سايكس بيكو جديدة للشرق الأوسط

منذ 2013-08-13

تعيش سوريا التي لا يزيد عدد سكانها عن 22 مليون نسمة معركة الحسم بالنسبة للوجود الشيعي في منطقة الشرق الأوسط، فإيران التي تدعم النظام العلوي تريد أن تقضي على الوجود السني الذي يمثل 85 % من إجمالي عدد السكان، حيث البقية الباقية من العلويين والنصارى وغيرهم من الأقليات الدينية الأخرى...


تعيش سوريا التي لا يزيد عدد سكانها عن 22 مليون نسمة معركة الحسم بالنسبة للوجود الشيعي في منطقة الشرق الأوسط، فإيران التي تدعم النظام العلوي تريد أن تقضي على الوجود السني الذي يمثل 85 % من إجمالي عدد السكان، حيث البقية الباقية من العلويين والنصارى وغيرهم من الأقليات الدينية الأخرى.

لماذا كل هذه الحرب وقتل أكثر من 93 ألفا من السكان أغلبهم من أهل السنة؟! إيران التي تمتلك إرث فارسي كبير من آلام الهزيمة التي ألحقها بها العرب والمسلمون في عهد الخلافة الراشدة والدولة العثمانية، لا تزال تحتل ثلاث جزر إماراتية وتقول إنها ملكها وتضع فيها ترسانة عسكرية وتدعي بشكل رسمي أن البحرين إحدى ولاياتها، ولا تخفي دعمها للأقلية الشيعية في السعودية أو دول خليجية أخرى لضمان عدم استقرار الأوضاع في تلك البلدان وتدعم جمعيات شيعية في جميع الدول العربية وحتى في أمريكا اللاتينية وأفريقيا.

فهي تريد الهيمنة وتريد إعادة أمجاد إمبراطورية الفرس، ولم تكن الانتخابات الإيرانية التي نظمت على عجل وأخرجت الفائز حسن روحاني وليدة الصدفة، حيث خرج بوجه الاعتدال لمصافحة الغرب وإرسال رسائل التطمين، فبالنسبة لإيران لم يعد أحمدي نجاد المعروف بتشدده ومواقفه التي لم تخفِ أطماعه في بلاد العرب وجهًا مناسب للسياسة الخارجية وخصوصا مع ازدياد الخناق على النظام الطائفي في سوريا الذي يضمن سيطرة إيران على مجمل المشاريع السياسية في لبنان وسوريا وحتى وإن فشلت في ذلك؛ فإنها تدعم حركة الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية "القيادة العامة" في فلسطين لنفس الغاية.

إيران تعرف جيدا أن الكيان الصهيوني هو الجرح المفتوح بالنسبة للغرب والمستوطنة التي تضمن لهم بقاءهم وهيمنتهم في منطقة الشرق الأوسط، اقتصاديا وعسكريا، فالشرق الأوسط جزء أساسي في المشروع الكنسي منذ عام 1095 م حيث دعا البابا أوربان الثاني بابا الكنيسة الغربية في مجمع كليرمونت لإرسال حملات صليبية على الشرق قائلا للحضور من قادة الجيوش الصليبية: "احمل صليبك واتبعني إن بلاد الشرق تفيض لبنا وعسلا".

فيما سبق تاريخيا فإن النصارى والفرس مشروعهم واحد وهو استهداف منطقة الشرق الأوسط؛ لاستغلالها إقتصاديا ودينيا وعسكريا، وهذا يجعل دائما أوروبا وأمريكا والروس متفقون والعرب مختلفون، لذلك يقول تييري ميسان وهو مفكر فرنسي في مقالة نشرها في يناير الماضي إن الولايات المتحدة تضع خطة جديدة لتقسيم الشرق الأوسط بالتوافق مع الكريملين. وبحسب ميسان فإن هذه الخطة تبرر الموقف الغامض لواشنطن في الملف السوري، وتجاهلها لمناشدات حلفائها في الشرق الأوسط (دول الخليج) بالتدخل وإنهاء وجود النظام السوري.

يتجدد التاريخ هذه الأيام ويذكرنا بالاتفاقية التي وقعت عام 1916 بين بريطانيا العظمى وفرنسا لتقسيم هذه المنطقة وهي ما عرفت باتفاقية (سايكس- بيكو). مع وجود نقاط توتر جديدة وزيادة حجم الأعباء على الأمريكيين والروس أصبح الوقت ملائم على حد وصف المفكر الفرنسي لإيجاد خطة تقسيم جديدة للشرق الأوسط تقتضي بالحفاظ على مصالحهما مقابل التضحية بالمصالح الفرنسية والبريطانية في المنطقة. الولايات المتحدة التي سيرت سياستها وفق نظرية الرئيس الأسبق جيمي كارتر (1980) والتي تقوم على اعتبار تأمين طرق الوصول إلى نفط الخليج إحدى ضرورات الأمن القومي الأمريكي، قد أصبحت بحكم الميتة، لأنها ببساطة أصبحت تملك ثروة ضخمة من الغاز الصخري والبترول المستخرج من الرمال النفطية بالإضافة إلى مصادر الطاقة الشمسية. وكذلك بالنسبة لاتفاقية السفينة الأمريكية (كوينسي) عام 1945م التي ضمنت تحالف قوي بين السعودية والولايات المتحدة حيث أصبحت بحسب الكاتب في حكم الميتة، وتقتضي الخطة الأمريكية بتنفيذ عملية إعادة انتشار ضخمة للجيوش الأمريكية في شرق آسيا لاحتواء النفوذ الصيني المتمدد، بالإضافة إلى منع إيجاد أي تحالف بين الروس والصين مقابل منح روسيا الفرصة لتتمدد في الشرق الأوسط وتعزز نفوذها.

ويقول الكاتب الفرنسي، إن واشنطن بدأت تشعر بالاختناق من علاقتها الفضفاضة والمكلفة مع الكيان الصهيوني، وتسعى أيضا لمعاقبة تل أبيب بكل وضوح على تدخلها الفاضح في حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والتي راهنت فيها ضد المرشح الذي فاز بالرئاسة، حيث قلصت الإدارة الأمريكية المساعدات العسكرية للكيان الصهيوني بنسبة 5 % من إجمالي 3.1 مليار دولار، وإن كنا نرى أن العلاقات بين الولايات المتحدة هي بالأساس علاقات تبادل مصالح ولا نوافق المفكر الفرنسي فيما يقول استنادا لتصريح نائب الرئيس الأمريكي جون بايدن قبل شهر في البيت الأبيض حيث اجتمع مع زعماء الجالية اليهودية، وقال لهم: "إن إسرائيل أفضل وارخص سفينة حربية أمريكية ولا يمكن إغراقها وستحافظ أمريكا على هذه السفينة إلى الأبد".

ملامح تلك الخطة هي التي تم بموجبها وضع إعلان جنيف الأول في يونيو 2012، لكن عناصر من داخل إدارة أوباما سربت التوافق الروسي الأمريكي حول القضية السورية للصحافة الأوروبية، بما في ذلك الأمر الرئاسي التنفيذي الذي يطلب من وكالة الاستخبارات المركزية (سي.آي.ايه) نشر رجالها ومرتزقتها فوق الأراضي السورية، كان من نتيجتها أن شعر كوفي أنان بأنه بين فكي كماشة، فتقدم على الفور باستقالته من مهمته كوسيط.

وبسبب وجود عملاء للكيان الصهيوني داخل الإدارة الأمريكية تعارض التوافق بين الجانبين، وكذلك قيادات عسكرية مكلفة باعتراض قوات روسية، وكذلك متورطين في الحرب السرية، فشل التوافق حتى اليوم التالي لانتخاب باراك أوباما في فترته الثانية حيث أطلق عملية تنظيف واسعة، كان من أولى ضحاياها الجنرال ديفيد بترايوس، مصمم الحرب السرية في سورية، وقد أجبر على تقديم استقالته من منصبه كمدير (سي.آي.ايه) إثر فخ جنسي تلاه عدد آخر من المسؤولين العسكريين المعارضين لسياسة أوباما. وأخيرا، سوزان رايس وهيلاري كلينتون اللتين تعرضتا لانتقادات واسعة من قبل نواب في الكونغرس بسبب إخفائهما معلومات تتعلق بموت السفير كريس ستيفنز، الذي اغتيل في بنغازي على يد مجموعة من المحتمل أنها تقع تحت سيطرة الموساد، على حد وصف المفكر الفرنسي تييري ميسان.

أعلن أوباما عن تعيين جون كيري وزيرا للخارجية وهو وجه مألوف للروس ولا يمانع في التعاون معهم، بالإضافة إلى صداقته مع بشار الأسد شخصيا، ثم أعقبه بتعيين تشاك هاغل على رأس وزارة الدفاع، صحيح أنه أحد أعمدة حلف (ناتو) لكنه واقعي، وكان من أشد المنتقدين لجنون العظمة لدى المحافظين الجدد وأحلامهم في الهيمنة الإمبريالية على العالم. وهو من (القلائل) الذين يسكنهم الحنين لحقبة الحرب الباردة... تلك الحقبة المباركة التي سمحت لكل من واشنطن وموسكو باقتسام العالم مناصفة فيما بينهما وبأقل التكاليف.

بعد ذلك تم تعيين، جون برينان على رأس وكالة الاستخبارات المركزية (سي.آي.ايه).
هذا المحترف للقتل بدم بارد يسكنه هاجس القضاء على السلفية وكذلك لا يحمل أي ود للعلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية، الأمر الذي يشكل في نهاية المطاف راحة لروسيا في شمال القوقاز.اتفاقية (سايكس- بيكو) تم العمل عليها لمدة قرن كامل بالرغم من قيام البلاشفة الروس بفضح فظاعتها، لذلك تريد الولايات المتحدة أن تقتسم الشرق الأوسط لكن هذه المرة مع الروس الطرف الأقوى في المعادلة الصليبية.

اجتماعات الأمريكيين مع الروس أفضت إلى أن سوريا يجب أن ينشر فيها قوة حفظ سلام دولية، ولا يكون الحل فيها إلا من خلال تشكيل حكومة وحدة وطنية والتمهيد لانتخابات، مع الحفاظ على بقاء الأسد حتى نجاح تلك الانتخابات، بالرغم من رفضها للمشروع إلا أن فرنسا لا يمكنها التلويح بالفيتو في وجه سيدها الأمريكي.

القوات التي سيتم نشرها هي قوات تابعة للدول المشاركة في معاهدة الأمن المشترك، الأمر الذي سيطيل في عمر الأسد، ولا يستبعد أن يتم ترتيب لقاءات بين أقطاب الصراع السوري للتفاوض على ميثاق وطني يتم تنظيم استفتاء شعبي عليه، شبيه بالميثاق الوطني اللبناني الطائفي الذي رعته فرنسا عام 1943م.

ويقول ميسان إن المصالحة الداخلية في سوريا ستدفع واشنطن إلى تنظيم مؤتمر للسلام كي تتم التسوية بين الكيان الصهيوني وجيرانه العرب، وما سيعيق أي خطة سلام بين سوريا والكيان الصهيوني هو تبنيهم لموقف العروبة بضرورة حل القضية الفلسطينية، والتي ستحل من خلال ضغط سوري يمارس على الفصائل الفلسطينية لإجبارها على القبول بتسوية دولية. وستجبر الحكومة الصهيونية على الانسحاب من أراضي عام 1967 "قدر الإمكان"، وتندمج الأراضي الفلسطينية بالأردن ليشكلا الدولة الفلسطينية النهائية، ويتم إعادة هضبة الجولان إلى سوريا مقابل تخلي الأخيرة عن بحيرة طبرية، حسب مخطط شيفردستاون (1999). وبذلك تصبح سورية الضامن لاحترام المعاهدات في الجانب الأردني-الفلسطيني.

ستراعي واشنطن مصالح الأكراد من خلال تفكيك العراق لولادة كردستان مستقل، كما سيتم الضغط على تركيا لمنح الأكراد إقليما مستقلا يخضع لحكمها الذاتي. يتيح هذا الخيار لواشنطن أن تترك لموسكو مجال نفوذ واسع دون التضحية بأي جزء من مناطق نفوذها الخاصة. بالإضافة إلى ذلك فإن محاور الصراع الأساسية تعمل من خلال وسطائها على دعم (التطرف) من الجانبين إذا أصبحت سوريا ميدانا لمعركة بين المتطرفين الشيعة من جانب ومن جانب الجهاديين السنة، وهذا يوفر فرصة للأنظمة المتحالفة مع الأمريكيين والروس لجعل هؤلاء وقود لحرب يريدون أن تكون نتائجها في صالح مخططاتهم على حساب المتقاتلين، ولا يخفى من هذا الاتفاق العسكري الاقتصادي بين الجانبين مطامع الأطراف المتصارعة في مخزونات الغاز الطبيعي التي تم اكتشافها جنوب البحر المتوسط وفي سوريا.

وهكذا فإن هدية إدارة أوباما الجديدة لفلاديمير بوتين تضاعف عدة حسابات، فهي لا تحرف أنظار روسيا عن الشرق الأقصى فحسب، بل تستخدم الروس لتحييد الكيان الصهيوني. فإذا كان هناك نحو من مليون صهيوني يحملون الجنسية المزدوجة (الأمريكية الصهيونية) هناك أيضا مليون صهيوني من أصل روسي، وتمركز قوات عسكرية روسية في سوريا، سوف يمنع الكيان الصهيوني من شن عدوان على العرب، ويمنع العرب في المقابل من الاعتداء على الكيان الصهيوني، وبهذه توفر الخزينة الأمريكية مبالغ خيالية تنفق للحفاظ على أمن المستعمرة اليهودية بحسب الكاتب. ومن نتائج هذه الخطة الاعتراف بالدور الإقليمي لإيران، التي يعطيها الفرصة للإستفراد بمنطقة الخليج.

مع ذلك، تأمل واشنطن الحصول على ضمانات من طهران بشأن انسحابها من أمريكا اللاتينية التي نسجت فيها الكثير من العلاقات في السنوات الأخيرة، خصوصا مع فنزويلا. ومن الرابحين بموجب الخطة الأمريكية الروسية، بشار الأسد الذي كان ينظر إليه الغرب حتى الأمس القريب كمجرم ضد الإنسانية، وفي الغد سيتم تتويجه كمنتصر ضد "التطرف" الإسلامي. أما المنتصر الثاني فهو فلاديمير بوتين الذي توصل بفضل تصلبه طيلة أمد الصراع إلى إخراج روسيا من دائرة (الاحتواء) وإعادة فتح الطريق إلى البحر المتوسط، والشرق الأوسط، وانتزاع الاعتراف بسيطرة بلاده على سوق الغاز العالمية.         


أحمد أبو دقة
 

المصدر: مجلة البيان
  • 1
  • 0
  • 6,817

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً