قضية أن تكون المرأة أجيرة

منذ 2013-05-07

قبل عقود قليلة من الزمن كان عمل المرأة يشغل اهتمام بعض المثقفين والكتـاب في المملكة العربية السعودية، ولكن من زاوية أخرى مغايرة تماماً للزاوية التي ينظر منها في الحوار الجاري حالياً حول عمل المرأة...


في الحوار والجدل العلمي لابد في البدء من تحرير "محل النزاع" ذلك لأن الحوار والجدل يتنازعه طرفان: مؤيد ومعارض، وينصب فيه التأييد والمعارضة على معنى واحد أو قضية واحـدة وما لم يكن هذا المعنى أو تلك القضية محددين تحديداً دقيقاً وواضحاً متفقاً عليه بين طرفي الحوار والجدل، فإن الحوار في هذه الحالة يصبح عقيما غير منتج بل يصبح نوعاً من لغو الحديث ولغط القول يصح أن يوصف بالوصف العامي الظريف (حوار الطرشان)، في بلدان العالم الإسلامي وبخاصة بلدان العالم العربي منه يحتل الحوار تحت عنوان: "عمل المرأة" مساحة هائلة من مجال الكلام والكتابة، ولأول وهله يخيل للسامع أو القارئ أن الحوار يـدور بين مؤيـد ومعـارض لعمل المرأة أو بطالتها - تخليها عن العمل اضطراراً أو اختياراً - ولكن ما حظ هذا الأمر من الواقعية؟

واضح أن عنونة موضوع الحوار: بعمل المرأة خطأ اصطلاحي كان يمكن التسامح تجاهه لولا أن المتتبع لمسارات الحوار المشـار إليـه لا يشك في وجـود ضرورة ملحة وآنيـة إلى تحرير "محل النزاع" في القضية التي يتناولها الحوار.
وفيما يلي محاولـة لذلك، تبـدأ بالملاحظات الآتيـة:

الملاحظة الأولى:


قبل عقود قليلة من الزمن كان عمل المرأة يشغل اهتمام بعض المثقفين والكتـاب في المملكة العربية السعودية، ولكن من زاوية أخرى مغايرة تماماً للزاوية التي ينظر منها في لحوار الجاري حالياً حول عمل المرأة.

إذ كان أولئك المثقفون متأثرين في الغالب بملاحظات الرحالة الأجانب، وبالوعي بالاعتبارات الإنسانية يعبرون عن معارضتهم لما يعتقدون أنه ظلم ترزح تحته المرأة في بعض المجتمعات إذ تحمل من العمل بما يزيد عن نصيبها العادل في تحمل مسئوليات الأسرة.

فبالإضافة إلى قيامها بوظائف المرأة الطبيعية والتقليدية تقوم بنصيب كبير من عمل الرجل الشاق في الرعي والاحتشاش والاحتطاب واستقاء الماء مشاركة للرجل، أو مستقلة بذلك متيحة له الاستمتاع بوقته متكئاً على رَحْلِه يحتسي القهوة ويتناشد الأشعار مع صحبه من الرجال.

لقد تغيرت هذه الصورة مع الزمن وأتاح لين العيش الذي أنعم الله به على كثير من سكان المملكة وتبدل الظروف الاقتصادية والاجتماعية أتاح للمرأة السعودية أن تتحرر من جزء كبير من العبودية للعمل الشاق، ولكن الصورة الغالبة والسائدة في بلدان العالم الثالث ومنها بلدان العالم الإسلامي تتجلى في أن المرأة في كثير من الأحوال تضطر تحت ضغط ظروف العيش إلى تحمل نصيب كبير من العمل الشاق المرهق الذي يشغل كل وقت يقظتها، دون أن يترك لها فيه جزءاً للراحة والاسترخاء فضلاً عن المتعة والترفيه الذي تحظى به المرأة في المجتمعات الغربية مثلاً.

وعلى سبيل المثال: تمثل النساء في كينيا نسبة عالية من العاملين في الفلاحـة اليدوية حيث يقوم الإنسان بما يقوم به الحيوان أو الآلة فتمضي المرأة وقتها - الذي لا فراغ فيه - في مكابدة العمل في الأرض الشحيحة متحملة نصيبها من العمل فيها ونصيب زوجها الذي يكون في الغالب قد ذهب إلى المدينة للبحث عن عمل أيسر مشقة وأكثر دخلاً حيث ينجح أحياناً ويساهم في أحيان أكثر في رفع نسبة البطالة في الإحصاءات الرسمية.

أما في نيبال فلا أحد يستطيع أن يطبق قانون الحكومة في منع زواج البنت قبل سن الخامسة عشر؛ لأن المرأة قبـل هذا السن تكون محتاجة للزواج من شـاب يحتاج إلى من يشاركه في كفاح العمل في الأرض الجبلية التي لا تكاد تمنحه وزوجته من محصول البطاطس ما يكفي لأن يبقيهما على قيد الحياة.

وأما المرأة الإندونيسية التي تقطع مسافة ربع محيط الكرة الأرضية لتقوم بعبء البيت الخليجي جاهدة ناصبة لمدة ثماني عشرة ساعة في اليوم فربما ترى أن حجم هذا العمل ومشقته أهون وأكثر جدوى اقتصادية من العمل المعتاد للمرأة في القرى الإندونيسية.

وإذا كان هذا هو واقع عمل المرأة في العالم الثالث - ومنه العالم العربي والإسلامي - فإن من المحير أن نسمع هذا الوصف للمرأة النصف العاطل من المجتمع؛ يتكرر على ألسنة محترفي تقديم النصائح للعالم الثالث من خبراء المنظمات العالمية، ولكن الأدعى للحيرة أن نسمع ونقرأ هذا الوصف لازمة لفظية في خطاب المفكرين والكتاب العرب.

الملاحظة الثانية:


أوردت مجلة (البنات) التي تصدر بإشراف الرئاسة العامة لتعليم البنات في المملكة العربية السعودية في عددها الرابع عشر خبراً مضمونه: أن شركة تأمين بريطانية قامت بدراسة للتقييم الاقتصادي لعمل المرأة المتفرغة لإدارة شؤون الأسرة، وكانت نتيجة الدراسة: أن عمل مثل هذه المرأة من حيث الحجم يبلغ معدله تسع عشرة ساعة في اليوم، ومن حيث التقييم المادي يعتبر أثمن شيء تملكه أي أسرة.

الملاحظة الثالثة:


عبر العصور القديمة كان غالب عمل المرأة عملاً حراً، أما العمل المأجور الذي يخطط وينفذ تحت إشراف وسلطة رب العمل أو الرئيس الإداري فقد ظهر على نطاق واسع مع وجود الثورة الصناعية في أوربا، حين احتاجت الصناعة إلى كثير من الأيدي العاملة الرخيصة نظراً لقيام الصناعة في ظل النظام الرأسمالي الذي دافعه وهدفه تحقيق أكبر قدر من الربح، فدخلت المرأة العمل المأجور في الصناعة ثم في غيرها من المشاريع الرأسمالية، وقد عملت المرأة في ظروف قاسية وسيئة وظالمة، وبالرغم من دعوات الإصلاح والدفاع عن حرية المرأة ومساواتها بالرجل إلا أن المرأة - وحتى الآن - في أغلب بلدان العالم الصناعي لا تزال عاجزة عن الحصول على مساواتها بالرجل في ظروف العمل وأجره، وقد بلغت المرأة أعلى درجة من المساواة بالرجل في ظل النظام الشيوعي إذ أن لينين بعد أن أطلق صيحته: "إن الأمة لا تكون حرة إذا كان نصف سكانها تحت نير أعمال المطبخ ".

دخلت المرأة مجالات العمل كلها تقريباً على قدم المساواة مع الرجل، ونتيجة لذلك تحملت مسئوليـة العمل الروتيني في المصنع تحت إشراف وسلطة مقدم العمل، ولم تستثن من الأعمال الشاقـة أو الحقيرة أو القذرة فعملت في حفر الأنفـاق وتنظيف الشوارع (سيكولوجيــة المرأة العاملة: كاميليا عبد الفتاح، صفحات: [44-45-539]).

فدخول المرأة في سوق العمل المأجور - كما نرى - دفع إليه تغيير في قيم المجتمع نتيجة الثورة الصناعية، ثم الفلسفة الاشتراكية.

من الملاحظات الثلاث السابقة نستخلص:


أن المرأة في جميع العصور وفي مختلف المجتمعات عاملة وليست عاطلة ومساهمتها في الإنتاج سواء من الناحية الاقتصادية أو النفعية بوجه عام لا تقل عن مساهمة الرجل؛ بل غالباً ما يكون نصيبها من العمل كما وكيفا أكبر من نصيب الرجل، وفرصتها في الراحة عن العمل أقل من فرصته.

وإذاً فقيام الجدل حول عمل المرأة من حيث هو عمل لا معنى لـه وقضيـة الخـلاف على أن تعمل المرأة أو لا تعمل لا وجود لها.

والقضية الحقيقية التي ينصب الخلاف عليها هي: عمل المرأة أجيرة، هل هو مطلوب ومرغوب ونافع؟ ومتى وتحت أي ظروف يكون ذلك؟

الحوار والجدل حول هـذه القضية ينبغي أن ينصب على ما إذا كان بـذل المرأة نفسها للعمل لقـاء أجر أمر مفضل ينبغي تشجعيـه، ودعوة المرأة إليه والعمل على أن يتيح المجتمع أوسع الفرص له وتقييمه عند المفاضلة والترجيح بأنه أسمى وأنبل وأكثر نفعاً وأكثر تحقيقاً للمصلحة العامة، وأجدى اقتصاديا لها وللمجتمع من عملها الحر أو عملها في مجال الأسرة.

إن هذا في الحقيقة هو محل النزاع إذا أردنا تحرير محل النزاع. وقصر الجدال على القضية محررة بهذا الوصف بالإضافة إلى أنه مقتضى المنطق والمحاكمة العقلية، وسوف يوفر كثيراً من الوقت الضائع والمجهود الذهني الذي يذهب سدى، وسوف يجعل غاية للجدل الذي لا نهاية له ولا حدود.

في الجدل حول: عمل المرأة أجيرة ينبغي الانتباه إلى الحقائق الآتية:


أ - في العمل المأجور يبيع الأجير وقتـه وجهده لقاء ثمن مادي أي يبيع جزءاً من نفسه، هذا يعني أن العمل المأجور نوع من الرق، لا أنسى مرة موظفاً في إحدى الشركات كان يريد أن يعبر لي عن ضغوط عمله فقال بتأثر ظاهر: أنا قن.

ب - لا يعني مـا ذكر تحقير العمل المأجـور أو عيب الأجير كيف ونبي مـن أولي العزم من الرسل كان أجيراً لمدة عشر سنين، كما أن الرق لا يعتبر في كل الأحوال عيباً للرقيق، فالرق لم يعيب يوسف الصدِّيق ولقمان الحكيم.

والشعوب البدائيـة - كما يعبرون - هي وحدهـا التي ينـدر فيها الـرق والعمل المأجـور، أما الحضارات فعلى العكس من ذلك قـامت الحضارة الرومانية على الرق، وقامت حضارة الإقطاع الأوربي على شبه الرق، وقامت الحضارة الأوربية بعد الثورة الصناعية على العمل المأجور.

وفي الحضارة المعاصرة وفي كل البلدان - على اختلافها - في سلم التقدم يتركز إنتاج أغلب السلع والخدمات على العمل المأجور.

إنما قصد من الفقرة:


أ- الإيضاح عن خصيصه للعمل المأجور لا يجوز إغفال اعتبارها عند الموازنة والترجيح بين أنواع الأعمال.

ب- عمل المرأة في الأسرة تحت قوامة زوجها وهامش حرية المرأة في أدائـه واسع أو غير محدود، وصيغة التشاور فيـه أظهر من صيغة الأمر والنهي يظله فيء العاطفة وندى المشاعر، وعلاقـة المرأة بمن له القوامة علاقة المودة والرحمة.

أما عمل المرأة المأجور في سوق العمل فتؤديه تحت قوامة الرئيس الإداري أو رب العمل ذكر أو أنثى، وحرية الاختيار فيه محدودة، ولا مجال فيه للعاطفة الإنسانية وإنما تحكمه صرامة الأوامر ويظله جفاف الروتين، وعلاقة المرأة بمن له القوامة علاقة الآمر والمأمور.

ج- عمل المرأة في الأسرة غاية في ذاته، يلبى للمرأة أشواقها ويحقق لها الإرضاء النفسي أما عمل المرأة المأجور خارج الأسرة فهو وسيلة للحصول على الأجر الذي تحتاجه بدرجات متفاوتة لتحقيق أشواقها ورغباتها.

د - بما أن الإنسان مدنـي بطبعه وأن:


 

النـاس للنـاس من بـدو وحاضرة *** بعض لبعض وإن لم يشعروا خـدم


وأصدق من قول الشاعر وأبلغ وأوضح قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف:32].

فقسمة المعيشة بين الناس في الحياة الدنيا وتسخير بعضهم لبعض اقتضت بذل العمل من الإنسان رجلاً أو امرأة (الوقت والجهد) لقاء عوض من إنسان آخر سواء في ذلك ما يبذله الأجير الخاص والأجير المشترك، والأعمال تتفاوت ولكن العمل المثالي هو ما يكون أكثر ملاءمة للعامل من جميع الوجوه فلا بد في الموازنة بين الأعمال والحكم عليها أن يكون للملاءمة من شتى الوجوه وزنها في الترجيح والاختيار.

الخاتمة:


كما يرى القارئ لم أحكم على عمل المرأة أجيرة مؤيداً ومعارضاً؛ لأن الحكم يختلف باختلاف الظروف ولأني لم أقصد إلى الحكم في هذه القضية، وإنما كان قصدي تحرير محل النزاع بين المؤيدين والمعارضين.


وأرجو أن أكون وفقت وما توفيقي إلا بالله.


 

المصدر: مدونة الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين

صالح بن عبد الرحمن الحصين

الرئيس العام لشئون المسجد الحرام والمسجد النبوي (سابقا)، عضو هيئة كبار العلماء، وعضو المجلس الرئاسي لمركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني بالمملكة العربية السعودية.

  • 14
  • 0
  • 4,413

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً