العلماءُ والدُّعاةُ وخيانةُ أمانةِ الكلمة

منذ 2015-12-20
السؤال:

انتشرت في الفترة الماضية على الفضائيات فتاوى لعددٍ من العلماء والدعاة غريبةٌ عجيبةٌ، ووقف بعضهم مواقف تساند الظلمة وتضعهم في مصاف الأنبياء، فما قولكم في ذلك؟ 

 

الإجابة:

أولاً: للعلماء مكانةٌ عظيمةٌ في دين الإسلام، فهم ورثةُ الأنبياء، قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُون} [سـورة الزمر الآية9]، وقال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} [سورة فاطر الآية28]، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [سورة الزُّمر الآية9]، وقال سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [سورة المجادلة الآية11]،

وأوجب الله عزَّ وجل طاعة العلماء فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [سورة النساء الآية59]، وأولو الأمر هم العلماء كما قال المفسرون، وقيل هم الأمراء والعلماء، تفسير الطبري 8/501.
وقال تعالى: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة آل عمران الآية 18]،
قال القرطبي: [في هذه الآية دليلٌ على فضل العلم وشرف العلماء وفضلهم، فإنه لو كان أحدٌ أشرفُ من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته،كما قرن اسم العلماء. وقال في شرف العلم لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} [سورة طه الآية114]، فلو كان شيءٌ أشرفُ من العلم لأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله المزيد منه، كما أمر أن يستزيده من العلم.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن العلماء ورثة الانبياء» وقال: «العلماء أمناء الله على خلقه» وهذا شرفٌ للعلماء عظيمٌ،ومحلٌ لهم في الدين خطير]تفسير القرطبي4/41.
وحديث: «العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافرٍ» (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي، وحسنه العلامة الألباني. وحديث («العلماء أمناء الله على خلقه» ضعفه العلامة الألباني.

ثانياً: أوجب الله عز وجل على العلماء بيان الحق للناس، وحرَّم عليهم كتمانه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقد نعى الله عز وجل على من أوتي علماً ثم تخلى عنه ولم يحمل أمانة الكلمة، فقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [سورة الأعراف الآيات174-178].

وقوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ…} هي أشدُّ آيةٍ على العلماء، قال الإمام البغوي:"وهذه أشدُّ آيةٍ على العلماء،وذلك أن الله أخبر أنه آتاه آيةً من اسمه الأعظم والدعوات المستجابة والعلم والحكمة، فاستوجب بالسكون إلى الدنيا، واتباع الهوى تغيير النعمة عليه والانسلاخ عنها، ومن الذي يسلم من هاتين الخلتين إلا من عصمه الله؟" تفسير البغوي 3/304.
وقال ابن كثير: [وقد ورد في معنى هذه الآية حديث رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده…أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مما أتخوف عليكم رجلٌ قرأ القرآن، حتى إذا رُؤيت بهجتهُ عليه وكان رِدء الإسلام، اعتراه إلى ما شاء الله، انسلخ منه، ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك. قال: قلت: يا نبي الله، أيهما أولى بالشرك: المرمي أو الرامي؟ قال: بل الرامي».هذا إسناد جيد] تفسير ابن كثير 3/509.
وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة الجمعة الآية5]،
ونلاحظ أن الله عز وجل قد وصف علماء السوء بوصفين قبيحين؛ هما الكلب والحمار، وبئس الوصفان هما!
وورد عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أخوف ما أخاف على أمتي بعدي الأئمة المضلون» (رواه أحمد والطبراني وصححه العلامة الألباني).
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان» (رواه الطبراني والبزار وصححه العلامة الألباني).

ثالثاً: كثُرَ في زماننا علماءُ السوء الذين وصفهم الله بالكلاب والحمير، وكثُرَ أدعياءُ العلم ممن يسمون أنفسهم دعاةً أو يسمون أنفسهم دعاةً جدداً وكثُرَ المفترون على منهج السلف، أدعياء السلفية، وهؤلاء جميعاً يربطهم موقفٌ واحدٌ ألا وهو التزلفُ للطغاة وللظلمة، لذلك سخروا ظهورهم على القنوات الفضائية، لخدمة أسيادهم من المتسلطين على رقاب الأمة، الذين يسومونها سوء العذاب، هؤلاء الطغاة الذين يستأسدون على شعوبهم، فيسفكون الدماء ويسرقون الأموال ويسعون في الأرض فساداً، وفي ذات الوقت هم أرانبُ خانعةٌ ذليلةٌ أمام أسيادهم سدنة الكفر في العالم. وقد سمعنا ورأينا من علماء السوء أولئك، ومن المستحمرين أقوالاً عجيبة غريبة، ومنها على سبيل المثال:

قال أحد الأفاكين مخاطباً سفاح الشام: اللهُ أقامك مقامَ خالد بن الوليد وعمر بن عبد العزيز وصلاح الدين الأيوبي، وإن الله أقامك مقام أولئك العظماء الذين نصروا الأمة على أعدائها، فامض لما أقامك الله وتسلح بالعزم والإيمان.
ووصف دجالٌ أزهريٌ سفَّاحَينِ آخرين بأنهما رسولان من عند الله، مثلهما مثل موسى وهارون عليهما السلام.
وشبه الدجال السابق نجاة طاغية من حادثةٍ، بنجاة نبي الله إبراهيم من النار!
وقالت عجوزٌ شمطاءُ تدَّعي الفقه: إن نساء الإخوان أخطر من اليهود، ولا يجوز الزواج منهن.
وأفتى أحد أفراخ الدجالين بتطليق الزوجة الإخوانية، باعتبارها قنبلةً موقوتةً في الأسرة.
وقال كبيرُ الدجاجلة من أدعياء السلفية: إن حصار غزة وإغلاق معبر رفح، فيه مصلحةٌ لأهل غزة وفلسطين!؟
وغير ذلك من قاذورات هؤلاء التي تزكم الأنوف، وتعافها عقول المؤمنين. هؤلاء السفلة الذين اتخذهم الطغاة والظلمة (جِزَماً بالعامية المصرية) ليخوضوا بها الأوحال والمستنقعات النتنة، ومن ثم يخلعونها ويرمونها، وهذا هو مصيرهم في الدنيا، وأما مصيرهم في الآخرة فلعله ينطبق عليهم ما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه، رجلٌ استشهد فأُتيَ به فعرَّفه نعمَه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال هو جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسُحبَ على وجهه حتى أُلقي في النار، ورجلٌ تعلَّم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن فأُتي به فعرَّفه نعمَه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال كذبت، ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل ثم أُمر به فسُحبَ على وجهه حتى ألقي في النار، ورجلٌ وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال، فأُتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيلٍ تحب أن يُنفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جوادٌ، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحبَ على وجهه ثم أُلقي في النار» (رواه مسلم).

قال الحافظ ابن عبد البر: [وهذا الحديث فيمن لم يرد بعمله وعلمه وجه الله تعالى] جامع بيان العلم وفضله 2/339. وعلى علماء السوء هؤلاء أن يدركوا خطورة الكلمة، وأن من خان أمانة الكلمة، فمصيره إلى النار كما ورد في حديث معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده وذروة سنامه، قلت: بلى يا رسول الله قال: رأسُ الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد. ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله، قلت: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه، قال كُفَّ عليك هذا، فقلت يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به، فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» (رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وصححه العلامة الألباني).

رابعاً: اقتدى سلفُ الأمة وعلماؤُها بما ورد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم في البعد عن أمراء السوء، وعن الحكام الظلمة والطغاة، كما في حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراءٍ يكونون بعدي، فمن غشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، ولا يرد عليَّ الحوض، ومن غشي أبوابهم أو لم يغش ولم يصدقهم في كذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فهو مني وأنا منه، ويرد عليَّ الحوض» (رواه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه وصححه العلامة الألباني).

قال الإمام الخطابي: [ليت شعري من الذي يدخل إليهم اليوم فلا يصدقهم على كذبـهم،ومن الذي يتكلم بالعدل إذا شهد مجالسهم، ومن الذي ينصح ومن الذي ينتصح منهم؟ إن أسلم لك يا أخي في هذا الزمان وأحوط لدينك أن تقلَّ من مخالطتهم وغشيان أبوابـهم ونسأل الله الغنى عنهم والتوفيق لهم] كتاب العزلة ص98.
وهذا في زمان الخطابي في القرن الرابع الهجري فكيف الحال في زماننا!
وقد كان علماء السلف يفرون من مجالس الخلفاء الذين كانوا يحكمون بشرع الله!
ويرفضون تولي المناصب العليا في الدولة، كما فعل الإمام أبو حنيفة النعمان عندما رفض تولي القضاء زمن الخليفة العباسي المنصور، وكما فعل سفيان الثوري الخليفة العباسي المهدي الذي عهد إليه بقضاء الكوفة، فأخذ العهد ومزقه بعد أن غادر ديوان الخلافة، وغاب عن أنظار الناس، فطُلب في كل بلد، ومات عام 161هـ مستخفياً بالبصرة.
وكما فعل إمام أهل السنة أحمد بن حنبل لما رفض موافقة عددٍ من الخلفاء العباسيين في فتنة خلق القرآن، فسجنوه وعذبوه وهو ثابت على الحق.
قال ابن مفلح الحنبلي: [كان الإمام أحمد رحمه الله لا يأتي الخلفاء ولا الولاة والأمراء، ويمتنع من الكتابة إليهم، وينهى أصحابه عن ذلك مطلقاً، وكلامه فيه مشهور. وقال مهنا سألت أحمد بن حنبل عن ابراهيم بن موسى الهروي فقال: ”رجلٌ وسخٌ” فقلت: ما قولك إنه وسخٌ؟ قال: من يتبع الولاة والقضاة فهو وسخٌ” وكان هذا رأيُ جماعة من السلف وكلامهم في ذلك مشهور] الآداب الشرعية 3/457. ومواقف علماء السلف كثيرة.

خامساً: علماءُ السوء وأدعياء العلم ممن يسمون أنفسهم دعاةً أو يسمون أنفسهم دعاةً جدداً أو من المفترين على منهج السلف أدعياء السلفية،رضوا لأنفسهم أن يكونوا أبواقاً للطواغيت الظالمين، ورضوا لأنفسهم أن يكونوا كشاهدي الزور، ورضوا لأنفسهم أن يكونوا أدواتٍ حادةٍ بيد الظلمة يشهرونها في وجوه أهل الصدق المخالفين والمعترضين على ظلمهم وخيانتهم للعهد وللأمانة. علماءُ السوء سخِّروا علمهم وما حفظوا من نصوص شرعية لإحقاق الباطل، وإبطال الحق قربةً لأسيادهم الطواغيت الظالمين، كل أؤلئك ليسوا أهلاً لتأخذ عنهم الفتاوى ولا يُسمع لهم، بل الواجب أن تُرمى أقوالُهم وفتاواهم في وجوههم، فلا يجوز مطلقاً لأي مسلم أن يأخذ بفتاوى هؤلاء الأقزام ناقصي العقل والدين، فهؤلاء مفترون على دين الإسلام، ومفترون على السلف الصالح.

وما هؤلاء الشياطين إلا صنائع لأمن الدولة ولأعداء الإسلام، وما هم إلا أعوانٌ للظلمة، وينطبق عليهم قول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدّ ُالْخِصَام. وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ. وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [سورة البقرة الآيات 204-206].
وكل هؤلاء ليسوا من العلماء الثقات حتى يُؤخذ بأقوالهم، قال الإمام أحمد بن حنبل: [لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:

أولها: أن تكون له نيةٌ، فإن لم تكن له نيةٌ لم يكن عليه نورٌ ولا على كلامه نورٌ.

والثانية: أن يكون له علمٌ وحلمٌ ووقارٌ وسكينةٌ.

والثالثة: أن يكون قوياً على ما هو فيه وعلى معرفته.

والرابعة: الكفايةُ وإلا مضغه الناس.

والخامسة: معرفةُ الناس]. قال العلامة ابن القيم معـلقاً علـى كلام الإمام أحمد: [وهذا مما يدل على جلالة أحمد ومحله من العلم والمعرفة، فإن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى، وأي شيءٍ نقص منها، ظهر الخلل في المفتي بحسبه].

ثم شرح ابن القيم عبارة الإمام أحمد وأذكر بعض كلامه: [فأما النية فهي رأس الأمر وعموده وأساسه وأصله الذي عليه يُبنى، فإنها روح العمل وقائده وسائقه، والعمل تابعٌ لها يُبنى عليها يصح بصحتها ويفسد بفسادها… وقد جرت عادة الله التي لا تبدل وسنته التي لا تحول أن يُلبس المخلص من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق وإقبال قلوبهم إليه ما هو بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه. ويُلبس المرائي اللابس ثوبي الزور من المقت والمهانة والبغضاء ما هو اللائق به، فالمخلص له المهابة والمحبة، وللآخر المقت والبغضاء. وأما قوله أن يكون له حلمٌ ووقارٌ وسكينةٌ، فليس صاحب العلم والفتيا إلى شيءٍ أحوج منه إلى الحلم والسكينة والوقار، فإنها كسوةُ علمه وجماله، وإذا فقدها كان علمه كالبدن العاري من اللباس. وقال بعض السلف: ما قُرِنَ شيءٌ إلى شيءٍ أحسنَ من علمٍ إلى حلم] إعلام الموقعين 4/199 فما بعدها.

وخلاصة الأمر أن للعلماء مكانةً عظيمةً في دين الإسلام، وأنهم ورثةُ الأنبياء، وأن الله عز وجل أوجب على العلماء بيانَ الحق للناس، وحرَّم عليهم كتمانه، وأنه قد كثُرَ في زماننا علماءُ السوء الذين وصفهم الله بالكلاب والحمير، وكثُرَ أدعياءُ العلم ممن يسمون أنفسهم دعاةً وكثُرَ المفترون على منهج السلف، أدعياء السلفية، وهؤلاء جميعاً يربطهم موقفٌ واحدٌ ألا وهو التزلف للطغاة وللظلمة،

وأنه قد صدرت عنهم فتاوى وأقوالٌ باطلة تُزين للظلمة ظلمهم، وأنهم رضوا لأنفسهم أن يكونوا أبواقاً للطواغيت الظالمين، ورضوا لأنفسهم أن يكونوا كشاهدي الزور، ورضوا لأنفسهم أن يكونوا أدواتٍ حادةٍ بيد الظلمة يشهرونها في وجوه أهل الصدق المخالفين والمعترضين على ظلمهم وخيانتهم للعهد وللأمانة.

وأن سلف الأمة وعلماءها اقتدوا بما ورد في السنة النبوية في البعد عن أمراء السوء، وعن الحكام الظلمة والطغاة، وأن على العلماء خاصةً والناس عامةً أن يدركوا خطورة الكلمة وأن خيانة أمانة الكلمة تَكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم.

والله الهادي إلى سواء السبيل. 

حسام الدين عفانه

دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.