العصمة الزوجية إذا كانت بيد المرأة وحكم الزواج بلا ولي
عمري 35 سنةً، تعرَّفتُ على امرأةٍ مطلَّقة ومنتهِية العدَّة، عمرُها قريب من عمري، والدُها متوفَّى، أردْنا الزواج وطلبتُ منْها أن يكونَ أخوها هو الوليَّ في العقْد، وهو أكْبر منْها، ولكنَّها رفضت، وبالفِعْل تمَّ عقْد زواجٍ بيْني وبيْنها على يد أحد الأساتذة المدرِّسين الشرعيين، لم يكن موجودًا في المجلس إلاَّ أنا والشَّيخ وشاهد آخر، وحينها طلبتْ منِّي أن تكونَ العِصْمة بيدِها، وأنا وافقتُ أمام الشَّاهدين؛ ولكِن عندما تبادلْنا الألْفاظ في الإيجاب والقبول لَم نذكر شيئًا عن العِصمة، وإنَّما عقْد عادي بدون شروط، بعْدها بقليلٍ قام الشَّيخ بِكتابة ورقة وكتَب فيها: "إنَّه قد تمَّ عقْد زواج فلان على فلانة، بشرط أن يكونَ أمرُها بيدِها، تُطلِّق نفسَها متى شاءت إلى حين تثْبيت العقْد في المحكمة الشرعيَّة".
وتمَّ الزَّواج وتمَّت المساكنة بيْننا، بعد حوالي ستَّة أشهُر قامت بيْننا مشكلة، فأعْلمتْني أنَّها قد قالت لنفسِها جهرًا: "طلَّقتُ نفسي منه"، فأتيتُ إليْها وقلتُ لها: إنَّ الطَّلاق في هذه الحالة يكون رجْعيًّا، وراجعْتُها قولاً وفِعْلاً، وعُدْنا لِحياتنا الزوجيَّة إلى أن قامتْ مرَّة أُخرى بالطَّلاق، بأنْ قالت: "أنت يا زوجي طالقٌ بالثلاثة"، فقلت لها: راجعتُك، فقالت: "وأنا طلَّقتُك أخرى"، ولعدَّة مرَّات، فقمتُ أنا برَفْعِ دعوى في المحْكمة الشرعيَّة أُثْبِت فيها زواجي منْها؛ ولكنَّها رفضت التَّثبيت في المحكمة.
بعد فترةٍ من الخِلاف، رجعْنا إلى المكالَمات الهاتفيَّة وعُدنا لبعضِنا، بعد أن قامت هي بالاتِّصال بأحَد المُحامين مِن أقاربِها فأفْتاها بأنَّ هذا الشَّرط في العقْد غيرُ صحيح، وأنَّها ما زالت زوْجتِي.
عُدْنا لحياةٍ زوجيَّة دامت سنةً تقريبًا، تمَّ فيها إعلام أخيها بزواجِنا، ومعظم أهلها، وصاروا على علم بِهذا الزَّواج.
وفي رأْس السنة 2009 أخْبرتنِي بأنَّها حامل، وفي 1/1/2009 كنتُ عندها صباحًا، وقامت بالاتِّصال بأخيها، وقالت له: زوْجي عندي، تعال لتتناوَل معنا القهوة، وفعلاً أتى أخوها، وقُمْتُ بفَتْحِ باب البيْت له، وهو على علمٍ بأنِّي زوْجُها طبعًا، وجلسْنا قليلاً من الوقْت.
وبعد عدَّة أيَّام حصل بيْننا خلاف، فقامت إحْدى صديقاتِها بالاتِّصال بأحَد المشايخ وأخبرتْه بقصَّتنا، فقال لها إنها ليستْ زوْجتي، فقُمت أنا بالاتِّصال بعدَّة مشايخ، وصار كلُّ واحدٍ يُعطيني جوابًا غيرَ الأوَّل:
• فمنْهم مَن قال لي: أصلاً لا عِصمة للمرأة في المذْهب الشَّافعي، فهي زوجتُك الآن.
• ومنهم مَن قال لي: الطَّلاق من المرأةِ لا يكون رجعيًّا؛ بل بائنًا بينونة صغرى، وأنَّها لا تحلُّ لي إلاَّ بعد عقد جديد ومهر.
• ومنهُم مَن قال: إنَّ الطَّلاق الأوَّل رجْعي، وهي عادتْ لِعِصْمتك من الطَّلاق الأوَّل، والعِصْمة صارت بيدِك.
• ومنهُم مَن قال: إنَّه من الطَّلاق الأوَّل بائنة، ولكنَّ المُساكنة والشُّهود من أهلِك وأهْلِها كان عبارةً عن عقْدٍ، وخصوصًا أنَّنا عندما نَجتمع بأُناسٍ غُرباء - رجال ونساء - كنَّا نعرِّفهم ببعضنا فتقول لهم: زوجي فلان، وأنا أقول: زوْجتِي فلانة، وأخوها يزورُنا وتقول له: زوْجِي عندي.
• ومنهُم مَن قال: إنَّ العصمة صارتْ بيدي من يوْم أن تقدَّمْتُ بِدعوى للمحْكمة الشرعيَّة بتثْبيت العقْد، وأنَّها هي التي رفضتْ؛ لأنَّنا كتبْنا في العقْد: أنَّه إلى حين تثبيت العقْد بالمحكمة الشَّرعيَّة، ولم نقُل إلى حين صدور قرارٍ منَ القاضي بتثْبيتِه، فهو قد ثبتَ بالمَحكمة، من يوم أن تقدَّمتُ بالطَّلب لِلمحكمة وأخبرْتُهم بالعقد.
• ومنهُم مَن قال لي: أنْ أُثبت العقد بالمحْكمة، وبِمجرَّد صدور حكمٍ من القاضي تُصْبِح زوْجتي، والآنَ أنا قد قُمْتُ بتجْديد الدَّعْوى بِالمحْكمة لتثْبيت العقْد.
• ومنهُم مَن قال: إنَّها في المرَّة الثَّانية قالت: طلَّقتُك يا زوْجي، ولَم تقُل: طلَّقتُ نفسي، وهذا يعني لا شيء.
أفتوني، جزاكم الله خيرًا.
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فنقول أوَّلاً: إنَّ ما جرى بيْنك وبين هذه المرأة لا يعتبر نكاحًا؛ إذْ من شروط صحَّة النِّكاح وجود وليٍّ للمرأة؛ وكلُّ نكاحٍ بدون إذْن وليِّ المرأة هو باطل؛ كما جاء في حديث عائشةَ - رضِي الله عنْها - مرفوعًا: « ».
وأيضًا فالظاهر من كلامكَ: أنه لم يكن موجودًا إلا شاهد واحد، والشرط الثاني في عقد النكاح هو وجود شاهدين عدل؛ كما هو مذْهب الجُمهور.
وراجع الحكم مفصَّلاً في الفتويين: "إطلاق صفة "بِكْر" على امرأة "ثَيِّب" في عقد النكاح"، "حكم زواج السر".
وإن وقع النِّكاح بلا وليٍّ، فإنَّ العُلماء اتَّفقوا على أنَّه يأخُذ بعْضَ أحْكام النِّكاح الصَّحيح؛ للشُّبهة فيه، ومن ذلك: لحوق النَّسب، والفسْخ بالطلاق، ونحوه، وقد نصَّ جُمْهُورُ أهل العلم القائلون بأن الولي شرط في النكاح: على وجوب فَسْخِ النِّكاح بلا وَلِيٍّ قَبْلَ الدخول وبعده، وأنه لا يترتب عليه حَدٌّ؛ لِشُبْهَةِ العقد، والقاعدة: أن الحدود تدرأ بالشبهات؛ وأما عقوبته في الآخرة فيحسب معرفته فإن كان جاهلاً والله يعلم منه أنه لو علم أنه محرم لم يقدم عليه، فهذا يعذر بجهله، وإن كان متلاعبًا يستثمر خلاف العلماء في تحقيق شهوته فهو مُتَهدَّد ومتوعَّد، وراجع فتوى: "دفاعًا عن المفتي!".
وقد سُئِل شيخ الإسلام ابن تيمية عمَّن تزوَّج امرأةً بلا وليٍّ ولا شهود، فذكر أنَّ هذا النكاح باطل باتِّفاق الأئمَّة، ثم قال: "لكنْ إذا اعتقدا هذا نكاحًا جائزًا، كان الوطْءُ فيه وطءَ شبهةٍ، يلحق الولد فيه، ويرث أباه، أمَّا العقوبة، فإنَّهما يستحقَّانِها على مثل هذا العقد". اهـ. يعني العقوبة في الدنيا.
أمَّا العِصمة في الزواج، فتكون بيد الرَّجُل؛ لأنَّ الله جعل له القوامة، وكلَّفه بالإنْفاق عليْها، وبالمهر ونحوه؛ قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]، ومِن لوازم هذا: أن تكونَ العِصْمة بيده، إن شاء أمسك وإن شاء طلَّق؛ ولقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49]، وقوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 131]، فحق الطلاق للزوج فحسب؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « »؛ رواه ابن ماجه؛ لأنَّ الرَّجُل - في غالب الحال - أعقل من المرْأة، وأضْبط لعواطفِه وانفعالاته، وأدْرى بالتَّبِعات التي تترتَّب على الطلاق، وقد أفاض ابنُ القيِّم في بيان حِكْمة التَّشريع في جعْل الطَّلاق بِيَد الرَّجُل، وذلك فى كتابه "زاد المعاد"، وكذلك الشنقيطي في "أضواء البيان" عند قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].
قال ابن رشد: "لأنَّ العلَّة في جعْل الطَّلاق بأيدي الرِّجال دون النساء هو لِنُقصان عقلِهنَّ، وغلبة الشَّهوة عليهنَّ، مع سوء المعاشرة"؛ "بداية المجتهد".
ومع كوْن الطَّلاق حقًّا للرِّجال، فقد أجاز بعضُ العُلماء تفويضَ الزَّوجة في تطليق نفسِها متى شاءت، قال في "فقه السنة": "الطَّلاق حقٌّ من حقوق الزَّوج، فله أن يطلِّق زوجتَه بنفسه، وله أن يفوِّضَها في تطْليقِ نفسِها، وله أن يوكِّل غيرَه في التَّطْليق، وكلٌّ منَ التَّفويض والتَّوكيل لا يُسْقِط حقَّه، ولا يَمنعه من استِعْماله متى شاء، وخالفَ في ذلك الظَّاهريَّة، فقالوا: إنَّه لا يَجوزُ للزَّوج أن يفوِّض لزوجتِه تطليقَ نفسها، أو يوكل غيرَه في تطليقها؛ لأنَّ الله - تعالى - جعل الطَّلاق للرجال لا للنساء".
فعلى ما سبق يتبين: أن الأصل: كون الطلاق بيد الرجل لا غيره، وهو الذي يُوقعه متى شاء، ولا تكون العصمة بيد الزوجة إلا بتفويض من الزوج، وهذا التفويض إما أن يكون قبل العقد، أو بعده:
فإذا كان بعد العقد، فأكثر الفقهاء على جوازه، وقيدوه بمجلس التفويض.
وأما إن كان قبل العقد، فلا يصح عند أكثر الفقهاء؛ لأنه مخالف لمقتضى عقد النكاح الذي يجعله حقًّا خالصًا للزوج، وأجاز الحنفية جعل العصمة بيد المرأة، في حال ابتدأت به المرأة فقالت: زوجت نفسي منك على أن يكون أمري بيدي، فقال الزوج: قبلت.
وعلى الراجح من قول أكثر الأئمة؛ فالصورة الواردة في السؤال لا تعد زواجًا صحيحًا، وإنما هو نكاح فاسد، ولا يصححه ما تفعلونه من إخبار المحيطين بكم بأنكما زوجان، أو كون أخي المرأة يزورُكما متوهمًا زواجكما؛ ولذلك فكل ما ترتب على هذا النكاح من طلاق، وجعل العصمة بيد المرأة فهو باطل أيضًا.
وعلى الأخ السائل إن أراد الحياة مع تلك المرأة، فليتزوجها زواجًا شرعيَّا صحيحًا بالشروط والأركان الواردة في الفتاوى المحال عليها
والله أعلم.
خالد عبد المنعم الرفاعي
يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام
- التصنيف:
- المصدر: