سلمان الفارسي دروس من سيرته لإصلاح واقعنا

منذ 2013-06-20

إن سألت عن خُلُق سلمان الفارسي فقد كان من سادات المتواضعين، وإن سألت عن مكانته فقد كان عند رسول الله من المقرَّبين، وعند كِبار الصحابة من العلماء المبرَّزين.


وقفنا في المقالتين السابقتين مع هاك الجبل الشامخ، متأمِّلين بعض الدروس التي أفدناها من سيرتِه لإصلاح واقعنا، في هذه المقالة الأخيرة نُكمل التَّطواف حول فِقهه وروعة فَهْمه رضي الله عنه.

خامسًا: شموليّة الإسلام:
فيما أخرج مسلم، واللفظ لأحمد عن سلمان، قال: قال بعض المشركين وهم يستهزئون به: إني لأرى صاحبَكم يُعلِّمكم حتى الخراءة، قال سلمان: "أجل، أمرنا أن لا نستقبِل القِبلة، ولا نستنجي بأيماننا، ولا نكتفي بدون ثلاثة أحجار ليس فيها رجيعٌ ولا عَظمٌ". من جواب سلمان نتعلّم أن الإسلام لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ألا فليسمع دُعاة التقدم والمدنيَّة من أبناء العلمانية، ومَن سار في رِكابهم، دُعاة التحرُّر من كل شيء حتى من ثوابت الدين، ألا فليتعلَّموا من سيدهم الفارسي.

جاءت شريعة الإسلام لكل البشر على مختلف أجناسهم وأشكالهم، فشِمَلت بذلك الزمان والمكان؛ {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158].
وجاءت شريعة الإسلام فشملت الدنيا والآخرة، فربَطت بينهما برباطٍ عجيبٍ فيما يتعلَّق بشتى الأمور من حساب وعقاب؛ بل جعلت للعبادة أثرًا في الحياة الدنيوية والأخروية؛ فالصلاة مثلاً متعلِّقة بالامتناع عن الفحشاء والمنكر، وعدم الظُّلم والسعي في إفساد الأرض، فقعَّد العلماء قاعدةً في ذلك، فقالوا: إن ثمرة العبادة المقبولة ترْك المنهيات، وكذلك فإن الصلاة متعلِّقة بقضية التمكين في الأرض -في آيات النور والحج- وعلَّل العلماء ذلك بأن مَن سجَد لله بقلبه لا يسجد لغيره، لأنه يستمِدُّ العزةَ من الله، وكذلك فإن لها أثرًا بالغًا في محو الذنوب ورفْع الدرجات بين يدي الله  سبحانه وتعالى.

كذلك ربَطت شريعة الإسلام بين الأخلاقياتِ والمعاملاتِ، فجعلتهم جزءًا واحدًا لا ينفصِم، وذلك من أعظم ما يُميِّزها، وفقدته القوانين الوضعيَّة الأخرى؛ ففيما أخرج البخاري عن أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم تَختصِمون إليَّ، ولعل بعضكم أَلحن بحجَّته من بعض، فمن قضيتُ له بحق أخيه شيئًا بقوله، فإنما أقطعُ له قطعةً من النار، فلا يأخذها» (رواه البخاري).

ولم تكتفِ شريعةُ الإسلام بشمولها لجميع جزئيات الحياة -من عقائد وأخلاقيات وعبادات، والأمور المتعلِّقة بالمعاملات والأسرة والقضاء، وتنظيم العلاقات الدولية وموارد الدولة ومصارفها- الذي يميِّزها عن القوانين الوضعيَّة، بل زادت فوق ذلك رَوعة وجمالاً، فقامت بالربط بين ذلك كله رباطًا ساحرًا خلابًا، جعلها عِقدًا فريدًا منتظِمًا باهرًا، يخطف اللبَّ ويُعجِز العقل، فحُقَّ لأصحاب الفِطر السليمة أن يعشقوها ويُفاخِروا بها، فإلى مَن يريدون اختزال الإسلام -كما فعلوا مع المسيحية الغربية- في بضع شعائر لا أثر ولا علاقة لها بالواقع، أقول: ألم يتحدَّث القرآن عن الجوانب الثقافية وكثير من القواعد العلمية والمنطقيَّة؟ ألم يتحدَّث القرآن عن الجانب الاجتماعي فينظِّم العلاقة بين أفراد المجتمع؟ ثم ألم يتحدَّث عن الجانب الاقتصادي ونظرة الإسلام إلى المال، ويتعرَّض لبعض المشكلات الاقتصادية، ويضع لها علاجًا ناجعًا؟ ألم يتناول الجانب السياسي والعسكري؟ إن شمولية الإسلام لا تخفى إلا على جاهل أو مُعانِد.

سادسًا: من أسباب الشِّقاق كثرة الكلام:
مَن كَثُر كلامه كثُر سَقَطُه، والبلاء موكَّل بالمنطق، وإنما تكثُر المشكلات فتُهدَم بيوت وتفنى أجيالٌ، وتَسقط حضارات؛ بسبب كثرة الكلام بدون تثبُّت ورَويَّة؛ لذلك يقول سلمان حينما استوصاه رجل: "لا تتكلَّم، قال: لا يستطيع من لابَس الناس أن لا يتكلَّم، قال: فإن تكلَّمت فتكلَّم بخير أو اسكت"، وذلك يذكرنا بحديث معاذ فيما أخرج الترمذي وصحَّحه الألباني، وفيه فقلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلَّم به؟ فقال: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يَكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائدُ ألسنتهم».

وقال أبو الدرداء: أنصِف أذنيَك من فِيك؛ فإنما جُعِل لك أذنان اثنتان، وفم واحد؛ لتسمع أكثر مما تقول.
وكما يقول الشاعر:
 

الحِلْم زَينٌ والسكوت سَلامةٌ *** فإذا نَطقتَ فلا تكن مِكثَارًا

ما إن نَدِمتُ على سكوتي مرَّة *** إلا نَدِمتُ على الكلام مِرارًا


فينبغي للإنسان ألا يتكلم إلا لحاجة، وألا يَسبِق لسانُه عقلَه؛ فقد كان رسول الله طويل السكوت لا يتكلم لغير حاجة.

وكما قال عبدالله بن المبارك يَرثي مالك بن أنس المدني:
 

صَموتٌ إذا ما الصمتُ زيَّنَ أهلَهُ *** وفَتَّاق أبكار الكلام المُختَّمِ


سابعًا: درس لعشاق المناصب:
إلى مَن يُقاتِلون من أجل الشهرة والكرسي ولا يَسعَون ألا لإرضاء شهواتهم، يحرصون على الصدارة وإن تَحطَّمت من أجل ذلك أوطانهم، ألا فلتسمعوا قولةَ سلمان: "إن استطعتَ أن تأكل التراب، ولا تكونن أميرًا على اثنين فافعل، فقيل: ما الذي يُبَغِّض الإمارةَ إليك، قال: حلاوة رَضاعها ومَرارة فِطامها".

لأنهم يعلمون تَبِعتها في الدنيا والآخرة؛ فلذلك كانوا أزهد الناس فيها، يتفلَّتون منها تفلُّت الصحيح من الجرب، فهذا ما تعلَّموه من سيد ولد آدم؛ ففيما أخرج البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامةً يوم القيامة، فنعم المُرضِعة وبِئست الفاطمة».

وأخرج أحمد والطبراني عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما مِن رجل يلي أمرَ عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله مغلولاً يوم القيامة، يده إلى عُنقه، فَكَّه بِرُّه أو أوبَقَه إثمه، أَولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم القيامة»، وكما أخرج مسلم عن أبي ذر، قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على مَنْكِبي، ثم قال: «يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدَّى الذي عليه فيها».

أما إن سألت عن خُلُقه فقد كان من سادات المتواضعين، وإن سألت عن مكانته فقد كان عند رسول الله من المقرَّبين، وعند كِبار الصحابة من العلماء المبرَّزين.
وبعدُ فهذه بعض الاجتهادات في تحليل مواقف من حياة سلمان رضي الله عنه قد تُخطئ وقد تصيب، والمستقرئ لسيرة الرعيل الأول الذين شربوا من معين الوحي، وتربَّوا على يدي أشرف الخلق، يجد روائعَ تُدهِش النفسَ، وتُمتِع العقل، وتُصلِح الدنيا والآخرة.

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم.





مصطفى حمودة عشيبة
 

  • 6
  • 0
  • 4,685

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً