بعيداً عن القلق: حياتك في حدود يومك
أنا من أنا؟ أنا في الوجود وديعة *** وغداً سأمضى عابراً في رحلتي
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي تفرد في أزليته بعز كبريائه، وتوحد في صمديته بدوام بقائه، ونور بمعرفته قلوب أوليائه، وطيب أسرار القاصدين بطيب ثنائه، وأسبغ على الكافة جزيل عطائه، وأمن خوف الخائفين بحسن رجائه، الحي العليم الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في أرضه ولا سمائه، القدير لا شريك له في تدبيره وإنشائه. وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. يا رب:
أنا من أنا؟ أنا في الوجود وديعة *** وغداً سأمضى عابراً في رحلتي
أنا ما مدت يدي إلى غيرك سائل *** فارحم بفضلك يا مهيمن ذلتي
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبدُ الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: هناك ثلاثة قرارات في الحياة ينبغي أن يتخذها الإنسان ليجلب لنفسه السعادة، خاصة ونحن في زمن كثرت فيه الهموم والأحزان والقلق والاضطرابات النفسية؛ ذلك أن الحياة -بما فيها من منغصاتٍ ومصائب وابتلاءاتٍ وفتن- لا يجب أن تؤثر على مسيرة حياة الإنسان وعلاقته بربه إلى الحد الذي يصل فيه إلى حالة اليأس والقنوط، والدنيا قد جبلت على كدرٍ منذ أن خلقها الله وهي دار ابتلاءٍ وامتحانٍ.
فالقرار الأول الذي يجب أن يتخذه من يريد السعادة والراحة: نسيان الماضي بأن يغلق على ملفات الماضي في زنزانة الإهمال والإغفال، فلا يفتحها أبداً ولا يقرأها مطلقاً، ولا يتذكر أي مصيبةٍ أو مأساةٍ أو كارثةٍ مرّت به، وكأنه وُلد اليوم فليس له علاقة بأمس الذاهب الذي مات وكُفِّن؛ لأنَّ تذكر الماضي حُمقٌ وجُنونٌ، ولا يمكن أن يصلحه دمعٌ أو عويلٌ أو تحسرٌ وأسفٌ. فلماذا إعادة عقارب ساعات الزمن وإخراج الأموات من قبورهم ونشر النشارة وطحن الطحين؟ وهذا ما يفعله من يستجرُّ ويتذكر أحداث الماضي.
وأما القرار الثاني: ترك المستقبل حتى يأتي، بحيث لا تشغل ذهنك بالأيام القادمة فقد لا تصل إليها أصلاً، وفي المثل الياباني: "لا تعبر جسراً حتى تأتيه"، وهذا صحيحٌ فقد لا تصل إلى الجسر أصلاً، وقد ينهار قبل أن تصل إليه وقد تعبره سالماً. والاشتغال بالمستقبل وترك الحاضر معناه ضياع الفرصة الوقتية الحاضرة في العمل والإنتاج، وليس معنى هذا الكلام عدم الاستعداد للمستقبل، لأن الناجح في يومه هو المستعد حقيقةً لمستقبله.
وأما القرار الثالث: هو أن تعيش في حدود يومك، فتعتقد اعتقاداً جازماً أنك لن تعيش إلا هذا اليوم، وأن حياتك يوم واحد فقط، فتخطط لهذا اليوم، وتعمل له وتملأه نجاحاً وفلاحاً وصلاحاً، وتجتث من نفسك شجرة الشَّر وتستلَّ من قلبك عقارب السموم والهموم والأحزان، وتحرص على الاستفادة من كل دقيقة في هذا اليوم الذي هو ملكك فقط، لأن الماضي ذهب إلى غير رجعة، والمستقبل في عالم الغيب، وهو غير مضمون كما قال الشاعر:
ما مضى فات والمؤمل غيبٌ *** ولك الساعة التي أنت فيها
عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «»، وكان ابن عمر يقول: "إذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وخُذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك". (البخاري في كتاب الرقاق [6416]). وكان مما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذكار أن نقول في الصباح عندما نستيقظ من النوم: «». (أبو داود [322/4] وحسن إسناده شعيب وعبد القادر الأرناؤوط في تحقيق زاد المعاد [273/2]).
إن عمر الإنسان منا يسرق عندما يذهل عن يومه في ارتقاب غده، ولا يزال كذلك حتى ينقضي أجله، ويده صفرٌ من أي خير. كتب "ستيفن ليكوك" يقول: " ما أعجب الحياة"؟! يقول الطفل: "عندما أشب فأصبح غلاماً"، ويقول الغلام: "عندما أترعرع فأصبح شاباً"، ويقول الشاب: "عندما أتزوج"، فإذا تزوج قال: "عندما أصبح رجلاً متفرغاً"، فإذا جاءته الشيخوخة، تطلع إلى المرحلة التي قطعها من عمره، فإذا هي تلوح كأن ريحاً باردة اكتسحتها اكتساحاً. إننا نتعلم بعد فوات الأوان أن قيمة الحياة في أن نحياها، نحيا كل يومٍ منها وكل ساعةٍ. في هؤلاء الذين ضيعوا أعمارهم سدى وتركوا الأيام تفلت من بين أيديهم، يقول تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: من الآية 55].
عباد الله: لقد كانت توجيهات الإسلام للإنسان أن يعيش يومه، ويقوم بما عليه من واجبات وتكاليف. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «» (رواه البخاري في 'الأدب المفرد' [رقم/300]). والمعنى: فكأنما أعطي الدنيا بأسرها (تحفة الأحوذي [7/11]). يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: "إن الأمان والعافية وكفاية يومٍ واحدٍ، قوًى تتيح للعقل النير أن يفكر في هدوءٍ واستقامة تفكيراً قد يغير به مجرى التاريخ كله".
إننا نرى من حولنا أناساً طارت أفئدتهم لتسبق الأيام، فهم يعيشون مشكلات الغد، ويرهبون كوارث المستقبل، ويعدون العدة لهزيمة الوحش القادم! فيمر اليوم على حين غفلة منهم، ويضيع العمر وهم ذاهلين عن الاستمتاع به والشعور بالمنح والأعطيات التي أعطاهم إياها الله.
عش يومك، استفد من تجارب الماضي بدون أن تحمل آلامها معك، خطط لمستقبلك من غير أن تعيش مشاكله وهمومه، ثق بخالقك الذي يعطي للطائر رزقه يوما بيوم، هل سمعت عن طائر يملك حقلاً أو حديقة؟ إنه اليقين بالله والتوكل عليه والثقة بما عنده. الأفضل قادم لا محالة، شريطة أن تحسن الظن بخالقك، ولا تضيع يومك.
سُئل حاتم الأصم: "علام بنيت أمرك؟" أي: كيف بنيت حياتك وما سبب سعادتك واطمئنانك؟ قال: "على أربع خصال: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت به نفسي، وعلمت أن عملي لا يقوم به غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتيني بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله عز وجل حيث كنت، فأنا أستحي منه". وكان الحسن البصري يقول: "يا ابن آدم لا تحَمِّل يومك همّ سنة قادمة". فهذا اليوم الذي نعيش فيه نحَمِّله قضية فوات الرزق، وقضية الخوف من المستقبل المجهول، وقضية نزول الأجل وحلول الموت، فجاء الإسلام ليعلم كل فرد أن الرزق بيد الله، وأنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، وأن هذا العالم بقوته وقدرته وأسلحته لن يستطيع أن يسلبك شيئاً من رزقك ولو كان شيئاً يسيراً. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3] وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6]. وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «» (السلسلة [2866]). وقال صلى الله عليه وسلم: «» (حسنه الألباني [950]).
إن رزقك يا عبد الله كتب لك وأنت في بطن أمك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «» (رواه البخاري ومسلم). فوالله الذي لا إله إلا هو، لو اجتمعت الدنيا كلها، بقضِّها وقضيضها، وجيوشها ودولها، وعسكرها وملوكها وأرادوا أن يمنعوا رزقاً قدره الله لك، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ولو أرادوا أن يسقوك شربة ماء، لم يكتبْه الله لك، فإنك ستموت قبل هذه الشربة فكن مطمئنا فرزقك عند الذي لا تأخذه سنة ولا نوم فأحسن الطلب ولا تطلبه إلا من طرق الحلال، قال عزَّ شأنه: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَٰكُمْ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172] وابذل الأسباب ثم توكل على الله وتق به.
دخل النبي صلى الله عليه وسلم يومًا إلى مسجده المبارك، فنظر إلى أحد أصحابه وجده وحيدًا فريدًا، ونظر إلى وجه ذلك الصحابي فرأى فيه علامات الهم والغم، رآه جالسًا في مسجده في ساعةٍ ليست بساعة صلاةٍ فدنى منه الحليم الرحيم صلوات الله وسلامه عليه -وكان لأصحابه أبر وأكرم من الأب لأبنائه- وقف عليه رسول الهدى فقال: «» قال: "يا رسول الله، هموم أصابتني وديون غلبتني، أصابني الهم وغلبني الدين الذي هو همّ الليل وذل النهار". فقال: «» صلوات ربي وسلامه عليه، ما ترك باب خير إلا ودلنا عليه، ولا سبيل هدى ورشد إلا أرشدنا إليه، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيًا عن أمته «» قال: "بلى يا رسول الله"، قال: «» قال: "فقلتهن فأذهب الله همي وقضى ديني" (رواه أبو داود في كتاب الوتر، باب في الاستعاذة [4/412]).
اللهم املأ قلوبنا بالإيمان والراحة والطمأنينة والأمان. قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عباد الله: وأما الخوف من المجهول ومن المستقبل الذي أرق الناس، وجلب لهم القلق والهم، فإن الإيمان عقيدةٌ تنفث في روع المسلم وخلده أن كل شيء في هذا الكون بيد الله، وأنه لن يحدث أمر من خيرٍ أو شرٍّ إلا بقدر الله وأن ما قدره الله وقضاه واقع لا محالة. قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:22-23].
يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: " كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً"، فقال: «» (رواه الترمذي وقال: 'حديث حسن صحيح'). ومن آمن بقدر الله وقدرته ومشيئته، وأدرك عجزهُ، وحاجته إلى خالقه تعالى، فهو يصدق في توكلِّه على ربَّه ويأخذ بالأسباب التي خلقها الله، ويطلب من ربه العون والسداد. والمؤمن يردد في يقين قوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:51].
وأما الموت عباد الله: فلماذا الخوف منه وهو سنة الله في خلقه وهو قدر الله في أرضه وسمائه؟ قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]. والمؤمن بربه قد أراح نفسه من هذا الهم والقلق بيقينه أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أجلها قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [لأعراف: 34].
ثم إن الإيمان يوجه المؤمن إلى عمارة الدنيا وفق منهج الله، فيعيش في أمن وسعادة، وكذلك يذكره ويوجهه إلى الاهتمام بالدار الآخرة، وهي الحياة الحقيقية وبها السعادة والنعيم والخير المقيم. فعندما يعلم المؤمن بأن هناك ربٌّ رحيمٌ ينتظره وخيرٌ مقيمٌ قد أعده له فإنه لا يبالي إن جاءه الموت في أي لحظة.
اللهم أيقظنا لتدارك بقايا الأعمار، ووفقنا للتزود من الخير والاستكثار، اللهم أيقظ قلوبنا من رقدات الآمال، وذكِّرنا قربَ الرحيل ودنوَّ الآجال، وثبت قلوبنا على الإيمان، ووفقنا لصالح الأعمال، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة: نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56]. اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمَنِّكَ ورحمتك يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.
حسان أحمد العماري
- التصنيف: