المصالح العظيمة في تعدّد الزواجات لكل من المرأة والرجل

منذ 2014-04-25
السؤال:

السؤال: تزوَّجت منذ 6 سنوات، وتحدث لي إجهاضات متكرِّرة، ولم أُرزق بالأبناء، وفاجأني زوجي بأنَّه ينوي الزَّواج؛ وذلك لإرضاء أبويْه اللذين أصرَّا عليْه، وهما اللَّذان عرضا عليْه فِكْرة الزَّواج وهو مكره.

ولكني امرأة لا أستطيع العيشَ معه لو تزوَّج عليَّ، وقد جُنَّ جنوني وكدت أفقد عقلي - لولا لطف الله - عندما عرض عليَّ الموضوع، وفي الحقيقة هو لم يسعَ للبحث عن العِلاج بصورة مستمرَّة طلبًا للإنْجاب، وقد ترك موضوع الزواج من أجلي، ولكنَّه يَخاف أن يلحقه إثْم لعدم إرضاء أبويه.

فهل يعتبر عاقًّا لوالديه إذا لم يلبِّ لهما مطلبهما؟

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فإن كان الحال كما ذكرتِ، فزوْجُكِ لا يعتبرُ عاقًّا لوالديْه لعدم طاعتِهما في الزَّواج الثاني، وقد سبق أن أصدرْنا فتاوى، بيَّنَّا فيها أنَّ طاعة الوالدين ليستْ مُطْلقة، وإنَّما هي مقيَّدة بالمعروف، فيرجى مراجعتها: "أبي يأمرني بنزع الحجاب، ومحادة رب الأرباب"، "طاعة الزوجة لوالديها في العمل"،  "حكم طاعة الوالد في العمل في جهة لا يرغبها الابن"
وبالرجوع لتلك الفتاوى، يتبيَّن أنَّه ليس للوالدَيْن إرْغام الابن على الزَّواج الثَّاني، ولكن الابن إن فعلَ ذلك من باب البِرِّ بوالديْه وتطْييب خاطرهِما، فهو أولى، إلاَّ أن يترتَّب على هذا الزواج مَحاذير شرعيَّة، وراجعي فتوى: "الزواج من متزوج".

وننبِّه السائلة الكريمة إلى أنَّ الشَّرع الحنيف قد أحلَّ للرجل أن يتزوَّج بأكثرَ من امرأة، إذا علِم من نفسِه قدرةً على واجبات التعدُّد، وعلى العدْل بين الزَّوجات، وهو حُكمُ الله في مُحكَم كتابِه؛ حيث قال – سبحانه -: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3]، والله يحكم سبحانه لا معقِّب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل؛ {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} [الملك: 14].

وعلى المؤمن العاقل الرَّشيد الانقِياد لدين الله القويم، وشرعه الحكيم غيرَ معترضٍ ولا متردِّد؛ فالله - جلَّ وعلا - يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً} [الأحزاب: 36].

وفي تعدُّد الزَّوجات ما لا يخفى من الحكم الجليلة، والمزايا العظيمة:
فمنها: أنَّ كثيرًا من الرِّجال لا يكْتفون بزوجةٍ واحدة، وتعْسير الزَّواج الثَّاني عليهم - كما هو التوجُّه العام لأكثرِ المسلمين - يفتح عليهم أبْواب الرذيلة والانحراف، والانجراف إلى مستنقعٍ آسن، إن كان الرَّجل عنده رقَّة في دينه.

ومنها: أنَّ الإحصائيَّات قد دلَّت على أنَّ أعداد النِّساء في ازْدياد، وأعداد الرِّجال في تناقُص، فلو اقتصر كلُّ رجل على زوجةٍ واحدة، لبقي كمٌّ هائل من النساء لا يجدْن زواجًا شرعيًّا، في هذا العالم المضطرِب بالمغريات المضلات، والمليء بالفِتن المهْلِكات، والطَّافح بالشهوات الجامحات، مع قلَّة الوازع الديني والأخلاقي، فيخشى من وقوع النِّسوة بين براثن الذِّئاب الآثمة والرَّذيلة المنحطَّة.
ومن ثَمَّ؛ أباح الإسلام للرَّجُل الزواج بأكثرَ من واحدةٍ إلى أربع نسوة، بشرْط أن تتوفَّر قدرته الماليَّة والبدنيَّة، وبشرْط ألاَّ يَخشى عدَم العدْل إذا جَمع بين أكثرَ من امرأة؛ قال سبحانه: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3].

قال ابن كثير في تفسيره: "فمن خاف من ذلك، فليقتصِر على واحدة".

وقال ابن العربي المالكي في "أحكام القرآن": "فإذا قدَر الرَّجُل من ماله ومن بِنيتِه على نكاح أرْبع، فليفعل، وإذا لم يَحتمل مالُه ولا بِنيتُه في الباءة ذلك، فليقتصِر على واحدة".

هذا؛ قد ذكر العلامة محمد الأمين الشنقيطي في "أضواء البيان" طرفًا من الحِكَم الباهرة لتعدُّد الزوجات عند قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، حيث قال: "ومِن هَدْي القرآن للتي هي أقوم: إباحتُه تعدُّدَ الزوجات إلى أربع، وأن الرجل إذا خاف عدم العدل بينهن، لزمه الاقتصار على واحدة، ولا شك أن الطريق التي هي أقومُ الطرق وأعدلها هي إباحة تعدد الزوجات؛ لأمور محسوسة يعرفها كلُّ العُقَلاء:

منها: أن المرأة الواحدة تحيض وتمرض وتنفس، إلى غير ذلك من العوائق المانعة من قيامها بأخص لوازم الزوجية، والرجل مستعدٌّ للتسبب في زيادة الأُمة، فلو حُبِس عليها في أحوال أعذارها، لعطلت منافعه باطلاً في غير ذنب.

ومنها: أن الله أجرى العادة بأن الرجال أقلُّ عددًا من النساء في أقطار الدنيا، وأكثر تعرضًا لأسباب الموت منهن في جميع ميادين الحياة، فلو قُصِر الرجل على واحدة، لبقي عدد ضخم من النساء محرومًا من الزواج، فيضطرون إلى ركوب الفاحشة؛ فالعدول عن هدي القرآن في هذه المسألة من أعظم أسباب ضياع الأخلاق، والانحطاط إلى درجة البهائم في عدم الصيانة، والمحافظة على الشرف والمروءة والأخلاق، فسبحان الحكيم الخبير! {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [فصلت: 1].

ومنها: أن الإناث كلَّهن مستعدات للزواج، وكثير من الرجال لا قدرة لهم على القيام بلوازم الزواج؛ لفَقْرِهم، فالمستعدون للزواج من الرجال أقل من المستعدات له من النساء؛ لأن المرأة لا عائق لها، والرجل يعوقه الفقر، وعدم القدرة على لوازم النكاح، فلو قصر الواحد على الواحدة، لضاع كثير من المستعدات للزواج أيضًا بعدم وجود أزواج، فيكون ذلك سببًا لضياع الفضيلة وتفشي الرذيلة، والانحطاط الخُلقي، وضياع القيم الإنسانية - كما هو واضح - فإن خاف الرجل ألاَّ يعدل بينهن، وجب عليه الاقتصار على واحدة، أو ملك يمينه؛ لأن الله يقول: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90] الآية، والميل بالتفضيل في الحقوق الشرعية بينهن لا يجوز؛ لقوله تعالى: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129]، أما الميل الطبيعي بمحبة بعضهن أكثر من بعض، فهو غير مستطاع دفعه للبشر؛ لأنه انفعال وتأثُّر نفساني، لا فعل، وهو المراد بقوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاءِ} [النساء: 129] الآية، وما يزعمه بعض الملاحدة من أعداء دين الإسلام، من أن تعدد الزوجات يلزمه الخصام، والشغب الدائم المفضي إلى نكد الحياة؛ لأنه كلما أرضى إحدى الضَّرَّتين سَخطت الأخرى، فهو بين سخطتين دائمًا، وأن هذا ليس من الحكمة - فهو كلام ساقط، يظهر سقوطه لكل عاقل؛ لأن الخصام والمشاغبة بين أفراد أهل البيت لا انفكاك عنه البتة، فيقع بين الرجل وأمه، وبينه وبين أبيه، وبينه وبين أولاده، وبينه وبين زوجته الواحدة، فهو أمر عادي ليس له كبير شأن، وهو في جنب المصالح العظيمة التي ذكرنا في تعدد الزوجات - من صيانة النساء، وتيسير التزويج لجميعهن، وكثرة عدد الأمة لتقوم بعددها الكثير في وجه الإسلام - كلا شيء؛ لأن المصلحة العظمى يُقَدَّم جلبُها على دفع المفسدة الصغرى.

فلو فرضنا أن المشاغَبة المزعومة في تعدد الزوجات مفسدة، أو أن إيلام قلب الزوجة الأولى بالضرة مفسدة - لقُدِّمت عليها تلك المصالح الراجحة التي ذكرنا، كما هو معروف في الأصول؛ فالقرآن أباح تعدُّد الزوجات لمصلحة المرأة: في عدم حرمانها من الزواج، ولمصلحة الرجل: بعدم تعطُّل منافعه، في حال قيام العذر بالمرأة الواحدة، ولمصلحة الأمة: ليكثر عددها، فيمكنها مقاومة عدوها؛ لتكون كلمة الله هي العليا، فهو تشريع حكيم خبير، وهو أمر وسط بين القلة المفضية إلى تعطل بعض منافع الرجل، وبين الكثرة التي هي مظنة عدم القدرة على القيام بلوازم الزوجية". اهـ. باختصار بسيط.

هذا؛ والله أعلم.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام