أخلاقيّات الأخطاء

منذ 2006-08-06

واعجباً ..!

وهل للأخطاء أخلاق؟

في حديث أبي داود "كل ابن آدم خطاء.. وخير الخطّائين التوابون"، وفي صحيح مسلم: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له"، و يُروى عن المسيح أن بغياً جاءت إليه، فجعل أصحابه ينظرون إليها باشمئزاز فقال: "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر".

 

بهذه المرونة العذبة والتسامح النموذجي يتعامل التشريع الرباني مع البشر وأخطائهم ومن أجل ذلك فرّق هذا التشريع بين صغائر الذنوب وكبائرها فقال: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) (النجم : آية 32) ، فطريقته المنهجية هي اعتبار الخطأ طبيعة بشرية، فهو ليس شراً محضاً؛ ليمنحنا بذلك فرصة كبيرة للتناصح والنقد والمراجعة والتصحيح والتواضع، ويعزّز بهذا المفهوم جانب الإخاء والتكافل بين المؤمنين في بذل النصح فيما بينهم، ليس فقط على الصعيد الفردي، بل على صعيد المجموعات والدول، والأمم.

 

وبهذه المنهجية المعتدلة في قراءة "الخطأ" نتعلم من الأخطاء دوام المراجعة وعدم الترفع عن التصحيح والنقد والخطأ - بهذه القراءة- جزء طبيعي من الحياة، وكونه كذلك لا يعني أبداً أن نستسلم له أو نَكسل عن تصحيحه بحجة أنه طبيعة جبلّية، بل علينا أن نعمل جاهدين على تصحيح هذا الخطأ متى وُجد ومحاولة اكتشافه في كل شيء: في ذواتنا وأنفسنا ونوايانا وأعمالنا وسياساتنا وأفكارنا ومؤسساتنا.. لأجل أن نتحرر من هذا الخطأ، وهذا العمل التصحيحي يعطي فرصة لفئات عديدة أن تعمل لهذا الدين من خلال ممارستها لنقد الأخطاء التي يقع فيها الفرد أوالجماعة، ويكون نقده محسوباً في دائرة العمل الإيجابي، لما فيه من كشف الأخطاء، والدعوة للتصحيح، دون تتبّع لعورة أو تجنِّ على أحد، أو مبالغة في شيء.

 

وعلينا أن نفر من قـَدَر الأخطاء إلى قـَدَر التصحيح والمراجعة والنقد والتقويم؛ بغية الوصول للأفضل؛ نفعاً لأنفسنا وأُمتنا وديننا، علينا أن نقوم بهذا العمل بطريقة أخلاقية؛ فإن مراجعة الأخطاء وتصحيحها تحتاج إلى اعتدال وموضوعية، في كافة المستويات، و الإلحاح على ملاحقة الخطأ يصنع مشكلة جديدة وخطأ آخرَ فطفلك الصغير حينما تكثر عتابه وتوبيخه، وتؤنّبه باستمرار ربما تحطّم نفسيّته وشخصيّته، وهكذا هو أمر المدير مع الموظفين والزوج مع زوجته.

 

ومن أخلاقيات الخطأ، امتلاك الوضوح والشفافية والجرأة في المعالجة، و هذه من أهم النقائص التي يعاني منها المسلمون؛ إذ تفتقد معظم الدوائر والجهات والجماعات الجرأة في الاعتراف بالخطأ، والتصريح به، بيد أن العالم الغربي قد اعتاد على عكس ذلك، فبمجرد أن توجد ظاهرة قد انتشرت، كسرقة السيارات -مثلاً- ترى وسائل الإعلام والبرلمانات والندوات تُدار حول هذه الظاهرة وأسبابها وطرق معالجتها .. الخ.

 

بينما العالم الإسلامي يميل إلى نوع من التكتم؛ فالاعتقاد السائد يقول بأن وأد المشكلات هو في التكتم عليها لمساعدتها على الزوال بحجة أن الزمن كفيل بحلها، لكن الزمن عنصر محايد قد يضاعف المشكلة، وقد يساعدعلى حلها بحسب ما نقدّمه نحن، والشفافية تحتاج إلى مناخ من الحرية يسمح بطرح المشكلة والتعامل معها بوضوح.

 

ومن أخلاقيات الأخطاء: الصبر على التصحيح، والدأب في ذلك، وفي المقابل الصبر على الأخطاء التي تحتاج إلى زمن طويل قد لا يكفي عمر الفرد فيها على تصحيحها لمساعدة الأجيال القادمة على حلها، ومن كانت في يده فسيلة فليغرسها للناس والمستقبل والأجيال، وإن من أدوائنا حرص الفرد على انفراده بالتصحيح دون السماح للشركاء، أو مساعدة الآخرين للقيام بالحلول والتصحيح، فالأخطاء لا يمكن أن تزول بين عشية وضحاها، ولا يمكن أن تزول بقرار، وإن كان القرار مؤثراً؛ لأن جزءاً من تربية الناس وشخصياتهم وعاداتهم تتطلب توافر الجهود والدأب على المراجعة،وتحتاج إلى قرارات ذاتية بتجاوز الخطأ والتفوق عليه.

 

والخطأ يحتاج لأسلوب حكيم لبثّ الإصلاح، و يحتاج للنظر الإيجابي حتى للأخطاء، والكأس نصف الممتلئ تستطيع أن تقول عنه ذلك، وتستطيع أن تقول إن نصفه فارغ، ولما قال بعض الصحابة في الذي شرب الخمر: لعنه الله ما أكثر ما يُؤتى به، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه يحب الله ورسوله". أخرجه البخاري، فانظر كيف استطاع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرى ويُري أصحابه الوجه الآخر.

 

ومن أخلاقيات الأخطاء تفهّم دوافع الآخرين، كما في قصة حاطب بن أبي بلتعة حينما أرسل خطاباً للمشركين فحماه النبي -صلى الله عليه وسلم- وتفهّم دوافعه في حرصه على أهله بمكة، فإنّ تفهّم دوافع الآخرين يعطي الإنسان اعتدالاً وجرعة من حسن الظن بهم، حتى مع حصول الخطأ منهم، مما يهيئ الجو لتجاوز الأخطاء وتداركها، والتعامل بذكاء معها.

 

ولكي نعالج الأخطاء بذكاء وأخلاقية يجب أن نتذكر أخطاءنا تجاه الآخرين، وأن نتحلّى بالصبر على الناس وعلى أخطائهم وعلى أنفسنا قبل ذلك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"، وأن نغضي ونتغافل عن بعض ما لا يضر تجنباً للضرر الأكبر لفقه أولويات المراجعة والتصحيح، وعلينا ألاّ نجعل من أنفسنا معايير للخطأ والصواب، وأن نرى الآخرين بإيجابية وحسن ظن، وأن نتسامح معهم ونعوّد أنفسنا على ذلك، والرفق الرفق .. فـ"الرفق لا يكون في شيء إلا زانه". رواه مسلم.

 

وأخيراً: لنبدأ بأنفسنا وذواتنا، وننشغل بها، ولنراجع حساباتنا قبل أن ننشغل بالآخرين؛ فإن الطريق إلى التصحيح العام يمر عبر التصحيح الفردي الخاص (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ) (المائدة : آية 105)

آية 105

 

 

لنفسي أبكي لستُ أبكي لغيرها            لنفسي من نفسي عن الناس شاغلُ

سلمان بن فهد العودة

الأستاذ بكلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم -سابقًا-

  • 6
  • 1
  • 16,833

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً