في تدبير الاختلاف بين العلماء

منذ 2013-09-28

تتَّضح فلسفة الإسلام القاضية بتنظيم حياة الناس، بناءً على الأهداف التي تستقيم بها علَّة الوجود، وتتمثَّل فيما فضَّل الله به بني البشر من تكريم شرْطُه حمْلُ الرسالة والعمل بها؛ حتى لا يزغن الإنسان، فيُفسد في الأرض بجهْلٍ لحقوقه وواجباته، كفعْل يضمن التعايُش واستمرار الجنس البشري في أداء واجبه المادي والرُّوحي، ضمن أُسس الشرع التي تُقِرُّ بمبادئ الاتفاق والاختلاف.

 

يقول سبحانه وتعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ . الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40، 41]. وانطلاقًا من الآية الكريمة تتَّضح فلسفة الإسلام القاضية بتنظيم حياة الناس، بناءً على الأهداف التي تستقيم بها علَّة الوجود، وتتمثَّل فيما فضَّل الله به بني البشر من تكريم شرْطُه حمْلُ الرسالة والعمل بها؛ حتى لا يزغن الإنسان، فيُفسد في الأرض بجهْلٍ لحقوقه وواجباته، كفعْل يضمن التعايُش واستمرار الجنس البشري في أداء واجبه المادي والرُّوحي، ضمن أُسس الشرع التي تُقِرُّ بمبادئ الاتفاق والاختلاف.

ومن هذا المنطلق أقرَّ الدِّين الإسلامي مبدأ الاختلاف، كحقيقة تتناسَب واختلاف الشعوب والعقليَّات والأفهام، وتتوافق مع التطوُّرات والنوازل التي تعترض الإنسان، وليس فيها حُكم شرعي، ولا يكون الاختلاف إلاَّ في حدود ما تفرَّع عن الأصول، اعتمادًا على شروط تمنعه أنْ يصير جدالاً، فنزاعًا وعَداوة، وقد نَهى الله عن ذلك؛ لِمَا للفُرقة من عيوب تتجاوز حدَّ الفَهم السليم للقصْد من خَلْق الإنسان. ولقد ظلَّ الاختلاف بين الناس في فَهْم النوازل والقضايا أمرًا أسهَم في صيرورة تطوُّر الفكر الديني في الأحكام الفقهيَّة، ما دام قد بُنِي على قِيَم العقل والحِجاج في أمور التجدُّد في الحياة، واختلاف التقاليد والأعراف والثقافات، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22].

ونظرًا لأهميَّة تدبير الخلاف وحيويَّته، تولَّى الحقُّ سبحانه وضْعَ منهجيَّة عمليَّة في التعامُل مع المُخالِف، فقال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. ولقد دفَع ذلك خيرَ الأُمَّة رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلى اتِّخاذ الحوار الهادئ منهجًا لإبلاغ رسالته للناس كافَّة، ومنهم المشركون وأهل الكتاب، فإذا كان الحوار قد اتَّسَم مع المشركين بالجِدال الحادِّ، فإنه مع أهل الكتاب اتَّخذ طابعًا آخرَ ما داموا يُقِرُّون بكتابٍ ويؤمنون برسولٍ؛ ولذلك أمَر الله عز وجل نبيَّه عليه السلام بمجادلة أهْل الكتاب بالحُسنى، فقال سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46].

إنَّ الناظر في اختلاف العلماء والفقهاء المسلمين، يكشف عن قُدرتهم في تدبير ما تَمَّ حوله الاختلاف، من خلال نظرهم في نصوص الشريعة كتابًا وسُنَّة، مراعين حدودَه، كما بيَّنها الله عز وجل في قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 19]. وقوله سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105].

هكذا تشكَّلت رؤية ناضجة لقضيَّة الاختلاف، وبَنَى عليها العلماء آراءَهم، فنرى الشافعي يقول: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب". ونرى مالك بن أنس يقرُّ بالاجتهاد والتعدُّدية الفكريَّة، ويرفض أن يفرضَ (الموطَّأ) على الناس، فردَّ على أبي جعفر المنصور من خلال ما عليه الناس في حياتهم، وقد أوْرَد هذا القول الأستاذ إبراهيم صالح الحسيني في كلمته عن الإمام مالك: "فقلت يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا؛ فإن الناس قد سبَقت إليهم أقاويلُ، وسَمِعوا أحاديث، ورَوَوْا روايات، وأخَذ كلُّ قوم بما سبَق إليهم، وعَمِلوا به ودانُوا به من اختلاف الناس وغيره، وإنَّ ردَّهم عمَّا اعتقدوه شديدٌ، فدَعِ الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كلُّ بلدٍ لأنفسهم..." ص130.
ولَمَّا كان مبدأ الاختلاف متَّفَقًا عليه بين العلماء، فقد كان منهج البحث فيما اخْتُلِف فيه يقتضي معرفة استنباط الأحكام من القرآن والسُّنة كمصدرين أوَّلَيْن للتشريع، والاختلاف في هذه الأحكام ناتجٌ عن الاختلاف في الفَهم والتقدير؛ سواء تعلَّق الأمر بما استُنْبِط من القرآن أو السُّنة. إنَّ القرآن أصْل التشريع، واجب التصديق به، والعمل بأحكامه؛ ولذلك اجتمَع الناس على أنه الأصل الذي يَرجع إليه كلُّ تشريع، ولا يخرج عنه إلاَّ كافر، وليس الخلاف إلاَّ لسببٍ من الأسباب التي عرَضها الشيخ علي الخفيف بقوله: "وإنَّما وُجِد الخلاف في بعض ما استُنِبط منه من أحكام نتيجةً للخلاف في فَهْمه؛ لِخَفاء دَلالته بسببٍ من الأسباب، كالاشتراك في لفظه، أو التخصيص في عامِّه، أو التقييد في مُطلقه، أو وُرود نَسْخٍ عليه، أو غير ذلك من الأسباب... " ص25.

وَلَمَّا كانت الأحكام الشرعيَّة موزَّعة بين التكليف بطلب أو نهي أو تخيير، وبيْن الوضع الذي جاء ببيان شرْطٍ أو سببٍ أو مانع، فإنَّ الاختلاف فيها جاء من ناحية الدَّلالة على حُكم الله أو عدمها، أو جاء مُبينًا لحكم الله أو غير مبيِّن؛ ولذلك توسَّع الاختلاف كوجْهٍ للاجتهاد يَسَع النوازل، وما لَم يَرِد فيه نصٌّ، وكان منهج العلماء يرتكز على ما ورَد في مصادر التشريع، ولا يكون الخلاف المحفِّز على الاجتهاد إلاَّ بعد التحرِّي في النوازل والأحكام التي تَمَّ إقرارها سلفًا.
يقول عبد الوهاب خلاَّف: "فكان المفتي إذا وجَد نصًّا في القرآن أو السُّنة يدلُّ على حُكم ما استُفْتِي فيه، وقَف عند النص ولا يتعدَّى حُكمه، وإذا لَم يجدْ في الواقعة نصًّا، ووجَد سلفَه من المجتهدين أجمعوا في هذه الواقعة على حُكمٍ، وقَف عنده وأفْتَى به، وإذا لَم يجدْ نصًّا على حكم الواقعة، ولا إجماعًا على حكمٍ فيها، اجتهَد واستنَبَط الحُكم بالطُّرق التي أرشَد إليها الشارع للاستنباط" ص65.

ومما سبَق ذِكره، نستنتج أنَّ الاختلاف لَم يكن ظاهرة شاذَّة عن واقع المجتمعات الإسلاميَّة، بل كان مصدر ثراءٍ في البحث والتدبُّر العقلي للأحكام الشرعيَّة، وكان سببًا في التحرِّي والتثبُّت من النصوص قبل إصدار الحُكم أو استنباطه.

والاختلاف في السُّنة لا ينفي إجماع المسلمين على العمل به كمصدر ثانٍ للتشريع، ولا ينفي الإجماعَ على الوجوب بالعمل بكلِّ حديث، والمتأمِّل في السُّنة يجد أنَّ الاختلاف بُنِي عند كثير من الطوائف الإسلاميَّة على طريقة نقْل الحديث ومدى صحَّته؛ يقول الشيخ علي الخفيف: "فيختلفون في تواتُر الحديث أو شُهرته، وفي صحَّته، ودرجة الصحة، وفي ضَعفه". فكان الاختلاف في ثبوت الحديث أو معناه، حتى إنَّ أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لا يَقبلان حديثَ أحدٍ إلاَّ إذا عَضَّده براوية أو شاهد، وكانت الغاية هي دَرْءَ التزيُّد على الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن نتائج ذلك التحرِّي أن كَثُر البحث عند الفقهاء في السند، فجعلوا الحديث متواترًا أو غير متواتر؛ استنادًا إلى وُروده القطعي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو وُروده الظنِّي، وهذا التحرِّي جعَل العلماء يختلفون في فَهم النصوص ودَلالاتها، أو اختلافهم في العلم بالحديث أو الوثوق به.

وللاختلاف جذور في زمن الصحابة والتابعين، ويرجع ذلك لضَعف الحِفظ، وما يعترض الذاكرة من نسيان، فكان لغياب العلم بالحديث أثرُه في الاختلاف بين الناس؛ مما أوْجَب استحضار مَن يحفظه ويعلم مصدره، ويتَّضح ذلك في موقف أبي بكر من ميراث الجَدَّة، وفي موقف عمر من إرث الزوجة من دِيَة زوجها، أو قضيَّة أخْذ الجِزْية من المجوس، وقضيَّة السفر إلى الشام حين انتشَر بها مرض الطاعون، وفي كلِّ هذه القضايا دليلٌ على غياب العلم بالحديث، لكن بمجرَّد أن يحصل التعرُّف، يزول الاختلاف.

ومما ساعَد على تقريب وجهات النظر بين المجتهدين في هذا العصر، أنَّ كلَّ قُطر من الأقطار المفتوحة وُجِدت فيه أحكام لَم تكن موجودة في غيره؛ نظرًا لاختلاف البيئات والفوارق الإقليميَّة، فلقد أحسَّ العلماء في كلِّ إقليمٍ بحاجتهم إلى التعرُّف على ما في الإقليم الآخر من اجتهادات فقهيَّة، فنشأت الرَّحلات العلميَّة، فالشافعي رحَل إلى المدينة والعراق ومصر، وربيعة الرأْي رحَل إلى العراق، ورحَل محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة إلى المدينة، ورحَل أحمد بن حنبل إلى الحجاز وإلى اليمن، فآتَتْ هذه الرحلات ثمراتها في إزالة كثيرٍ من أوْجه الخلاف، وأشعرت كلاًّ بحاجته إلى ما عند غيره من العلم والفقه. ولعلَّ باب الاختلاف واسعٌ، لكن العلماء جعلوا لتدبيره أُسسًا بنوها على ما أنزَل الله من فضيلة التوجيه الحسن إلى طريقة التعامُل مع المخالِف، فقال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].

وقد أعْطى الله في كتابه نماذجَ من إدارة الخلاف، منها ما جاء في مناظرة إبراهيم عليه السلام مُخالِفَه النمرود: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]. وتوضِّح المناظرة ما ينبغي أن يكون عليه المتخالفان؛ من قُدرة على إدارة موضوع الخلاف، وهذا يتطلَّب العلم بالأشياء والإحاطة بما استُنِبط من الأحكام في الموضوع، ولعلَّ طلبَ العلم من أهْله العلماء يكون واجبًا لِمَن يريد في الفعل أو القول سدادًا؛ يقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

والآية الكريمة تؤكِّد ضرورة التفقُّه في العلوم عامَّة وعلوم الدِّين خاصة؛ حتى لا يصير حوار الاختلاف جدالاً لا خيرَ فيه، ولعلَّ منطق الفقه يقتضي أن يتَّفق المخالفان على موضوع الخلاف، وأنَّ عدمَ التكافُؤ في العلم يلغي تدبيره، ولن يُفضي التحاور فيه إلى نتيجة، وأنَّ عدَمَ الانطلاق من مرجعيَّة مشتركة -يتمُّ الاحتكام إليها- هو سبيل الفشل في تدبير موضوع الاختلاف؛ يقول الشاطبي: "إنَّ الخَصْمَيْن؛ إمَّا أن يتَّفقا على أصل يرجعان إليه، أم لا، فإن لَم يتَّفقا على شيءٍ، لَم يقع بمناظرتهما فائدةٌ بحال" (الموافقات: ج 4 ص355). ويُبرز الشاطبي قيمة إقرار مرجعيَّة كليَّة مشتركة بين طرفي التناظُر والتخالُف، فيجعل من الاختلاف في الكليَّات اختلافًا في الجزئيَّات، والاختلاف في الجزئي لا بدَّ له من مصدر يرجع إليه، وإن انتَفَى الاتفاق على أصْل يُبنى عليه النظر، كان الخلاف في الجزء، ولن تتمَّ الاستفادة.

ويتَّضح مما سبَق أنَّ الاختلاف في القضايا له أُسس مرجعيَّة لا يستقيم بدونها، ولا تتحقَّق الغاية منه إلاَّ بالعمل بالتوجيهات الشرعيَّة القائمة على الأصول، والهادفة إلى إقامة الحوار العقلي الرصين المرتكز على الحُجَّة والدليل، انطلاقًا من القاعدة العامة للعلماء: "إنْ كنت ناقلاً فالصحة، وإنْ كنت مدَّعيًّا فالدليل". هكذا يتَّفق الناقل والمدَّعي على صحة الدليل في مُواجهة الاختلاف حول الموضوع المتَّفق عليه، ولا يجب تجاوز الأحكام المتَّفق عليها من طرف الأئمة والعلماء لصالح نزْوة اجتماعيَّة، أو أهواء شخصيَّة، وفي ذلك أوْرَد مصطفى الصمدي قول عبد القادر الفاسي: "لا يترك صريح الفقه ومنصوصه المقرَّر في دواوين الأئمة أعلام الأُمَّة إلى فتوى لا يُعْرف لها أصْلٌ ولا مُستند، إلاَّ مجرَّد موافقة مألوف الناس ومجرى عوائدهم، ومن الفساد الاستناد في الحُكم والفتوى إلى أغراض الناس، واتِّباع أهوائهم من غير دليل شرعي؛ لأنَّ الشريعة إنما جاءَت لإخراج الناس عن دواعي أهوائهم، لا لإعانتهم على التمادي في شهواتهم" ص326. ثم يقول: "وفي المقابل فقد وجَدنا الفقهاء -خاصة المالكيَّة- يعملون بالضعيف وبالشاذِّ، ويُراعون الخلاف؛ إعمالاً منهم لرُوح الاجتهاد، والنظر في النصوص والأقوال بعين تُراعي الواقع، وتَستحضر الأحوال، ولَم يكن ذلك ليوقعهم في اتِّباع الهوى أو الأغراض، أو ليَميل بهم إلى ناحية الخروج عن المتَّفق عليه من الأقوال عن عبَث وجهلٍ"؛ ص377.

وبناءً على ما سبَق، فإنَّ تدبير الاختلاف تحكمه ضوابطُ كليَّة، ولا سبيل للمختلفين من جَهْلها، وهي النيَّة والقصْد لغاية محمودة يكون للإنسان فيها منفعةٌ وخيْرٌ، ويكون بذلك عنصرًا أساسًا لبناء المعرفة، معرفة حقيقة الوجود، والغاية منه؛ ولذلك وجَدنا العلماء يتحرَّون فيما يذهبون إليه، وكان الإمام مالك لا يقضي بشيءٍ إلاَّ بعد أن يعرض الحُكم على أكثر من سبعين ممن يعرف عنهم الوَرَع في الدِّين؛ خوفًا من الخطأ، وكان الأمر شُورى بين الناس، وعلى هذا الأساس قَوِي مَذْهبه، وسَمَت أدلَّته من القرآن والسُّنة، فالإجماع والقياس، وعمل أهْل المدينة وأقوال الصحابة، والاستحسان وسَدِّ الذرائع والاستصحاب، وكلها أدلَّة يستوحيها من ثقافته الجامعة المتبصِّرة بشرائع الله وأحكام القرآن وسُنة رسوله، ومِن مَعرفته بأحوال الناس وأعرافهم، وعنه قال ابن شهاب فيما أوْرَده الأستاذ عبد السلام جبران المسفيوي في ندوة فاس: "إنه وعاء عِلْم، وكان يواجه مشاكل الحياة بإرادة قويَّة وعزيمة صارمة؛ مما جعَله يستولي على أهوائه وشَهواته، وكان الإخلاص في العمل شعاره الوحيد، وقد رفَعه الإخلاص أن يقرِّر فيقول: إن نور العلم لا يُؤْنِس إلاَّ مَن امتلأ قلبُه بتقوى الله، فهو يقول: العلم نور لا يؤنس إلاَّ بقلب تقي خاشع، كما دفَعه الإخلاص أيضًا في الأحكام إلى الابتعاد مِن قوله: هذا حرام، وهذا حلال، فيما لَم يكن فيه نصٌّ صريح، بل كان في ذلك: أكْرَه وأسْتَحسن، وكثيرًا ما يعقب ذلك مُقتبسًا من القرآن: إنْ نظنُّ إلا ظنًّا، وما نحن بمستيقنين" ج1 ص163.

وبهذا السلوك القويم استطاعَ العلماء تدبير مجموع القضايا التي تعترض سُبلهم، مسترشدين بإيمانهم وعِلمهم واجتهادهم، فكان القرآن الكريم مَرْجعًا ومنهجًا متكاملاً في تدبير الاختلاف مع الآخر، وكان في سُنة رسول الله مَحجَّة بيضاء مفصَّلة، استلَهم منها العلماء أدلَّتهم، غير مُهملين ما يميز الأقوام من خصوصيَّة لا تتعارض ومقاصد الشرع الكبرى، وكم هو حَرِي بنا أن نَمتلك هذا المنهج الإسلامي الأصيل في تدبير اختلافاتنا.
والله المستعان.
______________________________

المراجع:
1- المؤلفات الكاملة للشيخ علي الخفيف؛ أسباب اختلاف الفقهاء، ط2، 1416هـ - 1996م - دار الفكر العربي.
2- خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي؛ عبد الوهاب خلاف.
3- مصطفى الصمدي؛ فقه النوازل عند المالكيَّة.
4- الشاطبي؛ الموافقات في أصول الشريعة.
5- الإمام مالك إمام دار الهجرة، ودوره في تطور القضايا التشريعيَّة، ندوة الإمام مالك إمام دار الهجرة، ج1، فاس، 1400هـ 1980م، المملكة المغربيَّة، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميَّة.
 

 

 إدريس زايدي

 

  • 12
  • 0
  • 9,427

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً