلى أن الذي يحكم النقوط هو العرف والعادة، فإن كان العرفُ السائدُ يعتمد أن النقوط قرض، كان حكمه حكم القرض، وعلى من أخذه أن يردَّه في مثل مناسبته، سواءً بقيمته أو بمثله، فإن زاد في ردِّه كان قرضاً جديداً له، يُسدُّ له في مناسبته القادمة، وأما إن كان العرف القائم يعتبر النقوط هديةً مجردةً، فلا سدادَ فيه لأنه هديةٌ مجردةٌ] أحكام الهدايا ص130. وقال ابن طولون الحنفي [النقوط المعتاد من الناس في الأفراح هل يجب ردُّه أم لا؟ أجاب النجم البالسي: أنه كالدَّين، لدافعه أن يطالب به القابض، ولا أثر للعرف في ذلك، لأنه مضطربٌ، فكم من امرئٍ يدفع النقوط ثم يستحي أن يُطالب به. . . وقوله العرفُ مضطربٌ: لم أعرف معناه، فإن عرف بلادنا متفقٌ على القابض لا يطالب، بل صاحب الوليمة إذا وقع لمن نقط عنده لهم كافأه، وهو إلى الهدية أقرب من كل شيءٍ] فص الخواتم فيما قيل في الولائم ص6. وما قاله الحنفية هو الراجح، وهو مقتضى العرف في بلادنا، فإن من الناس من يُسجل ما يُدفع لهم من النقوط في الأفراح ليسددوه مستقبلاً، ومن الناس من يدفعُ النقوط على أنه هبةٌ لا يقصد الإثابة عليها. ومنهم من يدفعهُ على سبيل الصدقة المطلقة، ومنهم من يدفعهُ على سبيل الزكاة إن كان المدفوع له من مستحقيها. ومن المعلوم أن العرف السائد له اعتبارٌ في الشرع كما قال الشيخ ابن عابدين: والعرفُ في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار. رسالة ”نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف”رسائل ابن عابدين2/112. فالعادة مُحَكَّمةٌ، والمعروفُ عرفاً كالمشروط شرطاً، واستعمالُ الناس حجةٌ يجب العمل بها. فالأفضل في رأيي هو سداد النقوط مستقبلاً، عملاً بما صح في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقبلُ الهديةَ ويُثيبُ عليها» (رواه البخاري). وعن ابن عباس رضي الله عنهما (‏أن أعرابياً وهب للنبي صلى اللّه عليه وسلم هبةً، فأثابه عليها)‏‏ (رواه أحمد والترمذي، ‏وصححه العلامة الألباني). قال الشوكاني: [قوله‏: ‏‏(‏ويثيب عليها‏)‏ أي يُعطي المُهدي بدلَها، والمراد بالثواب المُجازاة، وأقلُّهُ ما يساوي قيمة الهدية، ولفظ ابن أبي شيبة(ويثيب ما هو خيرٌ منها)] نيل الأوطار11/179.


وخلاصة الأمر أن النقوطُ من العادات والأعراف الحسنة في المجتمع، وله أثرٌ طيبٌ في التكافل الاجتماعي، وأن النقوطَ شرعاً يندرجُ تحت الهبات والهدايا والصدقات والعطايا، وهذه الألفاظ متقاربةٌ في المعنى، وقد وردت الأدلة الشرعية بفضيلتها، وأن التكييف الفقهي للنقوط شرعاً، محلُّ خلافٍ بين الفقهاء، فمنهم من اعتبره قرضاً يجب سدادُهُ مستقبلاً، ومنهم من اعتبره هبةً لا تُردُّ. وعند الحنفية المرجع في تكييفه يعود لعرف الناس وعادتهم. وهو الراجح، والأفضل في رأيي هو سداد النقوط مستقبلاً، عملاً بما صح في الحديث أن النبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلُ الهديةَ ويُثيبُ عليها. والله الهادي إلى سواء السبيل.

 

حسام الدين عفانه

دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.