رحلة البحث عن الواقع

منذ 2013-09-19

ترددتُ كثيرًا في كتابة هذه السلسلة (سلسلة البحث عن الواقع) ولاسيما الحالة التي تمرّ بها الأمة الآن، ولكني وبعد أن استخرت الله ولشعوري بالمسؤولية فعلاً ولاسيما بعد الرسائل الكثيفة من الإخوة والأخوات التي تطالبني بالرد على أسئلة كثيرة حول الأحداث وتحليلها، وبرغم أنه بالتأكيد بينهم من هو أفضل مني مئات المرات ولا أقولها تواضعًا بل حقيقة منطقية فنحن أصبحنا في فضاء الأفكار من شتى بقاع الأرض والإبداعات، وبالفعل قرأت درر فكرية ربما لبعض الأسماء الغير مشهورة حتى، وتعلمت منها الكثير.


مقدمة

ترددتُ كثيرًا في كتابة هذه السلسلة (سلسلة البحث عن الواقع) ولاسيما الحالة التي تمرّ بها الأمة الآن، ولكني وبعد أن استخرت الله ولشعوري بالمسؤولية فعلاً ولاسيما بعد الرسائل الكثيفة من الإخوة والأخوات التي تطالبني بالرد على أسئلة كثيرة حول الأحداث وتحليلها، وبرغم أنه بالتأكيد بينهم من هو أفضل مني مئات المرات ولا أقولها تواضعًا بل حقيقة منطقية فنحن أصبحنا في فضاء الأفكار من شتى بقاع الأرض والإبداعات، وبالفعل قرأت درر فكرية ربما لبعض الأسماء الغير مشهورة حتى، وتعلمت منها الكثير .

إلا أنني لازلت أشعر بالمسؤولية تجاه الأمة وتجاه الإخوة والأبناء، ولاسيما ونحن في ذروة حرب الأفكار وصراع الأيديولوجيات الناعم، وأيضاً لعلمي المسبق بتعمد عزل الأمة وكوادرها عن مجريات الأحداث سنوات عديدة ماضية، وتصعيد كوادر من بني جلدتنا وليسوا من بنات أفكارنا.

ففكرت بنشر تصوُّر مفصّل عن القواعد العامة للمشهد لضبط مسار الفكر من الزوايا المختلفة للمرحلة الراهنة، في ظل حالة التيه والتشويش وتسارع الأحداث بل والإحباط أحيانًا. وليقيني بعدم اكتمال رؤية موحّدة لدى المخلصين والشرفاء من أبناء هذه الأمة بسبب العزلة النفسية والفكرية والحصار والهجمات الفكرية والأيديولوجية المتتالية التي قامت بها قوى متعددة عبر التاريخ، والتي بعد فشلها في استئصال الأمة الإسلامية توجهت ونجحت في رسم حدود إدراكها وحصارها الذهني بل وسجنها في أُطر وتصورات واهمة مخادعة عبر تفريغ مضمون أدوات ومنابع القوة الذاتية لها.

مما أثّر على آليتها في الاشتباك مع واقعها ومتغيراته السريعة، وأصبح حِراك المخلصين من أبنائها عبارة ردود أفعال مؤقتة لامتصاص الصدمات الصدمة تلو الصدمة، وفقدنا تمامًا زمام المبادرة والقدرة على التحليل، بل حتى فقدنا إيجاد ثغرة ولو صغيرة في حدود الإدراك التي رسمت لنا ولأذهاننا.

وبدلًا من أن نبحث أو نحاول أن نوجد تلك الثغرة حتى نتحرّر إلى حدود إدراكنا التي وضعها الله لنا وأوجد معين صافي يساعدنا على الانتشار داخل تلك الحدود، فبدلًا من ذلك أسرعنا إلى البحث عن ثغرة في سنن الله، ولكن يقينًا لن نجد في سنن الله تبديلًا ولا تحويلًا.

انهمرت علينا الفلسفات والأيديولوجيات وبدأت حرب الأفكار منذ زمن ونحن نرى أبناءنا يتخطفهم الطير من كل مكان فننظر إليهم ونبكي حالهم وحالنا.

نحن كالمرضى نحتاج علاج ليس كأي علاج؛ نحتاج علاج ليس من صنع البشر، نحتاج علاج من طبيب الأطباء الخالق القادر جلّ شأنه. ولكن علينا أولًا أن نطلب ذلك العلاج وأن نكون صادقين في نيتنا وعزمنا على الشفاء ونُري الله منا ذلك.

نحتاج صدمات بل وصدماتٍ عنيفة؛ فأمراضنا فقط هي نفسية فبموازين القوى المادية نحن الأقوى ولكننا نشعر بالضعف (نفسيًا) نحن المنتصرون حتى الآن (ولكننا نشعر بالهزيمة النفسية) نحن الأمة الخيرية (ولكنهم شيطنونا حتى كاد أن يخشانا أهلنا وأصدقائنا).

ثورات الربيع يعقبها شعوب تنسّمت الحرية اختارت من اختارته لقيادتها، ثم تنتكس نفس الشعوب بأيدي طائفة من أبنائها، في مشهدٍ هزلي عبثي له مدلول واحد وواحد فقط! هو تلك الآفة (حدود الإدراك) قراءة الواقع. وكيف نقرأه ولسنا مهرة بلغة صانعيه، هم من يضعون مفرداته.

نعم أيها الإخوة؛ المفردات، الفجوة الكبيرة بين مصطلحاتنا ومفاهيمها ومعانيها، ومصطلحاتهم ومفاهيمهم ومعانيها. نعم؛ أقصدهم هم من يُناصبون تلك الأمة العِداء في شتى بقاع الأرض بل في شتى محطات التاريخ، هنا وهناك. لذا سأتقمص في هذه السلسلة من المقالات دور المترجم.

سأحاول إيجاد قاموس لغوي ليس للكلمات فحسب؛ بل ولمدلولاتها حتى تضيق تلك الفجوة لعلنا نجد الثغرة ويخرج المخلصون من سجن حدود الإدراك.

سأبحث عن معاني المفردات التي تسير حياتنا، وأنا أثق بأن المعنى ليس كما نفهمه.

فالثقافة... ليست الثقافة.
والأصالة... ليست الأصالة.
والحداثة... ليست الحداثة.
بل المعاصرة... ليست المعاصرة.

فمعناها عندهم ليس كوقعها في أذهاننا.

المدنية... ليست المدنية.
التحضُّر... ليس التحضُّر.
الدساتير... ليست الدساتير.
الحرية... ليست الحرية.
الديمقراطية... ليست الديمقراطية.

بل حتى القيم الإنسانية العليا... ليست القيم الإنسانية العليا.

نعم؛ سألعب دور المترجم.

ونظرًا ليس لأني درست تلك اللغة جيدًا؛ ولكني أعلم أن الحروف هي نفس الحروف ولكني فهمت معانيها الأخرى التي ليست كمعانينا.

وفي هذه السلسلة؛ سامحوني سأستخدم مصطلحاتهم -هم- ولكن بمفاهيم قياسية يصعب العبث بها. وسأستدل بدراساتهم هم على شاكلة من فمك أدينك.

سأبتعد قليلًا عن مصطلحاتنا الشرعية ليس لضعفها في الاستدلال إطلاقاً؛ بل هي أوسع وأشمل وأكمل في التعبير عن المعاني. ولكن بسبب تلك الفجوة للأسف بينها وبين مفردات الواقع التي وضعها الآخرون والتي كانت سببًا مباشرًا في عزلنا عن الواقع وسحب الريادة والقيادة؛ بل وتتسبب الآن فيما أشرنا إليه رسم حدود الإدراك لمخلصينا من القادة المتصدرين للشأن العام. ولكن من حينٍ لآخر سأدلِّل على سعة المصطلح الشرعي شموليته بل ودقته في التعبير عن المعنى.

عشتُ حياة عملية مكنتني -تقريبًا- من معايشة مجتمعات متنوعة -أحياناً- لم أكن أتصوّر وجودها بالأساس. عشتُ مع طبقات العُمّال، مع النخب، مع المدراء والموظفين، تعاملتُ مع المسئولين فاسدهم وصالحهم. هذا بخصوص منطقتنا.

بل وقادتني الحياة إلى مجتمعات مجاورة تحمل نفس أفكارنا ولكنها لها ثقافتها الخاصة ونظرتها المختلفة، بل ذهبت بي إلى أبعد من ذلك إلى المجتمعات الغربية بتنوعاتها وتغيراتها السريعة.

ودرستُ أفكارهم وبلغتهم هم، وكانت الصدمة تلو الصدمة أتلقاها؛ كيف استطاعت تلك العقول الهيمنة على عقول أبناء الأمة، لا أتصوّر هذا فالفارق كبير وكبير جدًا والتناقض غاية في التفحش.

كنتُ أقارن مقارنات بسيطة -على سبيل المثال- بين عقول أبناء الأمة وعلماءها وعقول فلاسفة الغرب وأبنائهم؛ فوجدتُ أننا الفائزون لا محالة وبفارق كبير جدًا إذًا كيف حدث هذا؟

كيف استطاعوا سلبنا كل شيء، كل شيء. كيف وقد كان بيننا مثلًا ابن القيم الجوزية؟ هل قرؤوا له! هل ترجموا مؤلفاته! وكيف غاص في النفس البشرية!

وكيف أسس للتناغم الهارموني الرائع بين عالم الشهادة (المادي الواقعي) وعالم الغيب (اللاورائيات أو الميتافيزيقا) نعم بالتأكيد ترجموا هم وقرءوا... ولم نقرأ نحن! وحتى لو كان بعضنا قرأ فقد حبس ما قرأه داخل حدود إدراكه ولم يستطع أن يخرج به إلى الواقع (نفس المعضلة).

سرقوا كنوز الأمة الفكرية، ليتمكنوا من وضع خططهم ومؤامراتهم، وفهموا جيدًا ما هي التركيبة النفسية لنا ووضعوا المخدرات الحضارية المكافئة لتغييب الوعي، وغياب العقل.

هل قرأ نيكولا ميكافيللي الفليسوف الإيطالي وصاحب كتاب (الأمير السياسي) الشهير الذي آمن به من في الأرض جميعًا وأولهم حكام الأمة، هل قرأ لشيخ الإسلام ابن تيمية؟ وإلى الإمام أحمد وقرأ للإمام مالك...إلخ؛ وترجم وفهم وعليه وضع المخدرات البديلة وأكملها بما يعوض ما أنقصناه نحن من كنوزنا وقيمنا الموروثة! بالتأكيد قد فعل.

نحن أيها الإخوة ندور في حلقة مفرغة خادعة، ملخَّصها بمصطلحاتهم هم (بين الأصالة والمعاصرة).

نعم وبمصطلحاتنا نحن (فقه الواقع) ولكن كما شرحنا من قبل شتان بين المعنيين.

صدقني لن تجد مُفكِّرٌ واحد من رواد الفكر العربي الحديث -وأنا تقريبًا قرأت لهم جميعًا إلا من رحم ربي- إلا ونطق المصطلح (الأصالة والمعاصرة) والاشتباكية بينهم أو التناغم أو العلاقة...إلخ.

حتى في كتب النقد العربي وكتب المؤرخين وغيره؛ وليس تقليلاً من شأنهم بل كان بينهم أيضًا من أروع العقول وقد ارتويت منهم الكثير والكثير، كما أن بعضهم كانت مهمته بناء جسور المستشرقين لعمليات التشويه الفكرية المستمرة. فكان يُوظِّف المصطلح بما يحدث أثره المطلوب على عكس المخلصين الذين كانوا يحاولون بحسن نية فك ذلك الاشتباك، بنفس طريقة الخطأ الغير مقصود وحسن النية عندما قسّم علماء الأمة الفقه إلى جزأين لسهولة التدريس: فقه المعاملات، وفقه العبادات. وطبعًا تلقّف الآخرون تلك الفرصة وبدئوا يضعون أيديهم في هذا الفاصل ليتّسع شيئاً فشيئًا عند تطبيقاته الواقعية حتى انفصلت تمامًا العبادات عن المعاملات في الحياة العامة وشئون الناس.

وبالتأكيد المقصود بالأصالة عندما تُطلَق في مجتمعنا هو العقيدة الإسلامية فقط والمعاصرة هي تجارب الأمم الأخرى ونهاية ما وصلت إليه، هذا هو ما نفهمه نحن.

أما بالمعنى الحقيقي هو الصراع بين الإسلام والعلمانية (ترجمة)، سنُكرِّر كلمة ترجمة عادةً في المصطلحات غير محسومة المعنى كما شرحنا سابقًا.

الشاهد كانت محاور بحثي عبر الأفكار المدونة في الكتب، وميدانيًا، لم أترك مجتمعًا مميزًا بفكرٍ ما إلا وتلاحمتُ معه مباشرة، وخصصتُ اهتمامًا كبيرًا جدًا للحركات الإسلامية سواء التاريخية أو المعاصرة لدرجة الاحتكاك المباشر القريب جدًا؛ لأن قناعتي كانت ولازالت أن هؤلاء هم الأمل المتبقي للأمة بالتأكيد ليست على شاكلتهم الحالية وإنما قطعًا سيتم تصحيح المسارات.

وهنا لا أنسى أن أذكر أني بالفعل وجدتُ أن جميع الحركات تحمل أجزاء صحيحة من كنوز الأمة ولكنها للأسف ليست كاملة بحيث تكون الطاقة اللازمة لبعث الأمة. وتختلف أحجام تلك الأجزاء عند كل فصيل؛ ولكنه يضطر إلى استكمال ما عنده من كنوز بأجزاء فالصو من اجتهاده هو ليُصيب به أجرٌ بدل أجرين.

الشاهد:

عُدتُ من تلك التجارب أبحث عمن أُلقي له ما في جعبتي ليشاركني وضع التصورات وفك الشفرات لما يحدث لنا بعد رحلة البحث هذه لمحاولة إيجاد المسار الصحيح وتجميع تلك الكنوز المتفرّقة والمشتتة، وترجمة الواقع وردم الفجوة التاريخية الزمنية التي لازالت تتّسع بين تلك الكنوز وبين الواقع إلّا أن حينها لم تكن الظروف السياسية والأمنية في المنطقة مواتية لذلك حتى حدثت أحداث 25 يناير، فظننتُ كما ظن الجميع أنها ثورة ولكني لا أخفيكم السر أني كنتُ قلقًا جدًا من تبعاتها لما كوّنته من تصوّر عن حال الأمة وإمكاناتها هذه المرحلة.

ولكن إغراء الحرية والانفكاك من الأسر كان أقوى من هواجسي تلك ففرحتُ وشاركتُ وانطلقتُ مع الناس لأتنسّم الحرية، ولكني سارعتُ بالبحث عمن كنتُ أتحيّن الفرصة لمشاركته ما في جعبتي. بعد الثورة طرقتُ تقريبًا جميع الأبواب الممكنة ممن أثق بهم من علماء وقادة فكر في مصر وحتى في البلدان الشقيقة المجاورة، وبالفعل كانت مكتسباتي بعد الثورة أني استطعتُ التلاقي مع الشرفاء والعلماء واقتربتُ منهم واقتربوا مني؛ إلا أن صدمتي كانت أكبر من فرحتي بلقائهم، فالأمر فعلًا ليس سهلاً والانشقاقات كثيرة والتشتيت أكثر، والصراعات كبيرة. وبرغم أني بالفعل عثرتُ على من كنتُ أبحثُ عنهم إلا أن الحالة العامة متردية للغاية. وللأسف لم أجد من لديه قطع الكنوز كاملة.

معضلة حدود الإدراك:

هذا بين الصفوة؛ أما بالنسبة لجموع الناس فوجئتُ بالانهيار التام في البنية الفكرية لدى أغلبية شعوب المنطقة، والمتصلة بحبل سري قولازي يغذي ذلك التشويه باستمرار متعدّد المصادر!

حقيقةً كانت صدمة كبيرة لي الأمر الذي منعني من المشاركة السياسية المباشرة في الأحداث إلا أنني كنتُ قريبًا دائمًا منها. الشاهد أيها الأحبة، اتضحت لي أمور أكثر أثناء تلك التجربة بحكم قربي من الأحداث ووضحتُ وأكملتُ بعض التصورات الناقصة أو الأرقام التي كنتُ عادة أبحثُ عنها أثناء رحلتي تلك.

اعتذر للجميع عن الإطالة في المقدمة إلا أنني أردتُ أن أشارككم القضية من أولها حتى نذهب سويًا في رحلة البحث عن الواقع. الحقيقة اخترتُ نقطة البداية لتلك الرحلة من دراسة كبيرة بل وفارقة وحلقة تاريخية رابطة.

دعونا هنا نضع رؤية أمريكية حقيقية وموثقة وضعت سنة 2005م عن شكل العالَم بعد عشرون عامًا كنقطة انطلاق لتلك الرحلة، رحلة البحث عن الواقع.

سنضع بعض الملامح العامة؛ ربما تتضح بعض القواعد لتأسيس رؤية تقترب كثيرًا من الحقيقة. إلا أننا لنكون واقعيين نعترف بأن تطابق التحليل مع الحقيقة يكاد يكون مستحيلاً؛ نظرًا للتشابك الكثير بين الأحداث ولوجود تكتيكات متعددة بديلة للاتجاه السياسي وحتى الأيديولوجي الواحد.

ولكن هذا لا يمنع أنه من السهل الوصول إلى الرؤية العامة والإستراتيجية الكلية لجميع الاتجاهات المتصارعة بتفريعاتها الكثيرة، وسنحاول وضع تلك الملامح في عدة نقاط مختصرة قدر المستطاع.

مع ملاحظة أنني نظرًا لقربي من المتغيرات السياسية وسرعة تدفق المعلومات وتعايشي للحالة المصرية قد اضطر إلى سحب النموذج المصري لضرب الأمثلة والاستدلال على تلك القواعد؛ وليس لمجرّد انتمائي لهذا الوطن الذي أفتخر به فقط بل المعادلة واحدة في المنطقة وبالتأكيد مصر قلب الأمة، والأكثر تأثيرًا مع تأكيدي لعشقي الكبير لكل بلدٍ مسلم يُذكَر فيه اسم الله وعشقي لأهله وترابه.

الباحث والمحلّل السياسي م. خالد غريب
كتبه في 18 / 9 / 2013م


ـــــــــــــــــــــــ

- رحلة البحث عن الواقع (1)

فمحاكاةً للنمط الأمريكي في طرح الأسئلة ذات الخيارات المتعددة، قام أحد مراكز البحوث بإعداد دراسة مستقبلية مفصّلة 2005م... تُجيب عن سؤال:

- كيف سيكون شكل العالَم بعد 15 عاماً من الآن؛ وتحديداً عام 2020م؟

وشارك في إعداد خيارات الإجابة عدد من الخبراء والباحثين المتخصصين، وتبنّى الدراسة المجلس القومي الأمريكي للاستخبارات. كما نُشِر في (الشرق الأوسط، 2/11/2005م) وكان هناك أربعة خيارات أطلقوا عليها اسم (سيناريوهات المستقبل):

1- إمبراطورية إسلامية من المغرب إلى إندونيسيا.
2- عالَم من الفوضى والإرهاب.
3- عالَم تسوده العولمة بدون سيطرة أمريكية.
4- عالَم تسوده القيم الأمريكية وتحكمه واشنطن.

وبالتأكيد وضعت كل الأربع احتمالات السابقة تفصيليًا، كل احتمال على حدى ودراسته الدراسة المستفيضة وبلا شك دراسة أدواته ومقوماته واحتماليات نجاحه. وكانت الدراسة حينها في أربعمائة صفحة باللغة الانجليزية.

أول ملاحظة يجب توضيحها قبل البدء في خوض غمار تفصيلات وردت في تلك الدراسة وربطها بشكلٍ منهجي بالأحداث الحالية، وهي ملاحظة أن الدراسة تغطي فترة زمنية اقترب العالَم من الوصول إليها 2020م!

أي أنه إن لم تتضح دراسات أخرى تنسخ تلك الدراسة، فعلينا أن نأخذها على محمل الجد ولاسيما أن واضعيها لازالوا هم من يمتلكون القوة للتنفيذ، وعلينا كذلك التفريق كما نذكر دائمًا بين التكتيكي المرن القابل للتغيير والاستراتيجي الثابت صعب التغيير.

وإذا كانت تلك التصورات الأربع التي وضعتها تلك الدراسة تُمثِّل رؤى إستراتيجية متعددة لعدة اتجاهات تاريخية، وتُمثِّل التصورات الثابتة وفقاً لرؤية القوم.

دعونا نحن نضع آلية لفهم التكتيكات أو قواعد أيضًا حتى لا نُخدع بالتغيير التكتيكي الخاص بالتنفيذ وِفق متطلبات المرحلة؛ مع ملاحظة أن إسقاطاتنا معظمها سيكون على منطقة الشرق الأوسط، وترجمة متغيراته الحالية.

وباختصار يمكن حصر التكتيكي أو مؤثراته في عدة مستويات (دوائر) ولنبدأ بالأصغر للأكبر وهي:

- الدائرة الأولى؛ متناهية الصغر وهي خاصة بكل بلدٍ أو دولة قطرية.

وتُمثِّل الظروف والتراكيب المحلية والقوى السياسية والأمنية، ومستوى الثقافة، والاقتصاد، ومستوى الاختراق الأمني، والفكري، والأيديولوجي بل حتى والموقع الجغرافي والكتل البشرية.

- الدائرة الثانية؛ المتوسطة وهي خاصة بالتحالفات التي تضم عدة دول إقليمية في المنطقة.

وتُمثِّل مستوى العلاقات السياسية بين تلك الدول، الأسس التي تجمّعت عليها تلك الأسس من حيث خلفيتها برجماتية فقط، أم برجماتية أيديولوجية، أم إستراتيجية مرحلية، أم تحت ضغط الدائرة الثالثة كما سيأتي.

- الدائرة الثالثة؛ وهي كبيرة وتُمثِّل المجتمع الدولي أو ما يُسمّى حاليًا سياسيًا (النظام العالمي الجديد).

وهي الدائرة التي تُمثِّل القوى العظمى المهيمنة والتي تمتلك فعليًا أدوات القوة (الحضارية) ولا أقصد القوة العسكرية فقط أو كما يفهم البعض القدرة العسكرية (Power) بل أقصد (Strength) المقومات المتعددة للقوة وامتلاك مصادر القوة كالموارد والهيمنة الفكرية والقدرات الاقتصادية والعسكرية والسكان وغيره؛ بحيث تنصرِف إلى إمكانية تحويل هذه المصادر إلى عنصر ضغط وتأثير في إرادات الآخرين أو في الدوائر الأخرى، وتُمثِّل تلك القوة الدولة أو مجموعة الدول التي امتلكت الأدوات السابقة.

- الدائرة الرابعة؛ وهي متناهية الكِبَر وتُمثِّل الإطار الكوني، القدري والتاريخي والحضاري.

وهذه الدائرة عادة يتم إغفالها كثيرًا، أما عن عمد -كما سيأتي التوضيح- أو عن جهلٍ وتغييبٍ أو عن لبث، وهذه الدائرة بالفعل أهم دائرة يمكن أن تغير تمامًا التكتيكات عبر المراحل دون مُبرِّر واضح من الدوائر الثلاث السابقة وعمومًا للتوضيح تُمثِّل تلك الدائرة الفلسفات المختلفة المتصارع -وبمصطلحاتنا نحن التدافع الأزلي بين الحق والباطل- وتشمل الأديان والأيديولوجيات والأفكار المتوارثة عبر التاريخ والمكونة للحضارات المختلفة، ويصفها البعض أحيانًا باللاورائيات أو الميتافيزيقا.

-وبمصطلحاتنا نحن الغيبيات أو القدر- والغريب أن هذه الدائرة تقريبًا هي مصدر الاستراتيجيات ومن ثم التكتيكات ولكن كما قلنا يتم استبعادها عمدًا تحت تفسيرات مختلفة خادعة مع أن الدائرة السابقة لها تعترف اعترافات واضحة بهذه الدائرة، وإن شئت راجع كتاب (البُعد الديني في السياسة الأمريكية؛ للكاتبة الأمريكية الشهيرة: غريس هالسل. أو كتاب: النبوءة والسياسة؛ لنفس الكاتبة).

وبالمناسبة تلك الكاتبة بالنسبة لأمريكا تعادل نجيب محفوظ بالنسبة للمصريين.

الشاهد:

تلك هي الدوائر المؤثرة في استنباط وفهم وحل شفرات التسارع في الأحداث المحيطة وحل ألغاز بعض المواقف الغير متوقعة أحيانًا، وربما تكون تلك الألغاز سببًا في شوشرة أفكارنا حول الاستراتيجيات التي حسمت تاريخيًا.

الجدير بالذكر هنا؛ أن أي تحليل سياسي لموقفٍ أو حدثٍ مُعيّن يتم قراءته في إطار دائرة واحدة من الدوائر السابقة هو عين الخطأ، وللأسف أُلاحظ أن معظم الرؤى والتحليلات من المخلصين حتى فضلًا عن أصحاب النيات السيئة تجري داخل دائرة واحدة وفي الغالب تكون الأولى (متناهية الصغر) أو ربما في دائرتين الأولى والثانية أو في أحسن الظروف ونادرًا ما تجري التحليلات في الثلاث دوائر وعزل الدائرة الرابعة، مما يأتي بمعظم التصورات خاطئة أو ناقصة.

ومن ثم تأتي ردود الأفعال عن الحدث خاطئة أو ناقصة أيضًا، وينسحب ذلك على المخلصين أو المتربصين وذلك له أسباب أيضًا واضحة وهو ما ذكرناه كثيرًا (رسم حدود الإدراك) لأن الحضارات الغالبة في الواقع هي من تفرض لغة التفاهم بين الجميع ومن يضع معاني المفردات هو دائمًا من يرسم حدود الإدراك.

ولذا ظهر الكثير من الشخصيات الهامة والمفكرين (التقدميين) القوميين أو حتى مؤخرًا الإسلاميين أو الإصلاحيين أو القادة السياسيين والعسكريين الذين قادوا المنطقة في مراحل معينة، ولازالوا حتى الآن (منهم المخلصون ومنهم دون ذلك).

الشاهد أيها الأحبة:

سنخوض سويًا رحلتنا البحث عن الواقع انطلاقًا من تلك النقطة ونخضع الأحداث لتلك الدوائر الأربع بكل مقوماتها مع ملاحظة مناطق الربط بين تلك الدوائر فيجب التنبيه على أنه توجد روابط عضوية تكونت ومسارات خفية بين الدوائر السابقة تجعل من المستحيل فصل تأثيرها أو تجزئته على الأحداث الراهنة.

ستكون نقطة انطلاق رحلتنا من النقطة المختارة تلك الدراسة الأمريكية الشهيرة (كيف سيكون شكل العالَم بعد 15 عاماً) وذلك لكونها كما قلنا حلقة في سلسلة تاريخية تجبُّ ما قبلها؛ ليس بدأ بصراع القرون الأولى مرورًا بتداول الحضارات والاحتلال والاستشراق والبعثات والبروتوكولات ثم عالَم ثنائي القطبية فحربٌ باردة فقوةٌ عظمى وحيدة ثم نظامٌ عالمي جيد بتحالفاتٍ جديدة فثوراتٍ عربية وليس نهايةً بشرق أوسط جديد.

- خط سير الرحلة:

سيبدأ عادة من الدائرة الأولى للأحداث وتُمثُّل (الحدث الحالي) إخضاعه لباقي الدوائر على خلفية تلك الدراسة.

- شروط الرحلة:

أ- الإخلاص.
ب- الموضوعية.
ج- المصداقية.
د- المنهجية العلمية.
هـ- التوثيق .

الهدف:

العثور على الواقع للاشتباك معه.
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 18
  • 0
  • 8,904

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً