الصفح الجميل
و المظلوم مخير بين واحدة من ثلاث خصال: إما أن يستوفي حقه، وهو العدل، وهو فعل الصالحين. وإما أن يأخذ أكثر من حقه، و هو صفة الأرذال و الظلمة. و إما أن يعفو و يصفح، وهو اختيار الأنبياء و الصديقين. فإذا كان الصفح معه إحسان، فذلك الصفح الجميل.
بسم الله، و الحمد لله، و الصلاة و السلام على رسول الله.
أما بعد،
المقدمة:
إن المجتمع الإسلامي مجتمع متميز، أساسه العقيدة الصحيحة و أركانه: عبادة صادقة، ومعاملة حسنة، وخلق قويم، وحرص على عمل الخير.
والسلف كانوا إن تمكنوا من فعل الخير فعلوه، و إن فاتتهم تأسفوا على فواته، لأن فرص الخير تمرّ سانحة، فعلى المسلم اغتنامها، كما في الحديث عنه صلى الله عليه و سلم: «من فتح عليه باب من الخير فلينتهزه، فإنه لا يدري متى يُغلق».
و المتدبر لكتاب الله يلاحظ "أن الله ذكر القبيح ليجتنب، و ذكر الأدون الأقل لئلا ترغب فيه و ذكر الأحسن لتؤثره و تفضله" كما قال الحسن رحمه الله.
و استمع معي إلى قوله تعالى في سورة الزمر: {وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر:54-55]، و قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم} يعني القرآن، فهو كله حسن (فأحسن) اسم تفضيل مستعمل في معنى كامل الحسن، و ليس من باب التفضيل، لأن جميع ما في القرآن حسن. و هذا في العربية مستعمل، قال الفرزدق:
أي عزيزة طويلة.
فالله عزّ و جل يريد أن يؤدبنا بأعلى الآداب، و أفضلها حتى نكون متمزين في سلوكنا و أخلاقنا ليكون ذلك عامل جذب لهذا الدين؛ و لهذا أمرنا ربنا بكل جميل، و بالأكمل من كل خير، و إن كان الكمال طيبة فالأكمل أطيب منه.
فالجزع في المصيبة مستقبح، و الصبر طيب تؤجر عليه، ولكن الصبر الجميل أفضل منه. والهجر لمن لا يلتزم حدود الله مجاهراً طيب، و لكن الهجر الجميل الذي لا عتاب معه أفضل منه. و الصفح عن زلات المسلم خير، و لكن الصفح الجميل أكثر ثواباً منه.
نتكلم اليوم بتوفيق الله عن (الصفح الجميل)؛ لأنه من الطاعات التي أمرنا ربنا بها، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ۖ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر:85]، فتعالوا نستعرض ما هو الصفح الجميل:
تعريفه:
أصل معنى "الصفح" الجنب، ومنه صفحتا السيف؛ أي جانباه و منه "الصفوح": وهو المائل المبتعد، المعرض عن عقوبة من آذاه. لذلك وصفت عائشة الصديق أباها بقولها: "كان صفوحاً عن الجاهلين" أي عفّواً، ومنه امرأة صفوح: أي تعرض عن الوحل و تبتعد، كما قال الشاعر:
و أصل الصفح الإعراض بصفحة وجهه عن ذنبه. و لذلك كان وصفاً لله تعالى، فهو عزّ و جل "الصفوح" أي العفو عن ذنب العباد، المعرض عن مجازاتهم تكرماً منه، و لذلك لما سألت عائشة رسول الله صلى الله عليه و سلم ماذا تقول إذا رأت ليلة القدر؟ قال صلى الله عليه و سلم: قولي: «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني».
فالعفو: هو مسح أثر الذنب الذي فعله غيرك معك، ولكن قد يكون أثره باقياً في النفس.
والصفح: هو العفو مع القدرة على الانتقام، مع إخراج أثر الذنب والخطيئة من بالك.
ولكن الذي يرضاه ربنا و يحبه هو الصفح الجميل: و هو الذي يترقى فيه المؤمن إلى الإحسان إلى من أساء إليه.
فهذه مراحل تبينها الآية: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]. قد يقال لماذا هذا التقسيم؟ و الجواب: إن هذه مراحل في التربية، ذلك أن الإسلام يريد من أهله أن يعاملوا من أساء إليهم بالعفو لعل الوعي الإيماني يستيقظ فيهم و يقولوا: و الله لقد أحسنوا إلينا و أسأنا إليهم، أو يخجلون فلا يقفون في وجه الدعوة.
فالله عزّ و جل أمر رسوله أن يستعبد النفوس بالإحسان، و هو أمر فوق العفو، و فوق الصفح، إنه الصفح الجميل الذي تحسن فيه إلى من أساء إليك. ولكن هناك نفوس لا يستعبدها إحسان، بل و تتمرد على الخير و الحق فما الموقف؟ و الجواب: إنه لا بد عندها من أن يشمر المؤمن عن ساعد الجد و يفعل ما يأمره الله له، فلا بد من الحزم عندئذ، و هكذا خاطب الله عزّ و جل نبيه بقوله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّـهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة:109] و هذا التعبير: {حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّـهُ بِأَمْرِهِ} تهديد ووعيد، أي سنأمرك يا محمد بتأديبهم في مرحلة آتية لاحقة.
قال العلماء: "وهذه عملية فطرية إنسانية و قد عرفها العرب قبل الإسلام و جاء الإسلام فأكدها". فقد كان العربي يحسن إلى عدوه مرة ومرة ومرة، وعندما يرى أن الإحسان لم يثمر، قام إلى القوة. نلمس هذا في قول الشاعر و هو (الفند الزماني) واسمه (شهد بن شيبان)، شاعر جاهلي من أهل اليمامة، سمّي بالفند لعظم خلقته، تشبيهاً له بفند الجبل وهو القطعة منه. توفي سنة 70 قبل الهجرة النبوية كما ذكر الزركلي في الأعلام:
عسى الأيام أن يرجعن *** أقواما كما كانوا
فلما صرح الشر *** وأمسى وهو عريان
ولم يبق سوى العدوان *** دنا لهم كما دانوا
وفي الشر نجاة حين *** لا ينجيك إحسان
و بعض الحلم عن الجهل *** للذلة إذعان
ومنه قول الشاعر:
من الحلم أن تستعمل الحزم دونه *** إذا لم يسع بالحلم ما أنت عازمه
وللصفح حدود: فإذا تمادى أهل الباطل، وظنوا أن عفوك و صفحك ضعف فلا بد عندئذ من النكال، قال تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ ۚ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:89] أي اصفح عنهم قولاً و فعلاً فإن أصروا على باطلهم وظلمهم، فلا بد من الجلاء و الجهاد.
و للصفح حدوده الشرعية كذلك، وبخاصة عندما يكون الباغي معلناً، فالتأديب أفضل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى:40]. قال النخعي: "كانوا –الصحابة- يكرهون أن يذلوا أنفسهم حتى لا يتجرأ الفساق عليهم، و كانوا إذا قدروا عفوا و للصفح حدوده".
فلك يا عبد الله أن تصفح و تعفو في أمر شخصي، فقد تكون الزلّة من كريم، أو فلتة من صالح فالعفو و الصفح هنا أفضل: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّـهِ} [الشورى:40] و هكذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم. ولكنه عليه الصلاة و السلام لا يسكت عن انتهاك الشريعة، فقد ورد عن عائشة قولها: "ما انتقم رسول الله صلى الله عليه و سلم قط إلا أن تنتهك حرمات الله"
فضل هذا الصفح وثوابه:
يكفينا في بيان ثوابه وفضله حديث عقبة بن عامر، قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فابتدرني، فأخذ بيدي فقال: «يا عقبة ألا أخبرك بأفضل أخلاق الدنيا و الآخرة، تصل من قطعك، و تعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك». ذلك لأن العفو يجعلك تعيش في الدنيا عزيزاً، سليم الصدر، بعيداً عن الحقد و عن معاداة الرجال، لأن معاداة الرجال تجعلك تعيش في قلق و أرق، و لذلك يقول الشاعر:
بلوت الناس قرناً بعد قرن *** فلم أر غير خلاّب وقال
و ذقت مرارة الأشياء جمعاً *** فما طعمٌ أمرّ من السؤال
ولم أر في الخطوب أشد هولاً ** و أصعب من معاداة الرجال
بل الصفح سبيل إلى زيادة عزّ الرجل؛ ففي الحديث أنه صلى الله عليه و سلم قال للصدّيق: «يا أبا بكر، ثلاث كلهن حق، ما من عبد ظلم بمظلمة فيفضي عنها لله تعالى إلا أعزه الله، و ما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بأكثر، وما من رجل يفتح باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله بها قلة»، و في الحديث: «ما زاد الله عبداً يعفو إلا عزّة»، و في الحديث: «التواضع لا يزيد العبد إلا رفقه، و العفو لا يزيد العبد إلا عزّاً، فاعفوا يعزكم الله».
و العفو و الصفح يجعلك -يا عبد الله و يا أمة الله- تحشر مع أهل الفضل، فقد روى أبو نعيم الحافظ عن علي بن الحسين قال: إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: "أيكم أهل الفضل؟"، فيقوم ناس من الناس، فيقال: "انطلقوا إلى الجنة"، فتتلقاهم الملائكة: "إلى أين؟"، فيقولون: "إلى الجنة"، قالوا: "قبل الحساب؟"، قالوا: "نعم"، قالوا: "من أنتم؟"، قالوا: "نحن أهل الفضل"، قالوا: "وما كان فضلكم؟"، قالوا: "إذا جهل علينا حلمنا، و إذا ظلمنا صبرنا، و إذا سيء إلينا عفونا"، فيقال لهم: "ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين". و من حديث أنس أنه صلى الله عليه و سلم قال: «إذا وقف العباد يوم القيامة، نادى منادٍ ليقم من كان أجره على الله فليدخل الجنة، فى يقوم إلا من عفا».
من أخلاق السلف في هذا الباب:
فالرسول صلى الله عليه و سلم كان سيد من عفا، ولذلك لما أنزل الله عزّ و جل عليه قوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، قال: «ماهذا يا جبريل؟»، قال: "أن تعطي من حرمكـ و تصل من قطعك، و تصفح عمن ظلمك". ولذلك عفا صلى الله عليه و سلم عن لبيد بن الأعصم لما سحره، و عن المرأة التي سممته.
و لنأت إلى يوسف الصدّيق عليه و على نبينا السلام، كان يكثر من الشكر لله على خروجه من السجن، و سكت عن الشكر لله لإخراجه من الجبّ، لماذا؟ قالوا: "لأنه إذا ذكر الجبّ كان هذا الذكر كالتوبيخ لإخوته، فلا يكون عندها صفحه جميلاً.
وهذا الصدّيق أبو بكر، سيد من سادات الصفح، فعفا عن مسطح بن أثاثة بعد أن طعن في عرض الصدّيق زوراً و بهتاناً، و نزل في ذلك قوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّـهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور:22].
وورد هم هاي رضي الله تعالى عنه أنه دعا غلامه ثلاثاً فلم يجب، فقام إليه فقال: "ما منعك من إجابتي؟"، قال: "أمنت عقوبتك"، قال علي: "أنت حرّ لوجه الله".
و كان الحسن يقول: "لو شتمني رجل في أذني اليسرى و اعتذر إلي في أذني اليمنى، لقبلت و صفحت".
و لما ضرب جعفر العباسي -أحد أمراء بني العباس- الإمام مالك حتى أغمي عليه و حمل، فلما أفاق قال مالك: "أشهدكم أني عفوت عن ضاربي"، و لما سُئل: "لماذا عفوت عنه؟" قال: "خفت أن أموت و ألقى النبي يوم القيامة فأستحي منه أن يدخل بعض أقربائه النار بسببي"، و لما حضر أبو جعفر المنصور إلى المدينة، أحضر مالكاً ليقتصّ من جعفر العباسي، فقال مالك: "أعوذ بالله، و الله ما رفع السوط في يده إلا و سامحته لقرابته من رسول الله صلى الله عليه و سلم".
و كانت أم المؤمنين عائشة تبكي جارية لها بعد موتها، و لما سُئلت: "لم ذلك؟" قالت: "أبكي حسرة على ما فاتني من فضيلة العفو عنها لأنها كانت سيئة الخلق".
قال المؤرخون: ودخل راهب على هشام بن عبد الملك، قال هشام للراهب: "أرأيت ذا القرنين؟ أكان نبياً؟"، فقال الراهب: "لا، و لكنه أعطي ما أعطي بأربع خصال كن فيه: كان إذا قدر عفا، و إذا وعد وفى، و إذا حدّث صدق، و لا يجمع شغل اليوم لغد".
و حدّث مبارك بن فضالة قال: "وفد على المنصور العباسي وفد من أهل البصرة فكنت عنده، إذا أتي برجل فأمر بقتله،فقلت: "يقتل رجل من المسلمين و أنا حاضر؟!"، فقلت: "يا أمير المؤمنين ألا أحدثك بحديث سمعته من الحسن؟"، قال: "وما هو؟"، قلت: "سمعته يقول: إذا كان يوم القيامة جمع الله عز و جل الناس في صعيد واحد حيث يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، فيقوم مناد فينادي: "من له عند الله يد فليقم"، فلا يقوم إلا من عفا"، فقال: "والله لقد سمعته من الحسن"، فقلت: "والله لسمعته منه"، فقال: "خلوا سبيله".
و المظلوم مخير بين واحدة من ثلاث خصال:
إما أن يستوفي حقه، وهو العدل، وهو فعل الصالحين.
وإما أن يأخذ أكثر من حقه، و هو صفة الأرذال و الظلمة.
و إما أن يعفو و يصفح، وهو اختيار الأنبياء و الصديقين.
فإذا كان الصفح معه إحسان، فذلك الصفح الجميل الذي رغّب الله فيخ، فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ. وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّـهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى:39-40].
- التصنيف:
نور
منذ