صفوة الشهر
إن السباق يوم يقترب من نهايته يشتد عدو المتسابقين والمسارعين إلى جنات النعيم، أيُّهم يحظى بالقبول والرضوان، فكن في عدادهم فهم القوم لا يشقى بهم جليس، قبل أن يأتي عليك يوم تصبح فيه خبراً بعد عين، وأثراً بعد ذات، فتسكن بعد الدورِ القبور، وتأتي ليالي العشر ثانية وأنت رهين عملك حبيس قبرك، وكل آت قريب.
بسم الله الرحمن الرحيم
لن آتي بجديد لو قلت عن رمضان أنه ربيع العام وصفوة الشهور وبهجة الزمان، فذلك معلوم بداهة دلت عليه نصوص الوحي ووقائع الدهر وأحوال الناس، إقبالاً وعبادة والتزاماً. إلا أن مواسم الطاعات والنفحات يفضل بعضها بعضاً، ويسمو بعض الزمان على بعض، وقد تقرر بالاستقراء عند العلماء أن الأوقات الفاضـلة والأزمان المباركة أواخرها أفضل من أوائلها، فيوم الجمعة أعظم أيام الأسبوع، لكن أبرك ساعاته وأرجاه قبولاً للدعاء فيه آخر ساعة منه، وأفضل الليل ثلثه الآخر، والسحر وهو السدس الآخر من الليل منَّوهٌ بشأنه، وهكذا فليس رمضان ببدع في ذلـك، فرمضان موسم إلا أن عشره الأخيرة هي صفوة الشهر، والعبرة بالخواتيم وهذه العشر خاتمة الشهر ودرَّته، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها، فكان يشوب العشرين بمنام وقيام، وأما هذه الليالي فيحييها كلها صلاة وتلاوة وذكراً، وفي الحديث: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره» رواه مسلم.
وتصف أم المؤمنين عائشة حاله فتقول: "كان إذا دخل العشر شد مئزره و أحيا ليله وأيقظ أهله". ومن دقيق عنايته بها انـقطـاعــه فيها عن دنيا الناس للاعتكاف، فمذ هاجر إلى المدينة إلى أن توفاه الله سبحانه ما ترك الاعتكاف، بل لتأكد هذه السنَة قضاها في شوال لمَّا لم يعتكف سنة في رمضان، ومن المؤسف جداً غفلتنا عن غنائم هذا الشهر وانشغالنا عن فضائل هذه الليالي، ولا أدل على ذلك من زحام الأسواق والطرق بالغادين الرائحين في تضييعٍ لزهرة من العمر إن ذهبت قد تعود أو لا.
بلغ بنا التفريط إلى حد تأجيلنا التَبَضُّع والتسوُّق وشواغل الدنيا إلى هذه الليالي، فبدل أن تُفَرَّغ الليالي لما هي له من العبادة، يتفرَغ ناسٌ فيها للتسوق، فذهبت معاني الروحانية والتماس ليلة القدر من حياة الكثيرين أو كادت، وإذا كان احتباس النفس بلزوم المعتكف والمكث فيه للعبادة شـاقَّاً على البعض فلا أقل من حبس النفس عن هيشات الأسواق وزحام الطرقـات في هزيع الليل، والتخلي عن المشاغل ولزوم المساجد طلبا لليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر. إن المرء وهو يراغم النفس على الأنس بذكر الله، ويحتسبهـا في محَالِّ تنزل الرحمات هو في الحقيقة يُهَيِّئُها للأنس به سبحانه في وحشة القـبـور، يوم لا أنيس ولا جليس إلا العمل الصالح، وإذا آنس الله عبداً فلا وحشة عـليه.
وبعد فإن السباق يوم يقترب من نهايته يشتد عدو المتسابقين والمسارعين إلى جنات النعيم، أيُّهم يحظى بالقبول والرضوان، فكن في عدادهم فهم القوم لا يشقى بهم جليس، قبل أن يأتي عليك يوم تصبح فيه خبراً بعد عين، وأثراً بعد ذات، فتسكن بعد الدورِ القبور، وتأتي ليالي العشر ثانية وأنت رهين عملك حبيس قبرك، وكل آت قريب.
بلال بن عبد الصابر القديري
- التصنيف: