نعمة البصر وحاجتنا لفقه البصيرة

منذ 2013-02-08

إن نعمة البصر من أعظم النعم إذا استخدمها العبد في طاعة الله عز وجل، وفيما يعود عليه بالنفع في دنياه وآخرته أما إذا كانت خلاف ذلك، فإن نعمة البصر قد تكون سببًا للحسرة في الدنيا والندامة في الآخرة، فكم من ذنوب ومعاصي كان سببها النظر الحرام ولذا جاء الأمر الإلهي للمؤمنين كآفة بغض البصر وحفظه، أما البصيرة أن يكون عندنا يقين بأننا سنرحل عن هذه الدنيا ولن يبقى فيها أحد، عند ذلك يختفي الجشع والطمع وغمط حقوق الآخرين والاعتداء على أموالهم وأعراضهم ودمائهم وأن الله سيقتص من الظالم والمعتدي في الدنيا قبل الآخرة.


الخطبة الأولى:

الحمد للهِ عزَّ واقتَدَر، وعَلا وقهَر، لا محيدَ عنه ولا مفرّ، أحمده سبحانه وأشكُره وقد تأذَّن بالزيادةِ لمن شكرَ، وأتوب إليه وأستَغفره يقبَل توبة عبدِه إذا أنابَ واستغفَر، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له شهادةً تنجِي قائلَها يومَ العرضِ الأكبر.

 

إذا المرء لم يلبس ثيابًا من التقى *** تقلب عريانًا وإن كان كاسيًا
وخير لباس المرء طاعة ربه *** ولا خير فيمن كان لله عاصيًا



وأشهد أنّ سيِّدنا ونبينا محمَدًا عبد الله ورسوله سيّد البشر الشافع المشفَّع في المحشر، صلّى الله وسلَّم وبَارَك عليه وعلى آلِه الأطهار الأخيَار وأصحابِه والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسلّم تسليمًا كثيرًا ما اتّصَلت عين بنظرٍ وأذُن بخبر أما بعد:

عباد الله: لقد أسبغ الله علينا نعمه، وأتم علينا فضله، فنعمه لا تعد ولا تحصى، وإن من أعظم تلك النعم نعمة البصر يقول الله جل جلاله: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [الملك:23] وقال تعالى: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة:9] وشكر هذه النعمة من أوجب الواجبات على العبد، حيث لا يكافئها عمل الليل والنهار وإن بلغ عمر الإنسان كله، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [النحل:78].
لماذا؟ {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]، ذلك إن العين لهي الدرة الثمينة التي لا تقدر بثمن، وقد سماها الله تعالى الحبيبة والكريمة، كما جاء في حديث رواه البخاري والترمذي وابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل قال: إذا أخذت كريمتي عبدي فصبر واحتسب لم أرض له ثوابًا دون الجنة..» وفي رواية: «حبيبتي عبدي».


إن خلق العين من أعظم أسرار قدرة الخالق عز وجل، فهي برغم صغرها بالنسبة إلى كل المخلوقات من حولها، فإنها تتسع لرؤية كل هذا الكون الضخم بما فيه من سماوات وأراضين وبحار وجبال وأنهار وأشجار وكل المخلوقات... والبصر مرآة الجسم، وآلة التمييز، وهو النافذة التي يطل منها على العالم الخارجي، ويكشف بها عن أسرار الأشكال والأحجام والألوان، وبالعين يتفكر الإنسان في نعم الله عليه وفي هذا الجمال الذي أودعه الله في هذا الكون الفسيح قال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ} [السجدة:27].

وبالعين يدفع الإنسان عن نفسه الكثير من الشرور وبها يتعلم الكثير من المعارف والعلوم وبها تشّيد الحضارات وتبنى الأمم وتتعارف القبائل والشعوب وبها يستدل على عظمة الله ووحدانيته سبحانه وتعالى القائل: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ . وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ . وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَت . وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17-20]، ولذلك فإن الأعرابي في الصحراء استدل على وحدانية الله من خلال النظر في خلقه فقال: "البعرة تدل على البعير، وأثر السير يدل على المسير، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، أفلا تدل على اللطيف الخبير".

أيها المؤمنون.. عباد الله:
والعين تذرف الدموع لتنظفها من الأوساخ والترسبات وهي تعبير في كثير من الأحيان على ما في داخل النفس من فرح وحزن وما أجمل أن تكون هذه الدموع لله رهبةً وخوفًا وخشيةً منه سبحانه وتعالى القائل عن عباده: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:109] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع» (رواه الترمذي 1633). وقالَ رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظلُّهُ: إِمامٌ عادِلٌ، وشابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ اللَّه تعالى، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّق بالمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا في اللَّه، اجتَمَعا عَلَيهِ وتَفَرَّقَا عَلَيهِ، وَرَجَلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمالٍ، فَقَالَ: إِنّي أَخافُ اللَّه، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةَ فأَخْفاها حتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمالهُ ما تُنْفِقُ يَمِينهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» (رواه البخاري (629) ومسلم (1031))، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله» (رواه الترمذي (1639)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1338)).

عَن ابن مَسعودٍ رضي الله عنه قالَ: "قال لي النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «{C}{C}اقْرَأْ علَّي القُرآنَ{C}{C}»" قلتُ: "يا رسُولَ اللَّه، أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟"، قالَ: «إِني أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي» "فقرَأْتُ عليه سورَةَ النِّساء، حتى جِئْتُ إلى هذِهِ الآية: {{C}{C}فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّة بِشَهيد وِجئْنا بِكَ عَلى هَؤلاءِ شَهِيدًاً{C}{C}} [النساء:40]" قال: «حَسْبُكَ الآن» "فَالْتَفَتّ إِليْهِ، فَإِذَا عِيْناهُ تَذْرِفانِ" (البخاري (4763) ومسلم (800)). وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته! فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي من هذا؟! فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه، فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه، فما بعده أشد منه!»، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما رأيت منظرًاً قط إلاّ القبر أفظع منه!»، وبكى أبو هريرة رضي الله عنه في مرضه، فقيل له: ما يبكيك؟! فقال: "أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكن أبكي على بُعد سفري، وقلة زادي، وإني أمسيت في صعود على جنة أو نار، لا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي".


عباد الله: إن نعمة البصر من أعظم النعم إذا استخدمها العبد في طاعة الله عز وجل، وفيما يعود عليه بالنفع في دنياه وآخرته أما إذا كانت خلاف ذلك، فإن نعمة البصر قد تكون سببًا للحسرة في الدنيا والندامة في الآخرة، فكم من ذنوب ومعاصي كان سببها النظر الحرام ولذا جاء الأمر الإلهي للمؤمنين كآفة بغض البصر وحفظه، إبتلاءاً لهم وتمحيصًا فقال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30]. وقال أيضا: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31].

 

كل الحوادث مبدأها من النظر *** ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها *** فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها *** في أعين الغيد موقوف على خطر
يسر مقلته ما ضر مهجته *** لا مرحبًاً بسرور عاد بالضرر



ولقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً عن إطلاق النظر، فقد قال عندما مر بقوم يجلسون على الطرقات: «إياكم والجلوس على الطرقات، فإن أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر» (رواه البخاري ومسلم).
وعن جرير بن عبد الله قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة، فأمرني أن أصرف بصري» (رواه مسلم ج: 3 ص: 1699).

وقال تعالى: {يعلم خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}، عن منصور قال: "قال ابن عباس: {{C}{C}يعلم خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ{C}{C}} قال: "الرجل يكون في القوم فتمر بهم المرأة فيريهم أنه يغض بصره عنها فإن رأى منهم غفلة نظر إليها فإن خاف أن يفطنوا به غض بصره عنها وقد اطلع الله من قلبه أنه ود أنه نظر إلى إليها" (رواه ابن أبي شيبة ج: 4 ص: 6 (17228)).

وقال ابن رجب: وكان وهب بن الورد يقول: "خاف الله على قدر قدرته عليك واستحي منه على قدر قربه منك". وقال له رجل: عظني، فقال له: "اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك"، وسئل الجنيد بم يستعان على غض البصر؟ قال: "بعلمك أن نظر الله إليك أسبق إلى ما تنظره"، وكان الرجل الجاهلي صاحب الخلق يعتبر النظر إلى محارم الآخرين ونساء القوم من المعايب والتي تنقص من قدر الرجل بين قومه حتى قال عنترة:

 

وأغض طرفي ما بدت لي جارتي *** حتى يواري جارتي مأواها



وعن وكيع قال: "خرجنا مع الثوري في يوم عيد فقال: إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا غض البصر" (حلية الأولياء 7 / 23).

اللهم طهّر قلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور..
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية:

عباد الله: هذا هو البصر وهكذا يجب حفظه وصيانته عن ما حرم الله واستعماله فيما أمر الله، أما البصيرة فهي قوة الإيمان وقوة الملاحظة وقوة الإدراك للمصالح والمفاسد والتفريق بين الحق والباطل والصحيح من الخطأ، وهي نورٌ يقذفه الله في القلوب فكم من أناس يبصرون بأعينهم لكنهم لا يملكون البصيرة وما سعوا إليها وما بحثوا عنها قال تعالى: {{C}{C}أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ{C}{C}} [الحج:46]، يجد الحق أمامه فلا يتبعه ولا يعمل به، أما الباطل فتجده مسارعًاً إليه متفانيًاً في القيام به يدعو إليه ليلاً ونهارًا،ً لا يدرك المصالح من المفاسد ولا يدرك فقه الأولويات يخلط بين الفرض والسنة والواجب والمستحب والحلال والحرام وتتحكم فيه عواطفه وشهواته فلا يحتكم إلى شرع ولا عقل، قال تعالى: {{C}{C}أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ{C}{C}} [الجاثية:23].


وإن من أخطر الأمور التي جنتها الأمة بسبب غياب فقه البصيرة من القلوب، كثرة مشاكلها واختلافها وظهور الفتن ولعل من أخطر هذه الفتن استحلال الدماء وإزهاق الأرواح وإقلاق الأمن وتخويف الناس وتغليب المصالح الخاصة على المصالح العامة، والصراع والخلاف على أتفه الأمور، والانتصار للنفس حتى وإن كانت على باطل. لقد ضعف الإيمان في قلوبنا فضاعت البصيرة وتعلقت القلوب بالدنيا فزاد الشقاء وحلت التعاسة في حياتنا، وتهاون الكثير بالطاعات والعبادات فجفت الأرواح وتبلد الفكر وقست القلوب ولم ينتفع الإنسان بنعم الله عليه فالسمع والبصر وغيرها من نعم الله التي لا تعد ولا تحصى، عندما لا تستخدم فيما خلقت له تصبح وبالاً على صاحبها يقول عز وجل: {{C}{C}وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ{C}{C}} [الأعراف:179] ويقول عز وجل: {{C}{C}أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً{C}{C}} [الفرقان:44].


وفقه البصيرة يحتاج إليه الحاكم والعالم والمربي والسياسي والصحفي ورب الأسرة والموظف والعامل والرجل والمرأة، وفقه البصيرة مرتبط بقوة الإيمان والاتصال بالله والتفكر في مخلوقاته والنظر في عواقب الأعمال والأفعال والسلوكيات، ودراسة تاريخ الشعوب وأحداث الزمان، والنظر في سنن الله في هذه الحياة وكذلك الصبر والتأني وتقدير المصالح والمفاسد والخير والشر عند كل حال.

عباد الله: فقه البصيرة يهدينا لأن نكون معاول بناء لا معاول هدم في مجتمعاتنا وأمتنا فنسعى إلى تآلف القلوب ونشر ثقافة الحب والاحترام والتقدير لبعضنا البعض ونقوي أخوتنا ونحل مشاكلنا بالحوار والحكمة والمصلحة.
البصيرة أن يكون عندنا يقين بأننا سنرحل عن هذه الدنيا ولن يبقى فيها أحد، عند ذلك يختفي الجشع والطمع وغمط حقوق الآخرين والاعتداء على أموالهم وأعراضهم ودمائهم وأن الله سيقتص من الظالم والمعتدي في الدنيا قبل الآخرة.

وفقه البصيرة يدعونا إلى بناء أوطاننا بالعلم والإيمان والبذل والعطاء وتطوير الأوطان وازدهارها في جميع المجالات، يحتاج إلى العلم والعمل والقيام بالمسئوليات وإدراك كل فرد دوره وواجبه، فلا يمكن أن تعيش أمم الأرض من حولنا حياة الأمن والنظام والتقدم الحضاري وبناء الإنسان والعناية به وأمتنا ومجتمعاتنا تعصف بها المشاكل والحروب والصراعات والفقر والتخلف، ونحن خير أمة أخرجت للناس، وما كان هذا ليحدث إلا عندما أهملنا ديننا وتوجيهات ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ونسينا أخوتنا وركنا إلى الدنيا وإلى الذين ظلموا، وعند العودة بصدق إلى تعاليم الإسلام وواجبنا الحضاري وأخلاقنا السامية وقمنا بواجباتنا وأدركنا مسئولياتنا، عندها سيتبدل حالنا وتتغير ظروفنا قال تعالى: {{C}{C}إن اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ{C}{C}} [الرعد:11]، فغيروا ما بأنفسكم إلى ما يحبه الله ويرضى.

اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما يهون علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

يقول الله عز وجل: {{C}{C}وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ . وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ . وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ . وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ{C}{C}} [فاطر:19-22] ويقول الله عز وجل: {{C}{C}وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ{C}{C}} [الأحقاف:26] ويقول عز وجل: {{C}{C}أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً{C}{C}} [الفرقان:44] ويقول عز وجل: {{C}{C}وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ{C}{C}} [الأعراف:179] أجل بم تتميز؟ بالبصيرة.


قال ابن القيم رحمه الله: "قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75]، قال مجاهد يعني للمتفرسين، وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله»، والتوسم التفرس ولهذا خص الله بالآيات والانتفاع بها هؤلاء. وبعث الله الرسل مذكرين ومنبهين ومكملين لما عند الناس من استعداد لقبول الحق بنور الوحي والإيمان فيضاف إلى ذلك نور الفراسة فيصير نورًاً على نور فتقوى البصيرة" (مدارج السالكين 1/110).


لأن البصيرة التي تعرف أن هذا مهم فيقدم، وهذا غير مهم فيؤخر غير موجودة، فإذا جاءت البصيرة بدأ الإنسان يعيد ترتيب قضايا حياته، ويعطي لكل شيء ما يناسبه من الاهتمام. الآن لما عميت بصائر أكثر الناس، ما عرفوا الأمور على حقائقها ولم يروا إلا ما تراه حواسهم فقط، فرأوا الدنيا، فيعيشون للدنيا التي يرونها ويسمعونها ويشمونها ويتذوقونها ويلمسونها ويتمتعون بها، فلها يعيشون، وبها يفرحون، ومن أجلها يغضبون، وفي سبيلها يموتون، وإذا قلت له: آخرة، قال: يا شيخ! فيما بعد، لماذا؟ لأنها ليست في ذهنه، وليست واردة في حساباته؛ لأنه لا يراها، ليس لديه نور ينظر به، وليست عنده بصيرة يستطيع أن يخترق الحجب وأن ينفذ إلى الآخرة، ولذا لا يرى إلا الدنيا، لماذا؟

قال العلماء: هذه الإصبع إذا وضعتها في المكان المناسب رأيتها بحجمها، تضعها أمام عينك فتراها بوضعها الطبيعي ولكنك تراها وترى ما وراءها، لا تستطيع الإصبع أن تحجب الرؤية عن عينيك وأن تسد أفق النظر عما وراءها، فأنا الآن أرى إصبعي وأرى المجلس المملوء بالمؤمنين، وأرى اللمبات والأعمدة، وأرى الميكرفون، وأرى يدي، لكن إذا قربت الإصبع جداً جداً إلى أن تلصقها بعينك ماذا ترى؟ لا ترى إلا الإصبع فقط، يقولون: وراءها مسجد وراءها أناس، تقول: لا..
لا أرى إلا الإصبع، لماذا؟ لأنك ألصقتها، ما وضعتها في المكان المناسب، لكن إذا أبعدتها قليلاً ترى الناس، كذلك الناس ألصقوا الدنيا بقلوبهم، ألصقوا الدنيا بأعينهم، ألصقوا الدنيا بجميع حواسهم فلا يرون إلا الدنيا، ولو أنهم أبعدوا الدنيا قليلاً -لا نقول: يرفضونها وإنما يجعلونها في المكان الصحيح- لرأوا الآخرة، ولرأوا الجنة والنار.


حارثة بن وهب رضي الله عنه وإن كان الحديث فيه مقال، لكنه يستشهد به في مثل هذه الأمور لقيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: «{C}{C}كيف أصبحت يا حارثة؟{C}{C}» قال: "أصبحت مؤمناً يا رسول الله!" قال: «{C}{C}انظر ماذا تقول، فإن لكل قول حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟{C}{C}» قال: "يا رسول الله! عزفت نفسي عن الدنيا وشهواتها؛ فأظمأت نهاري بالصيام، وأسهرت ليلي بالقيام، وأصبحت وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتعاوون فيها"؛ فقال عليه الصلاة والسلام : «{C}{C}عرفت فالزم، إنك امرؤ نور الله قلبك بالإيمان{C}{C}».


إذا أنار الله القلب وفتح البصيرة؛ رأى الإنسان الدنيا والأمور كلها على حقيقتها، ورأى الله في كل شيء.
 

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه الواحد



ينظر إلى السماء فيرى آثار قدرة الله في خلق السماء فيقول: لا إله إلا الله! سبحانك {{C}{C}مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ{C}{C}} [آل عمران:191].
ينظر إلى البحر فيقول: لا إله إلا الله! سبحان من أجراه، ينظر إلى الجبال فيقول: لا إله إلا الله! سبحان من أرساها، ينظر إلى الأرض فيقول: لا إله إلا الله! سبحان من مدها وبسطها، ينظر إلى الثمار فيقول: لا إله إلا الله! سبحان من حلاها وأنبتها، ينظر إلى العسل وهو يأكل ويقول: لا إله إلا الله! سبحان من أخرج هذا العسل من هذه الحشرة، يأكل الموز فيقول: سبحان من أخرج هذا الشيء من الطين! {{C}وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد:4].

لماذا؟ فتح الله بصيرته، لكن البهيمة التي لا تعرف الله وليس عندها إيمان ولا نور تأكل من اللوز ومن الموز ومن اللحم ومن العسل ومن كل شيء، ولا تقول: سبحان الله! ولا تقول: لا إله إلا الله! لماذا؟ مثل الدابة أو الثور أو الحمار -الله يكرمكم- إذا أكل علفاً هل يتفكر في هذا العلف كيف ساقه الله له؟ أبداً، يأكل حتى تمتلئ بطنه ويذهب فيركب أنثاه، وكذلك بعض البشر يعيش حياة البقر وحياة الحمير لا فرق بينه وبين البهائم والعياذ بالله.


حسان أحمد العماري
 

  • 260
  • 50
  • 164,092

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً