فضائل شهر شعبان
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: "واعلم أن الأوقات التي يغفل الناس عنها معظمة القدر لاشتغال الناس بالعادات والشهوات، فإذا ثابر عليها طالب الفضل دل على حرصه على الخير. ولهذا فضل شهود الفجر في جماعة لغفلة كثير من الناس عن ذلك الوقت، وفضل ما بين العشاءين وفضل قيام نصف الليل ووقت السحر" (التبصرة: جـ[2]- صـ[50])، وقال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله: "قيل في صوم شعبان أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط".
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70،71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الأخوة الأحباب:
أخرج الإمام النسائي في سننه عن أسامة بن زيد، قال: قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: «ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم» (أخرجه النسائي في السنن الصغرى -كتاب الصيام- باب صوم النبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي حديث [2329] وحسنه الألباني في صحيح سنن النسائي حديث [2356]).
قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله:
وفي هذا الحديث فؤائد: أحدهما: أنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان الشهر الحرام وشهر الصيام اشتغل الناس بهما عنه، فصار مغفولًا عنه، وفي قوله: «يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان»، إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه، إما مطلقًا أو لخصوصية فيه لا يتفطن لها أكثر الناس فيشتغلون بالمشهور عنه، ويفوتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم، وفيه: دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله عز وجل، كما كان طائفة من السلف.
ثم قال رحمه الله: "وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد:
الفائدة الأولى:
أنه يكون أخفى، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل. لا سيما الصيام فإنه سر بين العبد وربه. ولهذا قيل: "إنه ليس فيه رياء"، وقد صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد، كان يخرج من بيته إلى سوقه ومعه رغيفان فيتصدق بهما ويصوم، فيظن أهله أنه أكلهما ويظن أهل السوق أنه أكل في بيته، وكانوا يستحبون لمن صام أن يظهر ما يخفي به صيامه، فعن ابن مسعود أنه قال: "إذا أصبحتم صيامًا فأصبحوا مدهنين"، وقال قتادة: "يستحب للصائم أن يدهن حتى تذهب عنه غبرة الصيام"، وقال أبو التياح: "أدركت أبي ومشيخة الحي إذا صام أحدهم أدهن ولبس صالح ثيابه".
الفائدة الثانية:
أنه أشقّ على النفوس، وأفضل الأعمال أشقها على النفوس، وسبب ذلك أن النفوس تتأسى بما تشاهد من أحوال أبناء الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم كثر أهل الطاعة لكثرة المقتدين بهم فسهلت الطاعات، وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسى بهم عموم الناس، فيشقّ على نفوس المستيقظين طاعاتهم لقلة من يقتدون بهم فيها، ولهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم «للعامل منهم أجر خمسين منكم، إنكم تجدون على الخير أعوانًا ولا يجدون».
الفائدة الثالثة:
أن المفرد بالطاعة من أهل المعاصي والغفلة قد يدفع البلاء عن الناس كلهم، فكأنه يحميهم ويدافع عنهم (لطائف المعارف: صـ[191- 193])، قال العلماء: ورفع الأعمال على ثلاث درجات..
الدرجة الأولى: رفع يومي ويكون ذلك في صلاة الصبح وصلاة العصر وذلك لما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون»" (صحيح البخاري: كتاب مواقيت الصلاة باب فضل صلاة العصر حديث [54]، صحيح مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب فضل صلاتي الصبح والعصر حديث[1035]).
الدرجة الثانية: رفع أسبوعي ويكون في يوم الخميس وذلك لما رواه الإمام أحمد في مسنده بسند حسن، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أعمال بني آدم تعرض كل خميس ليلة الجمعة، فلا يقبل عمل قاطع رحم» (مسند أحمد بن حنبل -ومن مسند بني هاشم- مسند أبي هريرة رضي الله عنه حديث[10079] وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب حديث [2538]).
الدرجة الثالثة: رفع سنوي ويكون ذلك في شهر شعبان وذلك لما رواه النسائي عن أسامة بن زيد، قال: قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: «ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم» " (أخرجه النسائي في السنن الصغرى- كتاب الصيام- باب صوم النبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي حديث[2329] وحسنه الألباني في صحيح سنن النسائي حديث [2356]).
وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: "واعلم أن الأوقات التي يغفل الناس عنها معظمة القدر لاشتغال الناس بالعادات والشهوات، فإذا ثابر عليها طالب الفضل دل على حرصه على الخير. ولهذا فضل شهود الفجر في جماعة لغفلة كثير من الناس عن ذلك الوقت، وفضل ما بين العشاءين وفضل قيام نصف الليل ووقت السحر" (التبصرة: جـ[2]- صـ[50])، وقال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله: "قيل في صوم شعبان أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط".
ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن ليحصل التأهب لتلقى رمضان وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن، قال سلمة بن كهيل: "كان يقال: شهر شعبان شهر القراء"، وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: "هذا شهر القرّاء"، وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرّغ لقراءة القرآن لطائف (المعارف: صـ[196])، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وفي صومه صلى الله عليه وسلم أكثر من غيره ثلاث معان: أحدها: أنه كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فربما شُغِل عن الصيام أشهرًا، فجمع ذلك في شعبان؛ ليدركه قبل الصيام الفرض".
الثاني: أنه فعل ذلك تعظيمًا لرمضان، وهذا الصوم يشبه سنة فرض الصلاة قبلها تعظيمًا لحقها.
الثالث: أنه شهر ترفع فيه الأعمال؛ فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يُرفعَ عملُه وهو صائم" (تهذيب السنن: جـ[3]ـ صـ[318]).
قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله:
فإن قيل: فكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يخص شعبان بصيام التطوع فيه مع أنه قال: «أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم»؟
فالجواب: أن جماعة من الناس أجابوا عن ذلك بأجوبة غير قوية لاعتقادهم أن صيام المحرم والأشهر الحرم أفضل من شعبان، كما صرح به الشافعية وغيرهم.. والأظهر خلاف ذلك وأن صيام شعبان أفضل من صيام الأشهر الحرم، ويدل على ذلك ما خرجه الترمذي من حديث أنس سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال: «شعبان تعظيمًا لرمضان» وفي إسناده مقال (لطائف المعارف: صـ[188]).
وقال رحمه الله: "فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يومًا ويفطر يوما» ولم يصم كذلك بل كان يصوم سردًا ويفطر سردًا ويصوم شعبان وكل اثنين وخميس"، قيل: صيام داود الذي فضله النبي صلى الله عليه وسلم على الصيام، قد فسره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر، بأنه صوم شطر الدهر وكان صيام النبي صلى الله عليه وسلم إذا جمع يبلغ نصف الدهر أو يزيد عليه، وقد كان يصوم مع ما سبق ذكره يوم عاشوراء أو تسع ذي الحجة، وإنما كان يفرق صيامه ولا يصوم يومًا ويفطر يومًا لأنه كان يتحرى صيام الأوقات الفاضلة، ولا يضر تفريق الصيام والفطر أكثر من يوم ويوم إذا كان القصد به التقوى على ما هو أفضل من الصيام من أداء الرسالة وتبليغها والجهاد عليها والقيام بحقوقها.
فكان صيام يوم وفطر يوم يضعفه عن ذلك، ولهذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة عمن يصوم يوما ويفطر يومين؟ قال: «وددت أني طوقت ذلك»، وقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص لما كبر يسرد الفطر أحيانًا ليتقوى به على الصيام، ثم يعود فيصوم ما فاته محافظة على ما فارق عليه النبي صلى الله عليه وسلم من صيام شطر الدهر، فحصل للنبي صلى الله عليه وسلم أجر صيام شطر الدهر وأزيد منه بصيامه المتفرق، وحصل له أجر تتابع الصيام بتمنيه لذلك، وإنما عاقه عنه الاشتغال بما هو أهم منه وأفضل، والله أعلم (لطائف المعارف: صـ[189]).
حال النبي صلى الله عليه وسلم في شهر شعبان وذكر شئ من فضائله:
عن أبي سلمة، أن عائشة رضي الله عنها، حدثته قالت: "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرًا أكثر من شعبان، فإنه كان يصوم شعبان كله" (صحيح البخاري: كتاب الصوم باب صوم شعبان حديث[1881])، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان وما رأيته في شهر أكثر منه صيامًا في شعبان" (صحيح مسلم: كتاب الصيام باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان حديث[2028]).
قال الإمام ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث دليل على فضل الصوم في شعبان" (فتح الباري: جـ[4]- صـ[253]).
وقال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله: "وأما صيام النبي صلى الله عليه وسلم من أشهر السنة فكان يصوم من شعبان ما لا يصوم من غيره من الشهور" (لطائف المعارف: صـ[186])، وقال الإمام الصنعاني رحمه الله: "وفيه دليل على أنه يخصُّ شعبان بالصوم أكثر من غيره" (سبل السلام: جـ[2]- صـ[342ٍ])، وعن أبي سلمة، قال: "سألت عائشة رضي الله عنها عن صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان يصوم حتى نقول: قد صام ويفطر حتى نقول: قد أفطر، ولم أره صائمًا من شهر قط، أكثر من صيامه من شعبان كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلا" (صحيح مسلم: كتاب الصيام باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان حديث[2029])، وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: "لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشهر من السنة أكثر صيامًا منه في شعبان" (صحيح مسلم - كتاب الصيام- باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان حديث[2030]).
أحاديث عطرة في فضل صيام التطوع:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يصوم عبد يومًا في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا» (أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الجهاد والسير باب فضل الصوم في سبيل الله حديث رقم [2705]، وأخرجه مسلم في صحيحه كتاب الصيام - باب فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه حديث رقم [2021]).
وعن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله مرني بعمل ينفعني الله به قال: «عليك بالصوم فإنه لا عدل له» وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: «عليك بالصيام فإنه لا مثل له» (أخرجه الحاكم في المستدرك حديث رقم [1466]، وأخرجه النسائي في سننه – كتاب الصيام حديث رقم [2204] وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي حديث رقم [2221]، وفي صحيح الجامع حديث رقم [4044]).
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خُتم له بصيام يوم دخل الجنة» (أخرجه البزار في المسند حديث رقم [2476]، وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم [6224])، قال الإمام المناوي: "أي من ختم عمره بصيام يوم بأن مات وهو صائم أو بعد فطره من صومه دخل الجنة مع السابقين الأولين، أو من غير سبق عذاب" (فيض القدير: جـ[2]صـ[5-8]).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة، فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان» (أخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب فضائل القرآن أخبار في فضائل القرآن جملة حديث رقم [1979]، وأخرجه أحمد في المسند حديث رقم [6454] وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم [3882]، وصحيح الترغيب والترهيب حديث رقم [1429]).
والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل.
د: أحمد عرفة
معيد بجامعة الأزهر
- التصنيف:
Shaikh Hatim
منذ