المسؤولية الجنائية للطفل

منذ 2014-05-23
السؤال:

ما الحكم الشرعي في جناية طفل دون العاشرة من عمره واعتداءه على نفسٍ بالقتل أو إتلاف عضوٍ كقلع العين؟

الإجابة:

لا بد أن أذكر أولاً ما يتعلق بالأهلية حتى تتضح لنا المسؤولية الجنائية للطفل، فقد قرر الأصوليون المراحل التي يمر بها الإنسان منذ تخلقه جنيناً حتى وفاته، وما يثبت له أو عليه من أحكام شرعية، فالأهلية هي الصلاحية، وهي نوعان: أهلية الوجوب، وأهلية الأداء. فأهلية الوجوب هي: صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه، وشرط ثبوتها للإنسان الحياة. وأهلية الأداء هي: صلاحية الإنسان لصدور الفعل منه على وجهٍ يعتدُّ به شرعاً. وشرطها الأساس: التمييز، فإذا كان الإنسان مميزاً اعتدَّ الشرعُ بأقواله وأفعاله في الجملة. وجعل الأصوليون حياة الإنسان بالنسبة للأهلية خمس مراحل أساسية، وهي:

(1) مرحلة ما قبل الولادة، أي حين يكون جنيناً في بطن أمه.

(2) مرحلة الطفولة والصغر، أي بعد انفصاله عن أمه، وقبل بلوغه سن التمييز.

(3) مرحلة التمييز، أي من حين بلوغه سن التمييز إلى البلوغ.

(4) مرحلة البلوغ، أي بعد انتقاله من سن الصغر إلى سن الكبر.

(5) مرحلة الرشد، أي اكتمال العقل.

وكل مرحلةٍ من هذه المراحل الخمس لها أحكام خاصة تتعلق بها، ولا يتسع المقام للحديث عنها، ولكن أذكر ما يتعلق بمرحلتي الطفولة والتمييز كما يلي:

المرحلة الثانية: تبدأ مرحلة الطفولة من حين انفصال الجنين عن أمه حياً، وتمتد إلى سن التمييز، وهو سن السابعة من العمر على وجه التقريب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع…» (رواه أحمد وأبو داود والدارقطني والحاكم والبيهقي، وهو حديثٌ صحيحٌ كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 1/266). ففي هذه المرحلة تثبت للمولود الذمة الكاملة، فيصير أهلاً للوجوب له وعليه، وفي ذلك تفاصيل مذكورة في كتب أهل العلم.

وأما مرحلة التمييز وتبدأ ببلوغ الصبي سبع سنين، وهو سن التمييز كما حدده جمهور الفقهاء، وتنتهي بالبلوغ، فتشمل المراهق وهو الذي قارب البلوغ. ففي هذه المرحلة يصبح عند الصبي مقدارٌ من الإدراك والوعي يسمح له بمباشرة بعض التصرفات، فتثبت له أهلية الأداء القاصرة؛ لأن نموه البدني والعقلي لم يكتملا بعد، وبعد اكتمالهما تثبت له أهلية الأداء الكاملة؛ لأن أهلية الأداء الكاملة لا تثبت إلا باكتمال النمو البدني والنمو العقلي، فمن لم يكتمل نموه البدني والعقلي معاً، أو لم يكتمل فيه نمو أحدهما فأهلية الأداء فيه تكون قاصرة. وللتمييز أثره في التصرفات، فالتصرفات التي يباشرها الصبي المميز، إما أن تكون في حقوق الله تعالى، وفي هذه الحالة إما أن تكون تلك الحقوق عبادات وعقائد، أو حقوقاً مالية، أو عقوبات، وإما أن تكون تلك التصرفات في حقوق العباد، وهي إما مالية أو غير مالية. وسأقصر الكلام على حقوق العباد لضيق المقام، فحقوق العباد المالية كضمان المتلفات وأجرة الأجير ونحو ذلك فإنها تجب في مال الصبي. وأما ما كان منها عقوبةً كالقصاص، فإنه لا يجب عليه عند جمهور الفقهاء؛ لأن فعل الصبي لا يوصف بالتقصير، فلا يصلح سبباً للعقوبة لقصور معنى الجناية في فعله، ولكن تجب في فعله الدية؛ لأنها وجبت لعصمة المحل، والصبا لا ينفي عصمة المحل؛ ولأن المقصود من وجوبها المال. الموسوعة الفقهية الكويتية 7/151 فما بعدها بتصرف.

إذا تقرر هذا فنعود إلى أصل المسألة وهو حكم جناية الطفل على نفس أو إتلاف عضو كقلع العين أو قطع اليد أو نحو ذلك، فقد قرر جمهور الفقهاء أن الطفل مميزاً كان أو غير مميزٍ إذا قتل شخصاً أو أتلف عضواً فإنه لا يعاقب على فعله ولو كان متعمداً، لأنه ليس له قصدٌ صحيحٌ، ولكن تجب في فعله الدية، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [لا خلاف بين أهل العلم في أنه لا قصاص على صبيٍ ولا مجنونٍ، وكذلك كل زائل العقل بسبب يُعذر فيه، مثل النائم والمغمى عليه ونحوهما، والأصل في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق»، ولأن القصاص عقوبةٌ مغلظةٌ فلم تجب على الصبي وزائل العقل كالحدود، ولأنهم ليس لهم قصدٌ، فهم كالقاتل خطأً] المغني 9/358. وقد قرر جمهور الفقهاء الحنفية والمالكية والحنابلة أن عمد الصبي يجري مجرى الخطأ في وجوب الدية على العاقلة ولا قصاص فيه، وقد وردت آثارٌ عن بعض السلف تدل على ذلك، فمنها ما ذكره البيهقي في سننه: [باب ما روي في عمد الصبي، ثم روى عن عمر رضي الله قوله: عمدُ الصبي وخطؤه سواء، ومثله عن علي رضي الله عنه: عمدُ المجنون والصبي خطأ] سنن البيهقي 8/61. ومنها ما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن الزهري قال: مضت السُنَةُ أن عمد الصبي خطأٌ، وعن قتادة قال: عمدُ الصبي خطأ. وقال سفيان الثوري: لا تقام الحدود إلا على من بلغ الحلم، جاءت به الأحاديث. مصنف عبد الرزاق 9/474. وروى ابن أبي شيبة في باب جناية الصبي العمد والخطأ، عن الحسن أنه قال في الصبي والمجنون: خطؤهما وعمدهما سواء على عاقلتهما، ثم روى عن علي بن ماجدة قال قاتلت غلاماً فجدعت أنفَه، فأُتيَ بي إلى أبي بكرٍ فقاسني فلم يجد فيَّ قصاصاً -لأنه كان صبياً- فجعل على عاقلتي الدية، ثم روى عن إبراهيم النخعي قال: عمد الصبي وخطؤه سواء] مصنف ابن أبي شيبة 5/406. وقال الحافظ ابن عبد البر: [على هذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابهما والأوزاعي والليث بن سعد في قتل الصبي عمداً أو خطأً، أنه كله خطأ تحمل منه العاقلة ما تحمل من خطأ الكبير. . . وقول مالك إن ذلك على عاقلة الصبي، لأن عمده خطأ، والسنة أن تحمل العاقلة دية الخطأ] الاستذكار 8/51. وقال الأستروشني الحنفي: [عمد الصبي والمجنون خطأ، وفيه الدية على العاقلة، والمعتوه كالمجنون] أحكام الصغار ص 328. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وعمد الصبي والمجنون خطأ تحمله العاقلة. . . ولنا أنه لا يتحقق منهما كمال القصد‏، ‏ فتحمله العاقلة كشبه العمد، ولأنه قتلٌ لا يوجب القصاص‏، ‏ لأجل العذر فأشبه الخطأ وشبه العمد، وبهذا فارق ما ذكروه ويبطل ما ذكروه بشبه العمد‏‏] المغني 9/503. وقال ابن الهمام الحنفي: [وعمدُ الصبي والمجنون خطأٌ، وفيه الدية على العاقلة] فتح القدير 23/418. وقال أبو إسحاق الشيرازي: [ولا يجب– القصاص- على صبيٍ ولا مجنونٍ لقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق»] المهذب 3/353. والحديث المذكور رواه أبو داود والنسائي والدارمي وابن ماجة وغيرهم، وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 2/5. وبناءً على ما سبق فإن الصبي إذا قتل أو قلع عيناً فتلزم الدية على عاقلته، ولا يجوز أن يقال إنه صبي غير مكلف، فلا يتحمل تبعة أفعاله، لأنه من المقرر عند العلماء أن لزوم الدية على جنايته وكذا ضمان ما أتلف من مالٍ، إن ذلك من باب خطاب الوضع وليس من باب خطاب التكليف، إذ بينهما فرقٌ واضحٌ، قال الشوكاني [أقول قد تقرر أن جناية الصبي والمجنون مضمونة من مالهما لأن ذلك من أحكام الوضع لا من أحكام التكليف] السيل الجرار 4/422. [وهناك فروق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي، منها أن الحكم التكليفي لا يوصف به إلا فعل المكلف، وهو البالغ العاقل، أما الحكم الوضعي فلا يختلف باختلاف الفاعل، فمن فعل ما هو سببٌ للضمان أُلزم به، سواء أكان بالغاً عاقلاً أم لا، فالصبي إذا أتلف شيئاً لغيره انعقد سببُ الضمان] أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه ص59. فالمقرر عند الأصوليين أن الحكم التكليفي لا يتعلق إلا بفعل المكلَّف الذي توافر فيه شرط التكليف وهو: البلوغ عاقلاً، بخلاف الحكم الوضعي فإنه يتعلق بالمكلف وغير المكلف، لذلك تجد جمهور الفقهاء أوجبوا الزكاة في أموال الصبي والمجنون والمعتوه، وقالوا يضمن النائم والناسي والغافل والسكران ونحوهم ما يتلفون. فوجوب الزكاة وضمان قيم المتلفات والجنايات على غير المكلف كالصبي والمجنون ليس من باب التكليف، وإنما وقع ذلك من باب خطاب الوضع وربط الأحكام بأسبابها. الجامع لمسائل أصول الفقه عن الإنترنت بتصرف. وما قرره جمهور الفقهاء من تضمين الصبي إنما جاء للمحافظة على دماء المسلمين وأموالهم، فلا شك أن ذلك من مقاصد الشرع الشريف. وختاماً فإن العاقلة تحمل دية الخطأ كما هو مقرر عند الفقهاء ولا تحمل عمداً، وعاقلة الإنسان عصبته، وهم الأقرباء من جهة الأب كالأعمام وبنيهم، والإخوة وبنيهم، وتقسم الدية على الأقرب فالأقرب، فتقسم على الإخوة وبنيهم، والأعمام وبنيهم، ثم أعمام الأب وبنيهم، ثم أعمام الجد وبنيهم، وذلك لأن العاقلة هم العصبة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العصبة كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجرٍ فقتلتها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى بدية المرأة على عاقلتها» (رواه البخاري ومسلم). وفي رواية: «ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل- الدية – على عصبتها» (رواه مسلم). وتقسط الدية على ثلاث سنوات في حال القتل الخطأ، الموسوعة الفقهية الكويتية 29/22-23.

وخلاصة الأمر أن أهلية الإنسان لها أحكام مختلفة في كل مرحلةٍ من المراحل الخمس التي يمر بها، وأن الإنسان في مرحلتي الطفولة والتمييز يؤاخذ مالياً على تصرفاته في حقوق العباد، فيضمن المتلفات ونحوها، وأن الطفل مميزاً كان أو غير مميزٍ إذا قتل شخصاً أو أتلف عضواً كقلع العين، فإنه لا يعاقب على فعله ولو كان متعمداً، وعمد الصبي خطأٌ عند جمهور الفقهاء، لأنه ليس له قصدٌ صحيحٌ، ولكن تجب في فعله الدية كاملة إذا قتل، ونصفُها إذا قلع العين، وتجب الدية على العاقلة في هاتين الحالتين، وعاقلة الإنسان عصبته، وهم أقرباؤه من جهة الأب، وتجب الدية عليهم مقسطة على ثلاث سنوات. 

حسام الدين عفانه

دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.