وأطلَّ عام

منذ 2013-11-05

ها نحن وقد أطل عام جديد يضاف إلى ما منّ الله به عز وجل علينا من فسحة العمر، ويذكرنا بتناقصه وسرعة انقضائه وقرب نهايته؛ ليكون ذلك موضع عظةٍ وعبرةٍ، وليس هذا مجال حديثنا، ولكننا ننظر فنرى في هذا العصر وفي الآونة الأخيرة منه غلبة الأعداء على أمة الإسلام.


الخطبة الأولى

أما بعد أيها الأخوة المؤمنون؛

ها نحن وقد أطل عام جديد يضاف إلى ما منّ الله به عز وجل علينا من فسحة العمر، ويذكرنا بتناقصه وسرعة انقضائه وقرب نهايته؛ ليكون ذلك موضع عظةٍ وعبرةٍ، وليس هذا مجال حديثنا، ولكننا ننظر فنرى في هذا العصر وفي الآونة الأخيرة منه غلبة الأعداء على أمة الإسلام.

ليس في ميادين المعارك التي تفوقوا فيها بأسباب المادة إزاء ضعف المسلمين في إيمانهم وتفرقهم في صفوفهم، بل غلبوا في ميادين الاقتصاد التي فرضوها على أمة الإسلام.

وغلبوا وانتصروا في ميادين الإعلان التي طبقت الآفاق، ولم تدع شاردة ولا واردة، ولا قطراً ولا مصراً إلا وجاءت عليه، ومرت به وألقت ما فيها عليه حتى أعوج لسان كثيرٍ من أبناء الأمة الإسلامية، وتغير فكرهم، وتحولت أهوائهم، وسرنا نسمع عام ألفين وكذا حتى كأنما نحن أمة ليست أمة الإسلام! وليست أمة العرب! وليست أمة الهجرة النبوية!

ونرى أن كثيراً من الأحوال تضبط بهذا، وأن كثيراً من التواريخ المهمة في تاريخ الأمة المعاصر لم تعد تمتُّ إلى الهجرة وإلى تاريخ الأمة وتراثها بصلة، حتى كأن هناك انسلاخٌ عظيمٌ، وكأن هناك تجردٌ كبيرٌ، وتغيّر ظاهرٌ يستهدف هوية الأمة، ويقطع حبالها الموصولة بتاريخها، ويبتّ صلتها بماضيها.

ونحن نقف اليوم وقفة مع إطلالة عامٍ هجريٍ جديد؛ لنرى ماذا في تاريخ الهجرة؟ لنرى ما ينبغي أن نتذكره ونعرفه؟

بدلاً من أن نسمع ما أصبح عند الناس معتقداً راسخاً وأمراً مقبولاً مسلّماً من أن الضبط بالتاريخ لا يكون إلا بذلك التاريخ الميلادي، وأن ضبط الأمور المادية لا ينحسم إلا به، وأن كثيراً وكثيراً من الأمور يصبح فيها من الخلل واضطراب إذا أخذنا بتاريخ الهجرة!

لننظر إلى تاريخ الهجرة -أيها الأحبة الكرام- لنرى أنه ليس مجرد أرقام، وليس مجرد أعوام، وليس مجرد تاريخٍ نكتبه بهذه الطريقة أو بتلك الطريقة، وإنما هو أكثر من ذلك وأعظم.

أولاً: شعار أمة

هذه الأمة الإسلامية أمة التميز لا التميع، أمة التفرد والسبق التي أراد الله عز وجل لها أن تكون في صبغة مستقلةٍ واحدةٍ في كل شأنِ من شؤونها، وفي كل أمرٍ من أمورها بدءاً من الأمور العظيمة الجسيمة، وانتهاءً بالأمور التي يظنها بعض الناس شكليةَ دقيقة.

لننظر إلى تميز الأمة في كل شيء تميزها في كتابها الذي منَّ الله سبحانه وتعالى به عليها، ذلك الكتاب الذي جعلت له مزيةٌ لم تكن لما قبله من الكتب: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحِجر:9].

{الم . ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2]، ذلك الكتاب الذي جاء متميزاً مستقلاً عما سبقه من الكتب، وإن كان صدقاً لما بقي فيها أو لما كان في أصلها من صوابٍ وصدقٍ، لكنه جاء أعظم منها وأشمل منها، كما أخبر الحق سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة من الآية:48].

ومهيمناً عليه، قالوا: "حاكماً عليه"، وقالوا: "شاملاً لكل ما جاء من خيرٍ لكل ما سبقه"، وقالوا: "أنه مؤتمن عليها"، وكلها معانٍ، ويذكر أهل التفسير أكثر من ذلك تدل على تميّز هذا الكتاب واستقلاله بنفسه.

بينما لو نظرنا في التوراة والإنجيل نرى بينهم ترابطاً، وما الإنجيل إلا استكمالٌ للتوراة، وما هو إلا إلحاقٌ لها، وتأكيد لبعض أحكامها، ونسخ لبعض أحكامها، ومنها دائماً تجد الربط بينهما والذكر بينهما في القرآن الكريم كما قال جل وعلا: {وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [المائدة:46].

والمصطفى صلى الله عليه وسلم رسول الأمة جاء أيضاً متميزاً، فجاء من فرعٍ آخر غير فروع بني إسرائيل، الذين كانت فيهم النبوة من أبناء إسحاق، فجاء من ولد إسماعيل عليه الصلاة والسلام وهو الذي قال في نسبه: «أنا خيارُ من خيارٍ من خيارٍ» (رواه السيوطي).

وكانت اليهود ترتقب خروج النبي صلى الله عليه وسلم فلما جاء من العرب لا من العبرانيين كفروا به ولم يتبعوه، وهذه حكمة من الله ألا يكون ثمة شيء فيه استتباع أو إلحاح، بل تفرد أراده الله عز وجل لهذه الأمة.

ومن التفرد تفردها بتاريخها بالهجرة النبوية الشريفة بأيامها، فالجمعة هي عيد الأسبوع، وهي التي فيها تميزُ ظاهرُ بينُ شفه النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري من حديث أبي هريرة عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نحن الآخرون السابقون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم وهذا اليوم الذي كتب الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله تعالى له
-يعني يوم الجمعة- فالناس لنا فيه تبع اليهود غداً -أي في يوم السبت- والنصارى بعد غد‏ -أي في يوم الأحد-».

فالنبي صلى الله عليه وسلم يشير في هذا الحديث إلى تميّز الأمة وسبقها: «نحن الآخرون»، أي زمناً ووقوعاً بعد الأمم التي سبقت «السابقون»، أي منهجاً وفضلاً ومزيةً على سائر الأمم.

ثم أخبر عليه الصلاة والسلام: «بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا»، أي في التاريخ لا في التميز والتفرد والسبق، وقال عليه الصلاة والسلام: «وهذا اليوم الذي كتب الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله تعالى له» (متفقٌ عليه)، فكانت اليهود في السبت، والنصارى في الأحد، وجاءت أمة الإسلام بالهدي وبالحق في الجمعة الذي تسبقهما، إشارة إلى ذلك التميز والسبق والفضل.

وإذا جئنا إلى التاريخ أيضاً، فنجد فيه الأعياد؛ فأعيادنا تختلف حتى في زمانها وفي مناسباتها. إنها في أعقاب الأركان -في أعقاب الحج وفي أعقاب الصيام- إنها في أعقاب الطاعات والعبادات، إنها تأكيدٌ وقيامٌ بشأن طاعة الله عز وجل والعبادات؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن عيد الأضحى فقال: ‏«إن أول ما نبدأ من يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل فقد أصاب سُنّتنا‏» (رواه البخاري).

ولذلك لا عيد لأمتنا إلا هذان العيدان اللذان أخبر بهما النبي صلى الله عليه وسلم.

إذاً؛ فالتاريخ ليس مجرد تاريخ، وإنما هو أمرٌ تنصبغ به حياة الأمة؛ لتكون مختلفةً عن غيرها، متميزةً عن غيرها؛ وإلا فإن من دعى إلى أن نلغي التاريخ الهجري، أو أن نجعله جانياً؛ فإنه سيدعونا -كما رأينا ونرى- أن نجعل السبت أو الأحد هو عطلة الأسبوع؛ لنتوافق مع الاقتصاد، ومع أحوال العالم، ثم سنتظر شيئاً فشيئاً، فكأننا مسخ لا لون له ولا طعم ولا رائحة، ليس فيه تميزٌ، وليس فيه الأمة التي اصطفاها الله عز وجل واختارها لتكون هي الأمة الحاكمة الشاهدة على الأمم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آلِ عمران من الآية:110]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].

فالتاريخ هو شعار أمة وعنوانها وتميزها.

وأمرُ ثانِ: التاريخ الهجري ذاكرة أمة

ذاكرة أمة تربطها بأعظم حدثٍ غيّر وجه التاريخ الإنساني كله، وبأجلّ حادثةٍ كان لها ما بعدها في شأن البشرية جمعاء لا في شأن أمة الإسلام وحدها.

إنه ذلك الأمر الذي يرتبط بحدثٍ فيه عملٌ وجدٌّ، وفيه كسبُ وجهادُ ومعاناة، ارتبط تاريخنا بفضل الله عز وجل وبفضل ما أجمع عليه الصحابة رضوان الله عليهم، وإجماعهم في ذلك تشريع مقبول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ» (رواه البخاري ومسلم).

لم يرتبط التاريخ بميلاد أو وفاة؛ لأن الميلاد والوفاة ليس في ذاته عظيماً، ولأن الميلاد والوفاة ليس لصاحبه فيه أمر أو عمل، وإنما ارتبط بأعظم وأجلّ ما بذله النبي صلى الله عليه وسلم وأدار به دفة الدعوة في الطريق إلى قيام الدولة، والذي كان له ما بعده.

يجب أن تنتبه إلى هذا المعنى، وهو الذي ينبغي أن يلتفت إليه، وأن ينظر إليه، وأن لا يغيب عن ذهنها مطلقاً؛ فإن هذا له أثره، بينما نرى أن هذا التميز الذي أشرنا إليه، والذاكرة موجود بين الأمم كلها -أيها الأحبة الكرام- إنه ليس حتى مجرد قضية ترتبط بالأديان، نحن نعرف أن الصينيين عندهم سنة صينية يقيمون لها احتفالات، ويؤرخون بها تاريخهم، ويربطون بها أحداثهم، ويجعلونها هي التي تبرز مآثرهم.

والفارسيون -أيضاً- في إيران لهم تاريخهم وسنتهم، وكثير من الأمم والأقوام فلماذا يحلو لأولئك أن يذكروا هذا، وأن يفتخروا به، وأن يتنبهوا له.

ونحن ليس في هجرتنا ولا في مبدأ عامنا عيدٌ، ولكنها ذكر وعبر، فينبغي أن لا نغيب عن هذا أو لا نغيب عنه، والهجرة وتاريخها أيضاً مبعث همة؛ فإن بداية كل عامٍ يحتاج إلى همة، ويحتاج إلى عزيمة يحتاج إلى شحذ للقوى، وإلى حشد للطاقات؛ حتى تنطلق في مبدأ العام بهمة وانطلاقة.

فانظر إلى ما يبعثه التاريخ الهجري من همة، وما يصبه في النفوس من عزائم؛ لأنه مرتبطٌ بالهجرة ليس مرتبط بمجرد ميلاد أو وفاة، وليس مرتبط -أيضاً- بشيءٍ من العادات أو التقاليد أو الخرافات التي نراها في الأمم السابقة، وفي الأمم الأخرى، ماذا يصنع كثير من الناس -سواء كانوا من أهل الديانات أو من أهل القوميات- بدء عامهم؟

إنها الاحتفالات الصاخبة، إنه الاختلاط الآثم، إنه تغيّب العقول بشرب المسكرات والمخدرات إنهم يغيبون أنفسهم. إنهم يبدأون عامهم بشيء من اللهو والعبث والغياب والتجهيل والوهم، الذي يغرقون أنفسهم فيه، فأي شيءِ يربطنا بتاريخنا الهجري في مبدأ العام؟

إنه ارتباطَ بالهجرة التي أشرنا إليها وهي تبعث همةً عظيمةً في جوانب شتى من جوانب الحياة، فهي تميز لا تميع، تخبرنا عن أولئك النفر القليل الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسل كانوا قلةً لا يتجاوزون بحال من الأحوال المائة -وإن كان بعض أهل السير قد ذكر أن عدتهم أقل من ذلك- وهؤلاء كانوا يعيشون في مجتمع كامل يخالفهم في عقائدهم وتصوراتهم، ويخالفهم في عاداتهم وتقاليدهم، بل ويخالفهم في كل أقوالهم وأعمالهم فهل قالوا: "نكون مع القوم وليس لنا قدرة على أن نكون نحن أنفسنا دون غيرنا"؟!

لقد ضلّوا متميزين في وسط هذا المجتمع الكامل،لم يذوبوا ولم يتميعوا، لم ينسلخوا ولم يتجردوا من هويتهم وعقيدتهم وإيمانهم، فظلوا متميزين حتى جاءت الفترة أو اللحظة العظيمة في هدي وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم عندما هاجروا إلى المدينة.

وهذه الهجرة عزيمة لا هزيمة كانوا يحملون في قلوبهم إيماناً أرسخ من الجبال الرواسي، وأعلى من القمم الشامخة العالية، ولذلك كانت عندهم عزيمة عظيمة ماضية، لم تنل لهم قناة، ولم يتراجعوا في رأي، ولم يندحروا في معركة نفسية أو قوليةِ أو جدلية؛ لماذا؟

لأن ذلك الإيمان كان يصبّ في قلوبهم ونفوسهم من القوة الإصرار شيئاً عظيماً.

أليس ذلك كله يذكرنا في مبدأ العام؟! ينبغي أن تكون عزائمنا مسلحةً بالإيمان، وراجعةً إلى قوة اليقين، ومنبعثةً من أصالة الإسلام وثبات مبادئه.

ثم نرى أيضاً أن الهجرة عمل لا كسل، لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق أجمعين؛ لم يكن ليبلغ ما بلغ مما فتح الله عز وجل به عليه وهو يأكل -كما يقولون- ملء مضغيه، وينام ملء جفنيه، ويضحك ملء شدقيه.

لم يكن النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي قد حصل له ما حصل، لم يكن ذلك بمجرد دعواتِ في أعقاب الصلوات، ولم يكن ذلك أمراً سهلاً هيناً، بل كان طريقاً صعباً وعراً، وكان عملاً مجهداً شاقاً، وكان بذلاً عظيماً كبيراً إن هذا كله يثير في الأمة وفي نفس أفرادها في مبدأ كل عام كيف جاهد النبي صلى الله عليه وسلم؟

وكيف ظلَّ يعمل بلا كللٍ ولا كسل، وهذا أمرٌ مهم؛ لأننا أمة العمل {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّـهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة من الآية:105].


إن الأقوال التي نجزيها ونرسلها، وإن الأمنيات التي نحوكها ونتخيلها، كلها لا تغني في واقع الأمر شيئاً، إن النبي صلى الله عليه وسلم كافح وجاهد لعزيمة وبتميز في مكة، ثم جاهد وانتقل إلى المدينة، ثم جاهد وقاتل في معارك شتى حتى دمي وجهه الشريف، وكسرت رباعيته وهو يقول: «اللهم اهدي قومي فإنهم لا يعلمون» (رواه البيهقي في شعب الإيمان).

هكذا يترسم لنا الهجرة الطريق، الذي ينبغي أن نعرف طبيعته، وأن نعرف ضرورة السلوك فيه، والأخذ بالعزيمة فيه.


ونرى الهجرة أيضاً فداءٌ لا ارتخاء. كيف خلّف النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ديارهم وأرضهم، ومواطنهم التي ولدوا فيها، ومراتعهم التي نشأوا فيها. ذلك الحنين الفطري الطبعي إلى الأرض التي عاش بها الإنسان، حتى خرج النبي صلى الله عليه وسلم ملتفتاً إلى مكة: «لولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت» (أخرجه أبو يعلى الموصلي وغيره)، وكانت أحب بقاع الأرض إليه.

وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الصحابة يبينون أن الحياة فداء وتضحية لأجل مرضاة الله، ولأجل إعلاء راية الله، ولأجل إقامة دين الله في الأرض؛ خلفوا ورائهم الأهل والديار والأموال، لم تجذبهم ولم تقعدهم ولم تحل بينهم وبين الانطلاق إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى.

وكم نحن في حاجة -في مبدأ كل عام- أن نعرف أنه لا ينبغي أن يعترض طريقنا إلى رضوان الله وإلى إعلاء رايته وإلى نصرة دينه شيء من حظوظ الدنيا من زوجةٍ مؤنسةٍ، أو أبناء مشغلون، أو دنيا ملهية، أو أموالٌ مطغية، أو غير ذلك، كل هذا ينبغي أن يكون مؤخرا {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24]، إنه الأمر المهم الذي لا ينبغي أن يغيب عن البال أبداً.

تاريخ الهجرة مبعث همة في بداية كل عام، وهذا الذي يحتاجه الإنسان في مبدأ كل عام، وفي مبدأ كل مرحلة.


لا يحتاج في مبدأ العام أن يقول: "كل عام وأنتم بخير"، وأن تشتغل أجهزة الإعلام لتُقدِّم لنا المسلسلات والأفلام بمناسبة بداية العام.

إن بداية العام بداية جدٍ، إنها بداية عزم، إنها تأكيد همةٍ، إنها بداية انطلاقةٍ قوية تستدرك ما فات وتعوضه، وتحاول أن تختصر الزمن لتعوض ما فات منه، وهذا هو الأمر المهم الذي ينبغي أن نتبه له، وأن نلتفت إليه.

وأيضاً تاريخ الهجرة موطن عبرة، وهذا أمر مهم؛ فإن تعلّق العبادات جعل مرتبطاً بالتاريخ الهجري وليس بغيره يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج.

جعل الله سبحانه وتعالى أمر العبادات في كثيرٍ من أحوالها مرتبطٌ بالتاريخ الهجري المتميز، إنه تاريخ هجري مرتبط بالتقويم القمري لا بالشمسي ولا بغيره.

ألسنا نحتاج كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في كل رمضان أن نتحرى الهلال: «صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته» (رواه مسلم)؟

ألسنا نحتاج ذلك في الحج؟ ألسنا نراقب الشهور أولاً بأول، وننظر في دخولها وخروجها؟

إن هذا الأمر فيه عدد عظيم من الحِكَم والعبر الجليلة.

أمر التحري والمتابعة أمرٌ يجعل الإنسان يتيقظ لمرور الأيام، وتوالي الشهور، وتعاقب الأعوام إنه ليس الإنسان الذي يغمض عينيه ويمشي حتى ينتهي العام فلا ينتبه إلا الذي بعده، إنه في كل وقت يتذكر ويتحرى، إنه في كل لحظة يحسّ قيمة الزمن الذي ينصرم وينقضي.

وأيضاً ربط العبادة بذلك الحدث المتعلق بتعاقب الزمان والمكان هو أيضاً أمر يعلّق الإنسان بقدرة الله سبحانه وتعالى ويجلي لنا القدرة التي تغيب.

نحن نرى الشمس كل يومٍ ساطعة، ولكننا نرى القمر وهو يبدأ هلالاً، ثم ينتصف بدراً، ثم يعود محاقاً ويرجع هلالاً. إنه أمرٌ متغيرٌ يدفع إلى التأمل والتدبر، ويذكّر بعظمة خلق الله سبحانه وتعالى، ويذكّر -كما أشرنا- بتعاقب وتغير الأحوال، وانصرام الأزمان وهذا أمرَ مهم.

والعبادة -أيها الأحبة- من حكمة الله أن جعلت مرتبطة بهذا التقويم، فرمضان مرة في صيف، وأخرى في ربيع، وثالثة في شتاءٍ، ورابعة في خريف وهكذا.

ليس في كل وقت يكون حجّك أو يكون صيامك في فصل واحدٍ، وهذا من الحكمة والعبرة، وفيه تقلب الأحوال وثبات المسلم على طاعة الله. إن كان شتاءً فالصوم هين، وإن كان صيفاً فالصوم شاق، وإن كان نهارٌ قصير فالصوم فيه سهل يسير، وإن كان نهار طويل فالصوم فيه شاق عسير وكل ذلك من التقلبات.

والعبد مقيم على طاعة الله كأنما هو تدريبٌ له، وكأنما هو امتحانٌ له، وكأنما هو يظهر لربه أنه متقلبٌ في طاعته وملازمٌ لها مهما تغيرت الأحوال والظروف، وكل هذا فيه عظة وعبرة.

لوثبتنا على التاريخ الميلادي -كما يقال- فإن كل الأحوال التي قد نختارها أو الزمن الذي قد يعين يبقى إما صيف وإما شتاء؛ لأنه تقويم شمسي يعتمد على الشمس في صيفها وشتائها لا يتغيران وهذه حكمة عظيمة.

فالذين يرون التاريخ الهجري هو مجرد تاريخٍ عادي ويلتفتون إليه في رمضان أو في الحج مرةً واحدة يفوتون الكثير والكثير مما أشرنا إليه.

الخطبة الثانية

أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:

وإن أمر ارتباط الأمة بالتاريخ الهجري أمر له دلالات كثيرة، وله فوائد عظيمة، وإن الأمر الذي ينبغي أن ننتبه له هو: "ضرورة حفاظ الأمة على هويتها في كل جانب من الجوانب" صغيرة كانت أو كبيرة؛ لأن الذي يتهاون في الصغير من الأمور يوشك أن يقع في الكبير منها.

ولأننا نستقبل الآن -كما يقولون- زمن العولمة الذي يقصدون به: "أن تصبح الكرة الأرضية كلها عالم واحد"، ومعنى ذلك أن يكون كل شيء فيها واحد.

وأي شيءِ هذا الواحد الذي يريدونه؟


إنه ما هم عليه؛ لأنهم يملكون إلى حد ما في تصورهم القوة لفرضه على الناس. يريدون أن يفرضوا نظامهم الاقتصادي، وتقويمهم التاريخي، ونظامهم الاجتماعي وغير ذلك من الأمور.

ألا ترى ما يتوالى من المؤتمرات، وما يعقد من الندوات، وما يقال من عدم ضرورة لخصوصيات، وما يذاع ويعلى شأنه من اختلاط وتلاقح وحوار الحضارات وامتزاج واختلاط وارتباط الثقافات؟

إن هذا كله مقصود به أن تكون هذه الأمة -الذي يفوق سائر أمم الأرض جميعاً، فليس في الأمم أمةُ كأمة الإسلام عدتها على دينِ واحدِ مثل أمة الإسلام- أمة تابعة لهم.

وأيضاَ لننظر إلى جانب أخر وهو جانب: المواقع والثروات لبلاد الأمة الإسلامية يراد أيضاً أن تنزع هذه المزية، فضلاً عن القضايا العقدية والإيمانية والتاريخية والتراثية واللغوية والحضارية كل هذا في موجة عاتية تصبّ علينا عبر صحفٍ ومجلات، وعبر قنوات وشاشات، وعبر ندوات ومؤتمرات حتى صمت الآذان وصرنا -كما قلت- نسمع عام ألفين أكثر مما نسمع عام كذا من الهجرة وعام كذا من الهجرة!

وحتى صار كثير من الأمور يتحول تحولاً عجيباً وسريعاً نحو هذا التأقلم والتطبع والتغير الذي يفرض فيه القوي مبدأه على الضعيف.

ونحن في هذا الموقف وفي هذا الموطن، وفي هذا الدرس والعبرة، وعند مفتتح العام وبداية إطلالته نذكر بأننا أمةٌ متميزة سابقة، لا بد أن تكون كذلك؛ لأن الله أرادها أن تكون كذلك.

وأيضاَ أن نتذكر ما في الهجرة من المعاني والدروس والعظات والعبر، وأن ننظر إلى الحِكَم التي جعل الله عز وجل فيها ارتباط العبادات بهذه الأشهر القمرية، بما فيه من كثير وكثير مما ذكرته، ومما لم أذكره أكثر ولذلك هذه الوقفة إنما هي للانتباه إلى أن الخصائص الكثيرة في الأمور التي يعدها بعض الناس يسيرة لها أهمية عظيمة.

فليس التاريخ -كما قلنا- مجرد أرقام تكتب هكذا أو هكذا، وليس مجرد أيام أو أشهر قد تزيد أو قد تنقص، وإنما هو -كما قلنا- هوية أمة، وأساس عبادة، وارتباط برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام.

ولذلك نذكّر أنفسنا بأن نحيي هذه المعاني في قلوبنا، وأن نتذكرها في أذهاننا، وأن ننتبه ونفطن لما يحاك حولنا، ولما يدبر لنا، ولما يُهيأ حتى نقبله ونحن فرحون به، وأحيانا ونحن مفتخرون به، وأحياناً ونحن مجادلون عنه، وأحياناً ونحن داعون إليه، وأحياناً ونحن مقاتلون لأجل فرضه، وما ندري أننا ننقض عروة من عرى أمتنا، وشيئاً من أصالتها وقوتها وهويتها.

 

علي بن عمر بادحدح

أستاذ بقسم الدراسات الإسلامية بجامعة الملك عبد العزيز بالسعودية

  • 1
  • 0
  • 7,181

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً