النظارة البيضاء
إلى متى يعيش الإنسان هذه الحياة؟ وهل لهذه المشاكل والابتلاءات من نهاية؟ وكيف يمكن للإنسان يعيش في ظل هذه الأوضاع بنفس مطمئنة؟ إنك تجدنا قد ملأنا مجالسنا بالحديث عن هذه المشاكل والمصائب كثيراً وهي واقعٌ نعيشه، لكن كيف نواجه مشاكلنا ومصائبنا؟
الحمدُ لله العظيم الشأن، الكبير السلطان، خلق آدمَ من طين ثم قال له كن فكان، أحسن كل شيء خَلْقه وأبدع الإحسان والإتقان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة قامت بها السماوات السبع والأرض المهاد، وخضع لها جميع العباد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب الحوض، وشفيع الخلق يوم المعاد، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيراً.
أمَّا بَعْـــد: عباد الله:
مع صخب الحياة ومتطلباتها ومشاكلها، ومع كثرة النزاعات والفتن والحروب التي تعصف بالدول والشعوب والمجتمعات، ومع تعدد الكوارث والحوادث، ومع حلول الأمراض والأوبئة، يتساءل المرء: إلى متى يعيش الإنسان هذه الحياة؟ وهل لهذه المشاكل والابتلاءات من نهاية؟ وكيف يمكن للإنسان يعيش في ظل هذه الأوضاع بنفس مطمئنة؟ إنك تجدنا قد ملأنا مجالسنا بالحديث عن هذه المشاكل والمصائب كثيراً وهي واقعٌ نعيشه، لكن كيف نواجه مشاكلنا ومصائبنا؟ إننا دائماً في مجالسنا ننظر إليها بعيوننا الصغيرة وأنظارنا القصيرة، و غالب العيون في النظر لتلكم المصائب والفتن معلقة بظواهرها فامتلأت الألسن سباً وجزعاً وجلداً دائماً ليته للذات فحسب، بل للمجتمع وللساسة وللعالم ولكل من حوله في حديثٍ مكرر تقوم المجالس عليه وتنتهي،
إخواني: دعونا ننظر إلى القرآن الكريم وإلى السنة النبوية وإلى سيرة الأنبياء وسيرة خير البشر كيف نظروا لتلك المشاكل والمصائب والفتن؟ وكيف استقبلوها؟
عباد الله: مهما زانت الحياة الدنيا فكبدها ولأواءها لا شك أنه أمام الإنسان، بل خلقه الله في أتونه {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، ولقد أحسن في وصف الدنيا الإمام علي رضي الله عنه فقال: "دار أولها بكاء، وأوسطها عناء، وآخرها فناء". والدنيا بفرحها وقرحها هي ابتلاء ومس، نعماء وضراء {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]، ومن والله أيقن بذلك قوي إيمانه، وتعلق بالله جنانه، وعمت بالرضا أحزانه، وكانت القناعة والحمد عنوانه، والصبر والأمل بالله سلوانه، خفيُّ القدرِ عند مقدِره، وكتابُ القضاءِ والبلاءِ عند مُسطِّرِه {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59]، وإننا نقول هذا المقال ونحن جميعاً الآن نسلم له ولكن الكثير واقعهم يخالفه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11].
أحبتي: سواد الليل يأتي بعده ضياء الصباح، وإن البرق والرعد مهما كانت شدته وخاف الناس من سطوته فإنه يأتي محملاً بالأمطار والخير
إذا اشْتَمَلَتْ على اليأسِ القلوبُ *** وضاقَ لما بهِ الصدرُ الرحيبُ
ولم تَرَ لانْكِشَافِ الضُّرِّ وَجْهـَاً *** ولا أغنـى بحيلتـِه الأريـبُ
أتاك على قُنُـوطٍ منك غَـوْثٌ *** يَمُـنُّ به اللطيفُ المسـتجيبُ
وكل الحـادثاتِ وإنْ تَنَـاهَتْ *** فموصـولٌ بها الفرجِ القريب
نعم إنه التفاؤل نظارةٌ بيضاء، يعلم لابسها أن الله قد أحاطَ بكل شيءٍ علمًا، وأحصى كل شيءٍ عددًا، ووسِعَ كل شيءٍ رحمةً وعلمًا، التفاؤل نظارة بيضاء يترقب لابسها الفرج من بين الأزمات، وهل يكون انتظار الفرج إلا في الأزمات؟ وهل التفاؤل إلا حسن ظن بالله؟ وهل يُطلَبُ حسنُ الظن إلا في المُلِمَّات؟ يقول ربكم في الحديث القدسي عزَّ شأنه: «أنا عند ظنِّ عبدي بي فليظنَّ بي ما شاء» (صحيح الجامع:4316)، والمؤمنون قال الله فيهم: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]، وقال في آخرين: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح:12]، وقال تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:23].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "والذي لا إله غيره؛ ما أُعطِي عبدٌ مؤمنٌ شيئًا خيرًا من حُسن الظنِّ بالله، والذي لا إله غيره؛ لا يُحسِن عبدٌ بالله عز وجل الظنَّ إلا أعطاه الله عز وجل ظنَّه؛ ذلك بأن الخير بيده". وفي الحديث: «إذا تمنَّى أحدُكم فليستكثِر؛ فإنما يسأل ربَّه» (حديثٌ صحيح على شرط الشيخين).
عباد الله: الأنبياء هم عند الله الأصفياء وقد بهم مرَّ بهم من أنواع البلاء وصنوف الضراءألوانٌ وألوان، الفقر والقتل والجرح والحصار، والسب والتعذيب والمرض، وإنك لن تجد صنفاً من البلايا إلا مرَّ بهم أشده رفعة لهم وقدوة لمن تبعهم، ومع ذلك كانوا يستقبلونها بابتسامة الرضا، والتسليم للقضاء.
أوما تقدم السن بنبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وشاب الرأس ورق العظم ليأتي له الرازق العظيم بالولد تسوق بشارته إليه ملائكة الرحمن، في كبرٍ ما كان يرجوا معه ولدا {أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِي الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر:54]، {قالوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنْ الْقَانِطِينَ . قال وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} [الحجر:55، 56]، فيا من حرم الذرية لا تيأس من رحمة الله، وتفاءل برزق الله.
أو ما تبع فرعون بجنده وعتاده، وبطشه واستبداده موسى عليه السلام وقومه حتى بلغوا البحر الخضم، بالله عليكم استحضروا المشهد من خلفهم جيش بطش عرمرم، وأمامهم بحر خضم! قولوا لي بالله بنوافذ الدنيا، وعيون أهل الدنيا، أي فرج يظن هنا؟! ولذا صاح قوم موسى: {إِنّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:1]، لكن النفس العظيمة التي علقت فألها بربها موسى عليه السلام صاح بها: {قَالَ كَلاّ إِنّ مَعِيَ رَبّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، فإذا بالعظيم جل جلاله يجيبه، ويأتي الفارج الكبير بالفرج من حيث لا يحتسب البشر، وما البشر وضوائقهم عند الله: {فَأَوْحَيْنَآ إِلَىَ مُوسَىَ أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلّ فِرْقٍ كَالطّوْدِ الْعَظِيمِ الله} [الشعراء:63]، الله أكبر! يوقف الله البحار لمن؟ لمن أحسن الظن به، لمن استبشر به، لمن استروحت روحه روح الله.
أو ليس من أوقف أمواج البحار، ويبس المجاري بينها فكأنها من يبسها قفار، أو ليس هو القادر على كشف الأضرار، ومحو المصائب والآثار؟ تفاءلوا بربكم خيرا، وأملو في ربكم خيرا، ولقد كان نبينا إماماً في التفاؤل والثقة بوعد الله، والمتأمّل في السيرة يجد ذلك، يخاطب يوماً عدي بن حاتم يبشّره ويقول، كما روى ابن هشام في سيرته: «لعلّك» -يا عديّ- «إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم» -أي: حاجة المسلمين وفقرهم- «فو الله! ليوشكنّ المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه! ولعلّك إنما يمنعك من الدخول فيه ما ترى من كثرة عدوّهم وقلّة عددهم، فو الله! ليوشكنّ أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور البيت لا تخاف! ولعلك إنما يمنعك من الدخول أنك ترى الملك والسلطان في غيرهم، وأيمُ الله! ليوشكنّ أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم»"، قال عديّ: "فأسلمت".
قعد تحت شجرة وقد طرده أهل الطائف وجراحه تسيل دما، وقد مشى عشرات الكيلو مترات من التعب حتى جلس فلما جاءه جبريل قال: «إن الله يقول هذا ملك الجبال مره بما شئت -فيقول- لا، بل أستأني بهم» (لم أجد له أصل)، سوف أصبر على كفار مكة، أصبر على أبي جهل وأصبر على أبي لهب وعلى أمية بن خلف، بل أصبر؛ بل أستأني بهم؛ انظر إلى قمة التفاؤل، يقول: « » (صحيح مسلم:1795)، أنا أنظر إلى جسد أبي جهل، صحيح أنه جسد كافر، أنه جسد ضال، أنه جسد محارب، لكن فيه شيء من الجوانب المشرقة أن الله قد يخرج من صلبه -من ذريته- من يعبد الله لا يشرك به شيئاً، قمة التفاؤل، ووقع ربي ما تفاءل به فخرج من صلبه قائد من قواد الجهاد عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه وغيره.
صلى عليك الله يا علم الهدى *** ما حن مشتاق إلى لقياك
اللهم صل وسلم عليه ليلاً ونهارا، واستغفروا ربكم إنه كان غفارا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، إخوة الإسلام: تأمَّلوا هذه المقارنات والموازنات: المتفائل ينظرُ إلى الحل، والمتشائم ينظرُ في المشكلة، المتفائل مُجِدٌّ على الدوام لا يعرفُ الإحباطَ والضررَ، يرى الحياةَ حقًّا له وحقًّا للآخرين، والمتشائم جلاَّد نفسه يرى غيرَه أسعدَ منه، ثم هو يريدُ أن يكون أسعدَ من الآخرين، وهل مثلُ هذا يُحقِّقُ السعادة؟
المتفائل يرى ضوءًا لا يراه الآخرون، والمتشائم يعمَى أن يرى الضوءَ الذي أمام ناظرَيْه، المتفائل مستفيدٌ من ماضيه، مُتحمِّسٌ لحاضره، مُستشرفٌ لمُستقبَلِه، والمتشائم أسيرٌ لماضيه، مُحبَطٌ من حاضره، هليعٌ على مُستقبَلِه، المتفائل يطلُبُ المعاذير والمخارج لسلامة طوِيَّته وانشراح صدره، والمتشائم يشتغِلُ بالعيوب ويحشُرُ نفسَه في المضائق لظُلمة باطنه.
المتشائم يحسَبُ كل صيحةٍ عليه، يجوعُ وهو شبعان، ويفتقِر وهو غني، {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268]، المتشائم يذكُر النعَمَ المفقودة ويعمَى عن النعَم الموجودة.
عباد الله: ألستم تنشدون السعادة، ألا وإن سعادةُ المرء ليست في تمنِّي ما ليس عنده، ولكنها بحُسن الاستمتاع فيما عنده، والسعادة ليست محطة وصول ولكنها مسيرةُ الحياة كلها، بالمال تشتري السرير ولكنك لا تشتري النوم، وتشتري الساعة ولكنك لا تشتري الوقت، وتشتري المنزل ولكنك لا تشتري الراحةَ والسعادةَ.
وبعد عباد الله: فالتفاؤل لا يُنكِر الواقع، ولا يستهينُ بالمُشكِلات، ولا يُهمِلُ الأسباب، ولا أخذَ الحزم من الأمور والاحتياط في المسالك، "ولكن الله عز وجل لقِسطه جعل الفرحَ والروحَ والسرورَ وراحةَ النفس وسكينتها وسلامتَها في الرضا واليقين، وجعل الغمَّ والحَزَن في السخَط والشك" (رواه البيهقي والطبراني في: الكبير)، فلا تُفسِد حفِظَك الله حاضِرك حُزنًا على ماضيك؛ فالتفاؤل في المُستقبل هو الشاهدُ على صحة العقل وصفاء النفس، وقد قالوا: "إن البكاءَ لا يُعيدُ الميتَ إلى الحياة، ولكن يُعيدُه الدعاءُ والثناءُ والذكرُ الحسن والأثرُ الطيبُ".
يا سامعي: ليس التفاؤل كلاماً ننثره نخادع بها أنفسنا، ونغطي به عوار واقعنا، ونزيف به حالنا، لا التفاؤل عمل، وعندما أقول عمل، أعني أول ما أعني هو عملك أنت، عبادتك صلاحك وإصلاحك، فإذا عملت فتفاءل بالرحيم الرازق المعطي الجواد خيرا، مهما كانت سحب المصائب أمامك سوداء، فكم اسودت فأخافت ثم تنزلت منها رحمات الله.
واعلموا رحمكم الله أن: رأسُ التفاؤل الاتصالُ بالعليِّ الأعلى، فالصلاة تفاؤل، وذكرُ الله تفاؤل، والدعاءُ تفاؤل.
جعلني الله وإياكم من المتفائلين، بربهم واثقين، وفي رجائه مؤملين، وفي رحمته وجوده طامعين، اللهم صل على محمد.
وهذا رابط المحاضرة الصوتية
http://ar.islamway.net/lesson/136495
- التصنيف:
- المصدر: