آثار الحج ومقاصده بين الواقع والمطلوب

منذ 2012-10-07

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا ۚ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّـهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ ۚ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}


إن للحج مقاصد شتى وأهدافا عظيمة منها:
1. الارتباط بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام من لدن أبينا إبراهيم وبناءه للبيت إلى نبينا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه لحرمة مكة، فيتذكر الحاج حين تردده في المشاعر وأداءه للشعائر تردد أولئك المطهرين في هذه البقاع الشريفة. فيرتبط في ذهنه سيرهم ويتجذر في قلبه الاقتداء بهم. روى مسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَمَرَرْنَا بِوَادٍ فَقَالَ: أَيُّ وَادٍ هَذَا فَقَالُوا: وَادِي الأَزْرَقِ فَقَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ مِنْ لَوْنِهِ وَشَعَرِهِ شَيْئًا لَمْ يَحْفَظْهُ دَاوُدُ وَاضِعًا إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ لَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي قَالَ ثُمَّ سِرْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى ثَنِيَّةٍ فَقَالَ أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ قَالُوا هَرْشَى أَوْ لِفْتٌ فَقَالَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ خِطَامُ نَاقَتِهِ لِيفٌ خُلْبَةٌ مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي مُلَبِّيًا» (صحيح مسلم: 166).

2. بياض اللباس ونقاؤه إشارة إلى طهارة الباطن ونقاء القلب وبياض الرسالة والمنهج، وفيه طرح للزينة، وإظهار للمسكنة، وتذكر الموت حين يلبس الإحرام ذلكم اللباس الشبيه بالكفن فكأنه مستعد للقدوم على الله جل وعلا.

3. الإحرام من الميقات، التعبد والرق لله بطاعته والتشريع للشارع وحده، ووحدة الآمة وانتظامها وضبطها، أهمية الاجتماع والائتلاف، إدارك عناية الله وفضله حيث حدد له كل ما يعنيه في عبادته، وفيه هذا قطع للتردد والشك والوسوسة، ومنع للفرقة والاختلاف، فقد يقول قائل: إن الإحرام من هذا أفضل وآخر يقول: لا بل من هذا أكمل...

4. الحج شعار التوحيد من أول لحظة يتلبس به الحاج: قال جابر بن عبد الله: «ثم أهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك» (رواه مسلم)، وقال أنس في وصفه لإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة» (الألباني: صحيح الترغيب: 1122، صحيح لغيره)، تربية النفس على توحيد الله والإخلاص له. فإن الحاج يبدأ حجه بالتوحيد، ولا يزال يلبي بالتوحيد، وينتقل من عمل إلى عمل بالتوحيد.

وتحمل التلبية معان عديدة منها:
• بمعنى إجابة بعد إجابة وكررت إيذانا بتكرير الإجابة، فتتضمن إجابة داع دعاك ومناد ناداك، ولا يصح في لغة ولا عقل إجابة من لا يتكلم ولا يدعو من أجابه.
• انقياد لك بعد انقياد مأخوذة من "لبب الرجل" إذا قبضت على تلابيبه، والمعنى: انقدت لك وسعت نفسي لك خاضعة ذليلة، كما يفعل بمن لبب بردائه وقبض على تلابيبه.
• أنها مأخوذة من لب بالمكان، إذا أقام به ولزمه، والمعنى أنا مقيم على طاعتك ملازم لها، فتتضمن التزام دوام العبودية.
• أن معناها حبا لك بعد حب من قولهم "امرأة لَبًة" إذا كانت محبة لولدها، ولا يقال لبيك إلا لمن تحبه وتعظمه.
• تتضمن الإخلاص مأخوذ من لب الشي، وهو خالصه، ومنه لب الرجل عقله وقلبه.
• تتضمن الاقتراب مأخوذة من الإلباب وهو الاقتراب، أي اقتراب إليك بعد اقتراب.
• أنها شعار التوحيد ملة إبراهيم، الذي هو روح الحج ومقصده، بل روح العبادات كلها والمقصود منها، ولهذا كانت التلبية مفتاح هذه العبادة التي يدخل فيها بها.
• وتشتمل التلبية على:
الحمد لله الذي هو من أحب ما يتقرب به العبد إلى الله.
والاعتراف لله بالنعمة كلها، ولهذا عرفها باللام المفيدة للاستغراق، أي النعم كلها لك، وأنت موليه والمنعم بها.
والاعتراف لأن الملك كلها لله وحده، فلا ملك على الحقيقية لغيره. (انظر مختصر تهذيب السنن لابن القيم 2\335-339).

5. يشعر الحاج وهو يلبي بترابطه مع سائر المخلوقات حيث تتجاوب معه في عبودية الله وتوحيده، يقول الرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من ملب يلبي إلا لبى ما عن يمينه وعن شماله من شجر وحجر حتى تنقطع الأرض من هنا وهنا» يعني عن يمينه وشماله. (رواه ابن خزيمة والبيهقي بسند صحيح).

6. تذكر الآخرة حين يجتمع الناس في صعيد واحد في عرفات وغيرها ليس بينهم تفاضل ولا تغاير الكل في هذا البلد سواء لا فضل لأحد على أحد فيه.

7. الحج شعار الوحدة فإن الحج جعل الناس سواسية في لباسهم وأعمالهم وشعائرهم وقبلتهم وأماكنهم، فلافضل لأحد على أحد: الملك والمملوك الغني والفقير الوجيه والحقير في ميزان واحد الخ.
فالناس سواسية في الحقوق والواجبات، وهم سواسية في هذا البيت لا فضل للساكن فيه على الباد والمسافر فهم كلهم متساوون في البيت الحرام لا فرق بين الألوان والجنسيات وليس لأحد أن يفرق بينهم.
وحدة في المشاعر ووحدة في الشعائر، وحدة في الهدف، وحدة في العمل، وحدة في القول "الناس من آدم، وآدم من تراب لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى".

أكثر من مليوني مسلم يقفون كلهم في موقف واحد، وبلباس واحد، لهدف واحد، وتحت شعار واحد، يدعون ربا واحدا، ويتبعون نبيا واحدا.. وأي وحدة أعظم من هذه.

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ۚ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25].

8. تربية على القناعة في اللباس والسكن حيث يلبس خرقة من قطعيتين فتكفيه، ويسكن في مكان بقدر نومه فيغنيه.

9. إرهاب أهل الكفر والضلال بهذا الاجتماع العظيم للمسلمين فإنهم وإن كانوا مفترقين مختلفين فإن مجرد اجتماعهم على اختلافهم في وقت معين ومكان معين يدل على إمكان اجتماعهم في غيره.

10. بيان أهمية الاجتماع والتآلف بين المسلمين فإن كل إنسان تجده يسافر لوحده بينما عند الحج تجده مع مجموعه....

11. التعرف على أحوال المسلمين من خلال المصادر الموثوقة، حيث يسمع المسلم من أخيه مباشرة.

12. تبادل المنافع والخبرات بين المسلمين عامة.

13. اجتماع أهل الرأي والعلم والحل والعقد من جميع البلدان وتدارس أحوال المسلمين وحاجاتهم، وأهمية تضامنهم وتعاونهم.

14. تحقيق عبودية الله تعالى في وقوفه في المشاعر ورميه للجمار. مع تركه للحرم الذي هو أفضل من تلك البقاع.

15. غفران الذنوب «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه» (صحيح البخاري: 1521).

قال الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني في قصيدته في ذكرى الحج:

وما زال وفد الله يقصد مكة *** إلى أن يرى البيت العتيق وركناه
يطوف به الجاني فيغفر ذنبه *** ويسقط عنه جرمه وخطاياه
فمولى الموالي للزيارة قد دعا *** أنقعد عنها والمزور هو الله
نحج لبيت حجه الرسل قبلنا *** لنشهد نفعا في الكتاب وعدناه
فيا من أساء يا من عصى لو رأيتنا *** وأوزارنا ترمى ويرحمنا الله
وودعت الحجاج بيت إلهها *** وكلهم تجري من الحزن عيناه
ووالله لولا أن نؤمل عودة *** إليه لذقنا الموت حين فجعناه



16. فتح باب الأمل لأهل المعاصي وتربيتهم على تركها ونبذها في تلك المشاعر؛ حيث يتركون كثيرا من عاداتهم السيئة خلال فترة الحج وفي المشاعر.

17. بيان أن الإسلام دين النظام ففي الحج ترتيب للمناسك والوقت فلا يتقدم شيء على الآخر كل عمل في مكانه وفي وقته المحدد له.

18. تربية النفس على النفقة في وجوه الخير والبعد عن الشح فالحاج يبذل الأموال الكثيرة من أجل الحج في الراحلة وفي الطريق وفي المشاعر.

19. اكتساب تقوى القلوب وصلاحها بتعظيم شعائر الله. يقول الله تعالى : {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّـهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].

20. تربية للأغنياء بترك تميزهم في لباسهم وسكنهم ومساواتهم للفقراء في اللباس والمشاعر من طواف وسعي ورمي. وفي هذا تربية لهم على التواضع، ومعرفة حقارة الدنيا.

21. مداومة الحاج على الطاعة وذكر الله تعالى في أيام الحج وهو ينتقل من مشعر إلى مشعر ومن عمل إلى آخر وهذا بمثابة دورة سنوية مكثفة في طاعة الله وذكره.

22. تربية النفس على الإحسان إلى الناس فيرشد الضال، ويعلم الجاهل، ويساعد الفقير، ويقف مع العاجز والضعيف.

23. التخلق بالأخلاق الحسنة من الحلم وتحمل الأذى من الخلق، فإن الحاج لابد له من أن يتعرض لمزاحمة أو مخاصمة أو غير ذلك. قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:179].

24. التربية على الصبر وتحمل المشقة من حر وطول طريق وبعد عن الأهل وتردد بين المشاعر وزحام فيها.

25. التدرب على ترك العادات والتقاليد والمألوفات، فإن الحاج ملزم بكشف رأسه وترك لباسه. وسيترك ما اعتاده من سكن وطعام وشراب.

26. في سعي الحاج بين الصفا والمروة يتذكر أن من أطاع الله وتوكل عليه واعتصم به فإنه لا يضيع ويرفع ذكره فهذه هاجر أم إسماعيل عليهما السلام لما قالت لإبراهيم : "آلله أمرك بهذا" قال: "نعم" قالت: اذهب فلن يضيعنا" فرفع الله ذكرها وبدأ الناس يسعون مثلها بما فيهم الأنبياء عليهم السلام.

27. تربية النفس على عدم اليأس من روح الله مهما اشتدت الخطوب وعظمت الكروب فإن الله بيده الفرج فهذه أم إسماعيل كاد وليدها أن يهلك وبدأت تركض من جبل إلى آخر تتطلع للفرج فأتاها من حيث لا تحتسب إذ نزل الملك فضرب الأرض فخرج ماء زمزم.

28. ماء زمزم وما فيه من شفاء لأمراض القلوب والأبدان.

29. يتذكر الحاج أنه في هذه المشاعر في ضيافة الرحمن فاجتماع الحج لم تدع له حكومة ولاهيئة ولا ملك ولا رئيس، إنما دعا إليه رب العالمين، وجعله مقاما يلتقي فيه المسلمون على قدم المساواة لا فضل فيه لأحد على أحد. قال تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:28]، وروى النسائي عن أبي هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَفْدُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثَلاثَةٌ الْغَازِي وَالْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ» (الألباني: صحيح النسائي: 3121).

30. الموالاة للمؤمنين يتمثل ذلك بقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا » (صحيح البخاري: 5550).

31. موسم الحج هو الموسم الوحيد الذي تبرز فيه المفاصلة التامة مع أهل الشرك والكفر ويحضر عدم حضورهم بأي وجه كان. حيث حضر عليهم دخول منطقة الحرم في كل وقت مهما كان المقصد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا ۚ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّـهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ ۚ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:28].
أخرج البخاري أن أبا هريرة قال:" بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في المؤذنين، بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى: أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان".


د. يحي بن إبراهيم اليحي
 

المصدر: موقع الشيخ يحيى اليحيى
  • 52
  • 0
  • 16,018

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً