الصدق في القرآن الكريم
من أهم صفات القرآن العظيم الشمولية؛ فهو كتاب شامل لكل ما يحتاج الناسُ إليه في آجِلِهم وعاجلهم، شامل لخيرَي الدنيا والآخرة، وقد دلت الآياتُ الكثيرة على هذا الشمول؛ كقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، قال الإمام القرطبي: "أي: ما تركنا شيئًا من أمر الدِّين إلا وقد دلَلْنا عليه في القرآن، إما دلالة مبينة مشروحة، وإما مجملة يتلقى بيانها من الرسولِ صلى الله عليه وسلم أو من الإجماع أو من القياس الذي ثبَت بالنص".
من أهم صفات القرآن العظيم الشمولية؛ فهو كتاب شامل لكل ما يحتاج الناسُ إليه في آجِلِهم وعاجلهم، شامل لخيرَي الدنيا والآخرة، وقد دلت الآياتُ الكثيرة على هذا الشمول؛ كقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، قال الإمام القرطبي: "أي: ما تركنا شيئًا من أمر الدِّين إلا وقد دلَلْنا عليه في القرآن، إما دلالة مبينة مشروحة، وإما مجملة يتلقى بيانها من الرسولِ صلى الله عليه وسلم أو من الإجماع أو من القياس الذي ثبَت بالنص"؛ الجامع لأحكام القرآن.
وكقوله جل في علاه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89]، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "قد بُيِّن لنا في هذا القرآن كلُّ علم وكل شيء"، وقال مجاهد: "كل حلال وحرام"، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "وقولُ ابن مسعود أعمُّ وأشمل؛ فإن القرآنَ اشتمل على كلِّ علم نافع؛ مِن خبرِ ما سبق، وعلمِ ما سيأتي، وحُكْمِ كل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم، ومعاشهم ومعادهم".
وكيف لا يكون القرآنُ شاملاً كاملاً وقد أنزله الله تعالى منهجَ حياة؛ فهو منهج الله لخَلقه، فلا بد أن يحتويَ كل ما يتعلَّق بأمورهم الدنيوية والأخروية؛ فقد أكمل اللهُ به الدِّين، وأتم به النعمةَ، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3].
ومما تضمَّنه هذا الكتابُ العظيم وشمِله: جانبُ الأخلاق، التي بها نهضةُ الأفراد والأمم؛ فما تقدمت الدول ونهضت إلا بأخلاقِها، وصدق أحمد شوقي إذ يقول:
إنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيت *** فإن همُ ذهَبت أخلاقُهم ذهَبوا
وكيف لا يضم القرآنُ الكريم جانبَ الأخلاق بين طياته وصفحاته واللهُ تعالى يقول: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10]؛ أي: شرفُكم وعزُّكم ومجدكم، كما قال أهل التفسير؟ ولا يُتصوَّرُ عزٌّ ورفعةٌ وذِكر بلا أخلاق. ويقول تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]؛ أي: "أعدل وأعلى في العقائد والأعمال والأخلاق" (تيسير الرحمن [406]).
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما بُعِثْتُ لأتممَ صالح الأخلاق» وفي رواية: مكارم الأخلاق، وهو مخرج في الصحيحة، حديث رقم: 45 وممن رواه الإمامُ البخاري في كتابه الأدب المفرد، والحاكم، والإمام أحمد.
ومن أعظم الأخلاق التي ناقشها القرآن: موضوع الصدق، هذا الخُلق العظيم الذي قل أن يتصف به إنسان إلا وقد حسُنتْ أخلاقُه؛ فهو من الصفات التي تقوم عليها كثيرٌ من الأخلاق. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في (مدارج السالكين) عن منزلة الصدق: "وهي منزلةُ القوم الأعظم، الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأقوم، مَن لم يسِرْ عليه، فهو من المنقطعين الهالكين، وبه تميَّز أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكانُ الجنان من أهل النيران، وهو سيف اللهِ في أرضه، الذي ما وُضِع على شيء إلا قطعه، ولا واجَه باطلاً إلا أرداه وصرَعه، مَن صال به لم تردَّ صولتُه، ومن نطق به علَت على الخصوم كلمتُه؛ فهو روح الأعمال، ومحكُّ الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخَل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدِّين، وعمود فسطاط اليقين، ودرجة تاليةٌ لدرجة النبوة التي هي أرفعُ درجات العالمين" (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين: 24/2، مكتبة دار الصفا).
وقد تحدَّث القرآنُ العظيم عن موضوع الصدق بأساليبَ عدة، وعالجه من جوانبَ شتى، وما ذلك إلا لأهميته.
وبتتبع آيات القرآن الواردة في هذا الموضوع، نستخلص مجموعةً من المسائل، أذكر منها ما يلي:
1- الصدق من صفات الله تعالى:
قال تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:95]، وقال جل شأنه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، وقال جل ذكره: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87] يقول إمام المفسرين ابنُ جرير الطبري عليه رحمة الرب العلي في تفسيره: "{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} يعني بذلك: واعلموا حقيقةَ ما أُخبِرُكم من الخبر؛ فإني جامعُكم إلى يوم القيامة للجزاء والعرض والحساب والثواب والعقاب يقينًا، فلا تشكُّوا في صحته ولا تمتَرُوا في حقيقته؛ فإن قولي الصدقُ الذي لا كذبَ فيه، ووعدي الصدقُ الذي لا خُلْفَ له، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87] يقول: وأيُّ ناطق أصدقُ من الله تعالى حديثًا؟ وذلك أن الكاذب إنما يكذبُ ليجتلب بكذبه إلى نفسه نفعًا أو يدفعَ به عنها ضرًّا، والله تعالى ذكره خالق الضرِّ والنفع، فغير جائزٍ أن يكون منه كذبٌ... " (تفسير ابن جرير الطبري المسمى: جامع البيان في تأويل آي القرآن: 226 - 227/5).
ومن الآيات في ذلك: قوله تعالى: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام:146]، وقوله جل شأنه: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران:152]، وقوله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]، وقوله جل وعلا حكاية عن أهل الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:74].
2- الصدق من صفات الرسل عليهم الصلاة والسلام:
من أعظم صفات الرسل الصدقُ، وكيف لا يتصفون بهذه الصفة وهو المبلِّغون عن الله وحيَه، والمرسَلون بشرعه إلى خَلقِه؟ فلزم أن يكون الصدق ملازمًا لهم في الأفعال والأقوال.. وهذا ما حكاه الله تعالى عنهم في عدة مواضعَ من القرآن الكريم؛ كقوله جل جلاله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم:41]، وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:54]، وقال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:56-57]، وقال عز من قائل: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} [يوسف:46]، ووصَفه بالصدق بعدها فقال: {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:51].
وقال تعالى عن رسوله الكريم محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } [الصافات:37]؛ "أي: صدَّق مَن كان قبله من المرسلين"؛ أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهم عن قتادة رحمه الله تعالى؛ فإرساله صلى الله عليه وسلم كان أكبرَ علامةٍ على صدق الرسلِ فيما أخبَروا به.
ولعظم شأن الصدق؛ فقد أمر الله تعالى خاتَم النبيين وأفضل المرسلين أن يدعوَ بهذا الدعاء: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء:80].
وقد كان صلى الله عليه وسلم قمة في الصدق، بشهادة الذي يعلم السرَّ وأخفى، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4]، فزكَّاه في قِيله، بل زكاه في كل شيء فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، يقول القاضي عياض رحمه الله تعالى في الشفا: "وأما أقوالُه صلى الله عليه وسلم فقامت الدلائلُ الواضحة بصحة المعجزة على صدقِه، وأجمعت الأمة فيما كان طريقه البلاغ أنه معصومٌ فيه من الإخبار عن شيء منها بخلاف ما هو به، لا قصدًا ولا عمدًا، ولا سهوًا ولا غلطًا"؛ (الشفا بتعريف حقوق المصطفى: 356).
ومن الأحاديث في صدقه صلى الله عليه وسلم وبُغضه للكذب: حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: "كان أبغضَ الخُلق إليه الكذبُ" (أخرجه الإمام أحمد والبيهقي، وصحَّحه الألبانيُّ في صحيح الجامع)، وعنها قالت: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا اطلع على أحدٍ من أهل بيته كذب كذبةً، لم يزل معرضًا عنه حتى يُحدِثَ توبة" (رواه أحمد والحاكم، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع)، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني لأمزَحُ ولا أقول إلا حقًّا» (المشكاة: 4885)، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "كنت أكتُبُ كل شيء أسمَعُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظَه، فنهَتْني قريش، وقالوا: "أتكتب كل شيء ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشرٌ يتكلَّم في الغضبِ والرِّضا؟"! فأمسكتُ عن الكتاب، فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بأصبعِه إلى فِيه فقال: «اكتُب؛ فو الذي نفسي بيده، ما يخرُج منه إلا حقٌّ» (أخرجه الإمام أبو داود والإمام أحمد وغيرهما، وهو في السلسلة الصحيحة: ح رقم: 1532).
والذي يجب أن نستفيدَه من اتصاف رسل الله الكرام بالصدق أن نجتهد في التحلي به؛ فلنا فيهم أسوةٌ وقدوة، وعلى رأسهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
3- الصدق من صفات عباد الله المؤمنين:
وصَف الله تعالى عباده المؤمنين بصفات عديدة، وخصالٍ حميدة، مِن أعظمِها: صفة الصدق؛ قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا . لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:23-24]، وقال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15].
4- القرآن الكريم يعتبر الصدق جامع كل صفات البر:
قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]، يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي: "{وَأُولَئِكَ}؛ أي: المتصفون بما ذُكِر مِن العقائد الحسنة، والأعمال التي هي آثارُ الإيمان وبرهانُه ونوره، والأخلاق التي هي جمالُ الإنسان وحقيقتُه الإنسانية، فأولئك {الَّذِينَ صَدَقُوا} في إيمانِهم؛ لأن أعمالَهم صدَّقت إيمانَهم" (تيسير الرحمن: 66).
قال شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله تعالى بعد أن أورد هذه الآيةَ في منزلةِ الصِّدق من مدارجه: "وهذا صريحٌ في أن الصدقَ.. هو مقامُ الإسلام والإيمان" (مدارج السالكين: 25 - 2، الصفا).
5- أمرُ الله بالصِّدق والترغيب فيه:
كثيرة هي الآيات الآمرة بالتحلي بالصدق والمرغبة فيه، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، يقول الإمام الألوسي رحمه الله تعالى: "وفي الآية ما لا يخفى من مدحِ الصدق... " (روح المعاني: 43/4)، ويقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى: "والصادقون هم المعتصمون بالصدق والإخلاص في جهادهم إذا جاهدوا، وفي عهودِهم إذا عاهدوا، وفي أقوالهم ووعودِهم إذا حدَّثوا ووعَدوا، وفي توبتِهم إذا أذنبوا أو قصَّروا...، والأحاديث في فضيلة الصدق، ورذيلة الكذبِ وكونها من صفات المنافقين كثيرةٌ..، وفي روايات عديدة: إن المؤمن قد يُطبَع على كل خُلق، إلا الكذبَ والخيانة، وإنه لا رخصةَ في الكذب إلا لضرورة من خديعة حرب، أو إصلاح بين اثنين، أو رجل يحدِّث امرأته ليرضيها.. " (اهـ تفسير المنار 58/11).
والحديث في الرخصة هو حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا يصلح الكذبُ إلا في ثلاث: الرجل مع امرأتِه لترضى عنه، أو كذب في الحرب؛ فإن الحربَ خَدعةٌ، أو كذب في إصلاح بين الناس» (أخرجه الإمام أحمد والترمذي، وصحَّحه الشيخ الألباني، لكن كما أشار إلى ذلك الشيخ محمد رشيد رضا أن هذه الروايةَ تقيَّد بحديث: «إن في المعاريض لمندوحةً عن الكذب» أخرجه البخاريُّ في الأدب).
ومن الآيات المرغِّبة في التحلي بالصدق قولُه جل ذكره: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:21].
6- تقسيم القرآن الناسَ إلى صادق ومنافق:
قال تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب:24]، فدلت الآيةُ على أن الناس صنفان: صادقون ومنافقون؛ وذلك لأنه كما يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "الإيمان أساسه الصدقُ، والنفاق أساسه الكذبُ، فلا يجتمع كذبٌ وإيمان إلا وأحدُهما محارِبٌ للآخر" (المدارج: 25/2).
7- عِظَم جزاء أهل الصدق:
لقد وعَد الله الصادقين بأعظم الجزاء، وأفضل الثواب؛ وما ذلك إلا لعِظَم هذه الخَصلة التي تحلَّوْا بها، والصفة التي اتصَفوا بها، بل إن اللهَ جعَل مرتبة الصِّديقين بعد مرتبة النبيين، وجعَلهم من المنعَم عليهم الذين وعَد اللهُ أهلَ طاعتِه وطاعةِ رسوله برفقتِهم في الجنة؛ فقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]، والصِّدِّيقون كما يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي: "هم الذين كمُل تصديقُهم بما جاءت به الرسلُ، فعلِموا الحقَّ وصدَّقوه بيقينهم وبالقيام به؛ قولاً وعملاً وحالاً ودعوةً إلى الله. { وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} بالاجتماع بهم في جنات النعيمِ، والأنس بقربِهم في جوارِ رب العالمين" (تيسر الرحمن: 150).
وقال عز وجل في آخر سورة المائدة: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رضي الله عنهم وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة:119].
فأخبَر الله تعالى في هذه الآية أنه لا ينفَعُ يوم القيامة إلا الصدقُ؛ فوحده الصدق هو الذي ينفع في ذلك اليوم العظيم، الذي يشيبُ مِن هولِه الولدانُ، وتضع كلُّ ذات حملٍ حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذابَ الله شديد، ففي ذلك اليوم الشديد، لا ينفع إلا الصدقُ: الصدق في الاعتقاد والأقوال، والأفعال والأحوال.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في المدارج: "فالصدقُ في هذه الثلاثة:
• الصدق في الأقوال: استواء اللسان على الأقوال كاستواء السُّنبلة على ساقِها.
• والصدق في الأعمال: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة كاستواء الرأس على الجسد.
• والصدق في الأحوال: استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص، واستفراغ الوُسْعِ وبَذْل الطاقة، وبحسَب كمال هذه الأمور فيه وقيامها به تكون صِدِّيقيَّتُه؛ ولذلك كان لأبي بكر الصِّديق رضي الله عنه وأرضاه ذروة سَنامِ الصِّدِّيقيَّة، سُمي الصديق على الإطلاق، والصِّديق أبلغُ من الصَّدوق، والصَّدوق أبلغ من الصادق" (مدارج السالكين: 25/2).
وقال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ . لَهُمْ مَا يَشَاؤُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:33-34].
وقال جل وعلا: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ . الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران:15-17].
وقال جل شأنه: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35]، والنكرة في سياق الإثبات تأتي للتعظيم، فلا تسأَلْ عن عِظَم هذا الأجر الذي أعده اللهُ لهؤلاء، ومنهم الصادقون، نسأل اللهَ أن يجعَلَنا منهم ويحشُرَنا في زُمرتِهم.
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن الصدقَ يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وإن الرجلَ لَيصدُقُ حتى يُكتَب عند الله صدِّيقًا، وإن الكذبَ يهدي إلى الفجور، وإن الفجورَ يهدي إلى النار، وإن الرجل لَيكذِبُ حتى يُكتَبَ عند الله كذابًا» (متفق عليه).
ــــــــــــ
المراجع:
• الجامع لأحكام القرآن.
• تفسير ابن جرير الطبري المسمى: جامع البيان في تأويل آي القرآن.
• تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان.
• تفسير الشيخ محمد رشيد رضا، المسمى بتفسير المنار.
• تفسير الألوسي، المسمى: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني.
• الشفا بتعريف حقوق المصطفى.
• مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين.
ناصر عبد الغفور
- التصنيف:
- المصدر: