أثر التوسل بالقبور على عقيدة التوحيد

منذ 2012-04-23

حين عربت كتب الفلاسفة اليونانية القبورية الوثنية، وعكف عليها كثير ممن تفلسفوا في الإسلام، أمثال الفارابي الكافر، وابن سينا القرمطي، ونصير الكفر والشرك الطوسي، وسايرهم كثير من المتكلمين ...


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلاله، وكل ضلاله في النار. والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه أجمعين، والذين تبعوهم بإحسان إلى يوم الدين.

يقول أبو عبد الله، شمس الدين بن محمد أشرف الأفغاني السلطاني المدني السلفي غفر الله له ورحمه وحفظه: إنه لا يخفى أن الله عز وجل قد أختار لعباده دين الإسلام، دين الصدق والعدل؛ كما قال سبحانه: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3]، وقال جل وعلا: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [الأنعام: 115] وأساس هذا الدين القيم هو توحيد الله تعالى، وعبادته وحده لا شريك له.

ولكن القبورية ناقضوا أهل الأصل فهدموا الإسلام من أساسه.
 

أعادوا بها معنى سواعٍ ومثلهُ ** يغوثُ وَوَدٌّ بئسَ ذلك من ودِّ

وقدْ هتفُوا عندَ الشدائدِ باسمها ** كما يهتفُ المشطرُّ بالواحدِ الصمدِ

وكم نحروا في سُوحِها من بحيرةٍ ** أهلَّت لغيرِ الله جهلاً على عمدِ

وكم طائفٍ عند القبورِ مُقبلٍ ** ويلتمسُ الأركانَ منهنَّ بالأيدي




فحين عربت كتب الفلاسفة اليونانية القبورية الوثنية، وعكف عليها كثير ممن تفلسفوا في الإسلام، أمثال الفارابي الكافر، وابن سينا القرمطي، ونصير الكفر والشرك الطوسي، وسايرهم كثير من المتكلمين من الماتريدية، والأشعرية الكلابية بسبب العكوف على كتبهم الفلسفية، فتأثروا بعقائدهم القبورية، حتى صاروا دعاة إلى القبورية والجهمية في آن واحد، من أمثال: التفتازاني فيلسوف الماتريدية والقبورية، والجرجاني الصوفي الخرافي الكلامي.

وقد عرف هؤلاء الملاحدة الزنادقة بالصوفية الحلولية والاتحادية القبورية الخرافية؛ أمثال الحلاج، وابن الفارض، وابن العربي، وابن سبعين، والمولوي الرومي صاحب الثنوي، والقونوي، والتلمساني، وخواجه نقشبند إمام النقشبندية، وعبد الكريم الجيلي، والجامي، والشعراني، والنابلسي. فمن هؤلاء عدداً ممن ينتسب لمذهب الإمام أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه؛ فالحنفية مع كثر عددهم، كثرة الفرق المبتدعة فيهم، وكثرة الملوك والأمراء والقضاة القبورية فيهم، ثم المالكية والشافعية ونزر قليل من الحنابلة؛ مع أن الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة الإسلام براء من قبوريتهم.

والقبورية فرق كثيرة، ولكنها متفاوته في دركاتها القبورية من حيث الغلو، ومتباينة في الأسماء من حيث انتمائهم إلى الأشخاص والمدارس؛ فبعضهم وثنية أقحاح، وبعضهم يعتقد بعض العقائد القبورية الشركية، وبعضهم متأثر ببعض البدع القبورية. وهذه الفرق متمثلة في الشيعة بجميع فرقهم، والصوفية الحلولية والاتحادية، التي هم غلاة القبورية الوثنية، والقادرية، والرفاعية، والشاذلية المغربية المصرية، والميرغنية، والجلوتية، والخلوتية، والمدارية الهندية، والجشتية الأفغانية الهندية، والسهروردية، والمولوية المثنوية الرومية الفارسية الأفغانية التركية الهندية، والبدوية السطوحية المصرية، والنقشبندية الفارسية التركية الأفغانية الهندية، والمجددية الهندية الأفغانية التركية، والتاجانية الأفريقية المغربية، إلى غيرها من طرق الصوفية القبورية. وأكثر المتفلسفة المعطلة المنطقية، وكثير من المتكلمة الجهمية؛ كبعض الماتريدية، وبعض الأشعرية الكلابية، والبريلوية الهندية الباكستانية الأفغانية، والكوثرية التركية المصرية السورية الهندية الباكستانية، وكثير الديوبندية، وكثير من التبليغية، وغيرهم من فرق القبورية [جهود العلماء الحنفية ج1 ص23-29 بتصرف].

فهؤلاء الذين أخذوا يتوسلون بالقبور، انحرفوا عن أهم أبواب الإيمان والإسلام، ألا وهو باب العقيدة في توحيد الألوهية، وهذا الانحراف انحرافاً عن التوحيد الخالص إلى الشرك الأكبر؛ ليس أمراً سهلاً هيناً في الإسلام، بل هو ضلال وإضلال في صميم هذا الدين المتين، بل خروج عن الملة الإسلامية وارتداد عن دين الإسلام، بعد إتمام الحجة وإيضاح المحجة.

إن منزلة العقيدة في الإسلام كمنزلة الأساس للمبنى، فكما أن فساد الأساس يستلزم فساد المبنى وصحته تستلزم صحة المبنى، كذلك الشأن للعقيدة بالنسبة إلى الأحكام العملية ولذلك نرى أن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب لإصلاح البشر جميعاً. فكان الرسل عليهم السلام يهتمون بإصلاح العقيدة قبل إصلاح الأعمال، وهذا هو نهج سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الدعوة، فقد تميزت بداية دعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى التوحيد وعبادة الله بشكل كبير وذلك لترسيخ عقيدة التوحيد، أما في آخر دعوته صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان مركزاً في تبيان العبادات والمعاملات، والحدود، والجهاد، والسِّلْم، والحرب، ونظام الأسرة، وقواعد الحكم، وغيرها من وسائل التشريع.وفساد العقيدة بالإخلال بالتوحيد وارتكاب الشرك يحبط الأعمال كلها، ويجعلها هباء منثوراً، لقول الله تعالى : {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88] وقوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة: 17].

ومن أنواع الشرك هو التوسل البدعي الممنوع، كزيارة القبور لدعاء أهلها والاستغاثة بهم أو للذبح لهم أو للنذر لهم وهذا منكر وشرك أكبر ويلتحق بذلك أن يزوروها للدعاء عندها والصلاة عندها - عدا صلاة الجنازة - والقراءة عندها وهذا لا أصل له في الدين، ولا دليل عليه من الكتاب والسنة، ولا من عمل السلف الصالح، وهو التقرب إلى الله تعالى بما لا يحبه ولا يرضاه، وبما لم يأذن به من الأقوال، والأفعال، والاعتقادات.

يجب أن يُعبد الله بإخلاص، ولا يراد بالعبادة إلا الله، ولا يتقرب إلى أحد سواه، لقوله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء: 56-57]. ومن يعبد الله وحده يحقق قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5]، ولا يتحقق التوحيد بعبادة الله وحدة، ما لم يستعين العبد بالله وحدة، ليحقق قوله تعالى: {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].

إن مسألة التوسل بالقبور أو بالأموات، مسألة واضحة جلية، وهي ليست من المتشابهات. فسؤال الله تبارك وتعالى بجاه أحدٍ من خلقه أو سؤال الله تعالى بحق نبِّيه أو بحقِ أحدٍ من عباده توسل بدعي ممنوع، وهذا شرك أكبر؛ لأن هذا النوع من التوسل؛ لم يرد في كتاب الله عز وجل ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم والتي قال عنها سلمان الفراسي رضي الله عنه حين قيل له:«قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم كل شيءٍ حتى الخراءة. قال رضي الله عنه: أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع، أو بعظم» [رواه مسلم]، ولم يرد أيضاً في فعل أصحابه رضي الله عنهم أجمعين الذين نقلوا لنا كل أقوال وأحوال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

ولا رواه علماء الحديث الذين عرفوا سنته صلى الله عليه وعلى آله وسلم ونقلوا أخباره وآثاره بكل دقة. فالذي أمر به الإسلام هو سؤال الله تعالى بأسمائه الحسنى وبصفاته العُلى؛ امتثالاً لقول الله تبارك وتعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 80] فلا يجوز لنا نحن المسلمين أن نتقرب إلى الله سبحانه إلا بما شرع لنا، قال الله تبارك وتعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 21]

قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] ولهذه الآية شأن عظيم، فطلب استخبار في هذه الآية ليست كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [سورة البقرة:215]، أو قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ} [ البقرة:217]، أو قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة:189]، أو قوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [المائدة: 4] أو قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي} [الأعراف:187]، أو قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ} [الأنفال:1]، أو قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة:219]، أو قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة:220]، أو قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]، أو قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:83]، أو قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا}[طـه:105].

نلاحظ أن في هذه الآيات، فيها طلب استخبار بأمر ما، وكان ابتداء الجواب في جميع الآيات بـ (قُلْ) وواحدة بـ (فَقُلْ) وهذا إن دل على شيء دل على إن هناك وسيط بين الرب وعبادة في الإخبار بالوحي والأحكام والقصص، والوسيط هو سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

ولكن، في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، لم يقل سبحانه وتعالى بعد طلب الاستخبار في هذه الآية بـ (قُلْ)، بل قال: فَإِنِّي، ونفهم من استخدام هذه الكلمة، بالتأكيد على قرب الله من عبادة، فحرف الفاء وقع في جواب الشرط إِذَا، وإِنَّ حرف توكيد ونفي الإنكار والشكَّ.

وكأن الله جل وعلا يؤكد تأكيداً نفياً للشك والإنكار بأنه قريب من عباده من دون وسيط، فهو مع علوه على خلقه واستواءه على العرش استواءً يليق بجلاله، فهو أقرب إلينا من حبل الوريد يقول عز وجل: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ ق:16]، و{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[الحديد:4]، و{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7]، و{إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل:128].


فالتوسل البدعي حرام؛ لأنه لا بدّ في العبادات أن تكون قائمة على الدليل من القرآن والسنّة الصحيحة ومن قواعد هذه الشّريعة أن الله لا يُعبد إلا بما شرع ولا يُعبد بالبدع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردّ» أي عمله حابط مردود عليه لا يقبله [السنن والمبتدعات ص71].


لم يكن الرد على القبورية والدعوة إلى التوحيد محصورين في أمثال شيخ الإسلام، بل شاركهم كثير من الأعلام غيرهم من أهل المذاهب الثلاثة، وعلى رأسهم علماء الحنفية؛ فقد كانت لهم جهود عظيمة في الرد على القبورية، وكشف عوراتهم، وقطع أدبارهم، وقمع شبهاتهم، وكسر جموعهم وبيان فضائحهم، بنصوص دامغة صارمة قاطعة، يقول سلفنا، إمام المسلمين أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه: "لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول [المرء]: أسألك بمقعد العز من عرشك، وأكره أن يقول: وبحق أنبيائك، ورسلك، وبحق البيت الحرام" وقد رواها الإمام القدوري عن الإمام بشر بن الوليد: أنه قال: سمعت أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة: "لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به…" فذكرها بتمامها في كتابه الذي شرح به مختصر الإمام الكرجي. ونقلها عن شرح الإمام القدوري لمختصر الإمام الكرخي كثير من كبار علماء الحنفية، مستدلين بها على إبطال عقيدة القبورية في استغاثتهم بالأموات عند الكربات، فحققوا بها أن القبورية مخالفون لشرع الله، كما أنهم مخالفون لأئمة هذه الأمة في المعتقد، ولا سيما أئمة الحنفية، وبهذه المقالة قد اجتثوا جميع شبهات القبورية في الاستغاثة بغير الله من أصلها، واستأصلوا جميع مزاعمهم في التوسل الباطل من جذورها [جلاء العينين للعلامة نعمان الآلوسي ص452، 470، 482].

كما برز كثير من العلماء الحنفية الرادين على القبورية المبطلين لعقائدهم الوثنية من أمثال؛ الإمام ابن أبي العز، والإمامان البركوي وأحمد الرومي، وصنع الله الحلبي، والإمام ولي الله الدهلوي وأسرته من أبنائه وأحفاده وأسباطه، ولا سيما العلامة إسماعيل المجاهد، والأسرة الألوسية ابتداء من الألوسي الأب، ثم الابن، وانتهاء بالحفيد. وهذا يبطل زعم القبورية إن الرد عليهم محصور في أمثال شيخ الإسلام، وابن القيم الهمام، ومجدد الدعوة، ونبذوهم بلقب منفر "الوهابية" تحذيراً للناس منهم وإضلالاً للعوام، وإغواء للجهال بهذه الحيلة الماكرة الشاطرة القبورية.

وليتبين زعمهم مواقعه من الخسران، فليراجع كتاب "جهود العلماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، للدكتور شمس الدين السلفي الأفغاني" ليعلم القبورية أن أهل الحديث وأئمة السنة الذين ينبذهم القبورية بالوهابية، ليسوا شذاذاً ولا متفردين بالرد على القبورية؛ بل شاركهم في ذلك أعلام هذه الأمة، ولا سيما الأئمة الأربعة؛ وإنما عقائدهم مستقاة من اليهود والنصارى والوثنية الأولى، من طريق الروافض والصوفية، والمتفلسفة في الإسلام، والمتكلمة المعطلة الجهمية.

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - طيب الله ثراه -: "وأما من يأتي إلى قبر نبيٍّ أو صالح أو من يعتقد فيه أنه قبر نبيٍّ أو رجل صالح وليس كذلك ويسأله ويستنجده فهذا على ثلاث درجات:

إحداها: أن يسأله حاجته مثل أن يسأله أن يزيل مرضه أو مرض دوابه أو يقضى دينه أو ينتقم له من عدوه أو يعافي نفسه وأهله ودوابه ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل: هذا شرك صريح يجب أن يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل.

وإن قال: أنا أسأله لكونه أقرب إلى الله مني ليشفع لي في هذه الأمور لأني أتوسل إلى الله به كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه: فهذا من أفعال المشركين والنصارى فإنهم يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء يستشفعون بهم في مطالبهم وكذلك أخبر الله عن المشركين أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] وقال سبحانه وتعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 44].

وقال تعالى: {مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: 4]، وقال تعالى {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] فبين الفرق بينه وبين خلقه فإن من عادة الناس أن يستشفعوا إلى الكبير من كبرائهم بمن يكرم عليه فيسأله ذلك الشفيع فيقضي حاجته إما رغبة وإما رهبة وإما حياء وإما مودة وإما غير ذلك والله سبحانه لا يشفع عنده أحد حتى يأذن هو للشافع فلا يفعل إلا ما شاء وشفاعة الشافع من إذنه فالأمر كله له...وقول كثير من الضلال هذا أقرب إلى الله مني وأنا بعيد من الله لا يمكنني أن أدعوه إلا بهذه الواسطة ونحو ذلك من أقوال المشركين فإن الله تعالى يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وفي الصحيح أنهم كانوا في سفر وكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصماً ولا غائباً بل تدعون سميعاً قريباً إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» [صحيح البخاري: 6384].

وقد أمر الله تعالى العباد كلهم بالصلاة له ومناجاته وأمر كلا منهم أن يقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]. وقد أخبر عن المشركين أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. ثم يقال لهذا المشرك أنت إذا دعوت هذا فإن كنت تظن أنه أعلم بحالك وأقدر على عطاء سؤالك أو أرحم بك فهذا جهل وضلال وكفر، وإن كنت تعلم أن الله أعلم وأقدر وأرحم فلما عدلت عن سؤاله إلى سؤال غيره؟ ألا تسمع إلى ما أخرجه البخاري وغيره عن جابر رضي الله عنه :قال "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن".

وإن كنت تعلم أنه أقرب إلى الله منك وأعلى درجة عند الله منك فهذا حق لكن كلمة حق أريد بها باطل فإنه إذا كان أقرب منك وأعلى درجة منك فإنما معناه أن يثيبه ويعطيه أكثر مما يعطيك ليس معناه إنك إذا دعوته كان الله يقضى حاجتك أعظم مما يقضيها إذا دعوت أنت الله تعالى فإنك إن كنت مستحقاً للعقاب ورد الدعاء مثلاً لما فيه من العدوان فالنبي والصالح لا يعين على ما يكرهه الله، ولا يسعى فيما يبغضه الله، وإن لم يكن كذلك فالله أولى بالرحمة والقبول [مجموع الفتاوى ج27 ص72-75].

نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى أن يقسم لنا من خشيته ما يحول بيننا وبين معاصيه، ومن طاعته ما يبلغنا به جنته، وأن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وأن يغنينا بحلاله عن حرامه، وبفضله عمن سواه، وأن يتقبل توبتنا، ويغسل حوبتنا إنه سميع مجيب.

وصلى وسلم على النبي الأمي محمد وآله وصحبه أجمعين.

والحمد لله رب العالمين
28 /1/ 1423هـ


أبو إبراهيم الرئيسي الحنفي

 

  • 4
  • 1
  • 8,346

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً