أثر القرآن والانبهار به
القرآن الكريم؛ هو كلام الله العظيم، وصراطه المستقيم، وهو أساس رسالة التوحيد، وحجة الرسول الدامغة وآيته الكبرى، وهو المصدر القويم للتشريع، ومنهل الحكمة والهداية، وهو الرحمة المسداة للناس، والنور المبين للأمة، والمحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلَّا هالك..
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، وأشهد أن لا إله إلَّا الله، وحده لا شريك له، بمثل خلقه عدداً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، كان قرآناً يمشي على الأرض، فنال السؤدد صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن اقتفى أثرهم وسار على الهدي.
أما بعد؛ فاتقوا الله حق التقوى.
أيها المسلمون:
ما أجمل أن نتحدث عن القرآن في شهر القرآن!
فالقرآن الكريم؛ هو كلام الله العظيم، وصراطه المستقيم، وهو أساس رسالة التوحيد، وحجة الرسول الدامغة وآيته الكبرى، وهو المصدر القويم للتشريع، ومنهل الحكمة والهداية، وهو الرحمة المسداة للناس، والنور المبين للأمة، والمحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلَّا هالك، قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، وقال صلى الله عليه وسلم: « » (رواه الترمذي، وقال حسن غريب)، وعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: "إِنَّ هَذا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللهِ، فَتَعَلَّمُوا مِنْ مَأْدُبَتِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حَبْلُ اللهِ وَالنُّورُ الْمُبِينُ وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، عِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَنَجَاةٌ لِمَنِ اتَّبَعَهُ لاَ يَزِيغُ فَيَسْتَعْتِبُ وَلاَ يَعْوَجُّ فَيُقَوَّمُ، وَلاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلاَ يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، فَاتْلُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْجُرُكُمْ عَلَى تِلاَوَتِهِ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، أَمَا إِنِّي لاَ أَقُولُ الم وَلَكِنْ بِأَلِفٍ وَلاَمٍ وَمِيمٍ".
أيها المسلمون:
تأملوا كيف تنفعل الجمادات الصماء بسكينة القرآن، {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21]، الجبال الرواسي التي يضرب بها المثل في صلابتها؛ تتصدع وتتشقق من هيبة كلام الله!
وتأملوا كيف انبهر نساء المشركين وأطفالهم بسكينة القرآن، ففي صحيح البخاري، عن عَائِشَةَ رضي الله عنها، قالت: "لم أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إلا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، ولم يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إلا يَأْتِينَا فيه رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، فَكَانَ يُصَلِّي فيه وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَقِفُ عليه نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ منه وَيَنْظُرُونَ إليه، وكان أبو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إذا قَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذلك أَشْرَافَ قُرَيْشٍ من الْمُشْرِكِينَ".
وتأملوا كيف انبهر صناديد المشركين بسكينة القرآن، ففي البخاري أنَّ جبير بن مطعم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، يريد أن يفاوضه في أسارى بدر، فلما وصل إلى النبي، وإذا بالمسلمين في صلاة المغرب، وكان النبي إمامهم، فسمع قراءة النبي، ووصف كيف أخذت أحاسيسه سكينة القرآن، فقال: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ في الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، فلما بَلَغَ هذه الْآيَةَ: {أَمْ خُلِقُوا من غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السماوات وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ . أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ المصيطرون} [الطور:35-37]، كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ".
لله در العرب! ما أبلغ عباراتهم!
هكذا يصور جبير أحاسيسه حين سمع قوارع سورة الطور، حيث يقول: كاد قلبي أن يطير؛ هذا وهو مشرك، وفي لحظة عداوة تستعر إثر إعياء القتال، وقد جاء يريد تسليمه أسرى الحرب، فيبعد أن يتأثر المرء بكلام خصمه، لكن سكينة القرآن هزّته حتى كاد قلبه أن يطير.
وتأملوا كيف انبهرت تلك المخلوقات الخفية؛ الجن بسكينة القرآن، ذلك أنَّه لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في موضع يقال له بطن نخلة، وكان يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فهيأ الله له مجموعة من الجن، يسمَّون جنَّ أهل نصيبين، فاقتربوا من رسول الله وأصحابه، فلما سمعوا قراءة النبي في الصلاة؛ انبهروا بسكينة القرآن وأصبحوا يتواصون بالإنصات، كما حكى الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} [الأحقاف:9]، وأخبر الله في موضع آخر عن ما استحوذ على هؤلاء الجن من التعجب، فقال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن:1].
وتأملوا كيف انبهر صالحوا البشر بسكينة القرآن، فلم تقتصر آثار الهيبة القرآنية على قلوبهم فقط؛ بل تعدتها إلى جلودهم، فصارت تتقبّض من آثار القرآن كما قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر:23].
وتأملوا كيف انبهر صالحوا أهل الكتاب بسكينة القرآن، فكانوا إذا سمعوا تالياً للقرآن؛ ابتدرتهم دموعهم، يراها الناظر تتلامع على خدودهم، كما صورها القرآن في قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ . وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [المائدة:82-83].
وتأملوا كيف انبهرت الملائكة الكرام بسكينة القرآن، فصارت تتهادى من السماء، مقتربةً إلى الأرض، حين سمعت أحد قراء الصحابة يتغنى بالقرآن في جوف الليل، فعن أُسَيْدِ بن حُضَيْر،ٍ قال بَيْنَمَا هو يَقْرَأُ من اللَّيْلِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَفَرَسُهُ مربوط عِنْدَهُ، إِذْ جَالَتْ الْفَرَسُ؛ فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ، فَقَرَأَ فَجَالَتْ الْفَرَسُ، فَسَكَتَ وَسَكَتَتْ الْفَرَسُ، ثُمَّ قَرَأَ فَجَالَتْ الْفَرَسُ، فَانْصَرَفَ وكان ابْنُهُ يحيى قَرِيبًا منها، فَأَشْفَقَ أَنْ تُصِيبَهُ، فلما اجْتَرَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ إلى السَّمَاءِ حتى ما يَرَاهَا، فلما أَصْبَحَ حَدَّثَ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ا »ٍ، قال: "فَأَشْفَقْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَطَأَ يحيى وكان منها قَرِيبًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَانْصَرَفْتُ إليه، فَرَفَعْتُ رَأْسِي إلى السَّمَاءِ فإذا مِثْلُ الظُّلَّةِ فيها أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ، فَخَرَجَتْ حتى لَا أَرَاهَا"، قال:« » قلت: "لَا"، قال: « ».
وتأملوا كيف انبهر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بسكينة القرآن، كما صور القرآن تأثرَهم بكلام الله وخرورَهم إلى الأرض، وبكاءَهم كما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58].
وتأملوا كيف انبهر أشرف الخلق وسيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم بسكينة القرآن، ففي البخاري، عن عبداللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «ا »، قلت: يا رَسُولَ اللَّهِ آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟!، قال: « »، فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حتى أَتَيْتُ إلى هذه الْآيَةِ: {افَكَيْفَ إذا جِئْنَا من كل أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء:41]، قال: « »، فَالْتَفَتُّ إليه؛ فإذا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.
الله أكبر!
يا لأَسرارِ القرآن! ويا لعجائب هذه الهيبة القرآنية، التي تستولي على النفوس، فتخبت لكلام الله، وتتسلل الدمعات والمرء يداريها ويتنحنح، ويشعر المسلم فعلاً أن نفسه ترفرف بعد ما كانت تتثاقل إلى الأرض!
أيها المسلمون:
الجمادات الرواسي تتصدع، ونساء المشركين وأطفالهم يتهافتون سراً لسماع القرآن، وصنديد جاء يفاوض في حالة حرب ومع ذلك؛ "كاد قلبه يطير" لما سمع سورة الطور، والجن استنصتوا بعضهم، وتعجبوا وولوا إلى قومهم منذرين، والمؤمنون الذين يخشون ربهم؛ ظهر الاقشعرار في جلودهم، والقساوسة الصادقون فاضت عيونهم بالدمع، والملائكة الكرام دنت من السماء؛ تتلألأ تقترب من قارئ في حرّات الحجاز، يتغنى في جوف الليل بالبقرة، والأنبياء من لدن آدم إذا سمعوا كلام الله؛ خروا إلى الأرض ساجدين باكين، ورسول الله حين سمع القرآن؛ تصور عرصات القيامة ولحظة الشهادة على الناس، فاستوقف صاحبه من شدة ما غلبه من البكاء.
يا الله ما أعظم كلامك! وما أحسن كتابك!
كتابٌ هذه منزلته وهذا أثره هل يليق بنا يا مسلمون أن نهمله؟
وهل يليق بنا أن نتصفح يومياً عشرات الجرائد والتعليقات والأخبار والإيميلات والمقالات ولا يكون لكتاب الله نصيبٌ من يومنا؟
فهل كتب الناس أعظم من كتاب الله؟
وهل كلام المخلوقين أعظم من كلام الخالق؟
لقد اشتكى رسول الله من كفار قومه حين هجروا القرآن، وجأر بالشكوى إلى الله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30].
ويا حسرتاه علينا؛ إن نحن شابهنا الكفار في هجره، أي خسارة أكبر؟! وأي حرمان أعظم من أن يستولي الكسل والخمول على المرء منَّا، حتى يتدهور في منحدرات هجر القرآن؟!
أيها المسلمون:
إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتكى إلى ربه الكفار بسبب هجر القرآن، فهل نرضى لأنفسنا أن يشكونا رسول الله إلى ربه؟!
وهل نرضى لأنفسنا أن نفعل ما يؤذي رسول الله؟!
فأين توقيرنا لنبينا صلى الله عليه وسلم؟!
أيها المسلمون:
إن شهر رمضان هو شهر القرآن، فينبغي أن يكثر العبد المسلم من قراءته، وقد كان من حال السلف العناية بكتاب الله، فكان جبريل يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان، وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يختم القرآن كلَّ يوم مرة، وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان كلَّ ثلاث ليال، وبعضهم في كلِّ سبع، وبعضهم في كلِّ عشر، فكانوا يقرءون القرآن في الصلاة وفي غيرها.
فكان للشافعي في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة. وكان قتادة يختم في كلِّ سبع دائماً، وفي رمضان في كلِّ ثلاث، وفي العشر الأواخر في كلِّ ليلة. وكان الزهري إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف. وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان؛ ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن. وكان الإمام مالك رحمه الله إذا دخل عليه شهر رمضان؛ أغلق على كتبه، وأخذ المصحف ومنع الفتوى، والمساءلة مع الناس، وقال: "هذا هو شهر رمضان، هذا هو شهر القرآن". فيمكث في المسجد حتى ينسلخ شهر رمضان.
أيها المسلمون:
إنَّ القضية لن تكلفنا الكثير، إنَّما هي دقائق معدودة من يومنا نجعلها حقاً حصرياً لكتاب الله، نتقلب بين مواعظه وأحكامه وأخباره، فنتزكى بما نقرأ في آياته العظيمة من نبضٍ إيماني ومعدنٍ أخلاقي، والتزاماتٍ حقوقية ورسالةٍ عالميةٍ إلى الناس كافة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15-16].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمون، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين وتبارك، الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى المرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعد:
فاتقوا الله عباد الله {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق:5]
أيها المسلمون:
قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9].
فأين المتلمسون لهدي القرآن ليقودهم لأقوم الطرق وأوضح السبل؟!
فإذا لجت البشرية في طغيانها، واستحكمت الظلمة على أهل الأرض في برها وبحرها، وسادت الحيرة والضياع فئاتاً من البشر في مشرق الأرض ومغربها؛ كان للمؤمنين بهذا القرآن منجاة ومخرج ونور؛ يضيء الطريق، ويبدد ظلمات الحيرة والشك.
فهل يعقل المسلمون قبل غيرهم هداية القرآن؟!
وهل يستشفون به من كل داء؟! والله يقول: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِين} [الإسراء:16].
أجل؛ إنَّه القرآن يذهب ما في القلوب من أمراض الشك والنفاق والشرك والزيغ والضلال.
إنَّه رحمة يحصل فيها الإيمان والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه، ولكن ليس ذلك إلَّا لمن آمن به وصدقه واتبعه كما قال العارفون.
يقول تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21].
أفيليق يا عباد الله أن تتصدع الجبال الراسيات لعظمة القرآن، وتخشع الحجارة الصم لو نزل عليها هذا القرآن، وتظل قلوبنا صلدة لا تهزها قوارع القرآن، ولا تؤثر فيها مواعظ الفرقان؟!
يقرأ المسلم كتاب الله ويهذه هذَّ الشعر، وربما لم تنزل منه دمعة أو يقشعر له جلد، فضلاً عن إصلاح حياته أو تهذيب سلوكه وفق توجيهات القرآن، ولو كان في الكتب الماضية كتاب تسير به الجبال عن أمكانها أو تقطع به الأرض وتشقق أو تكلم به الموتى في قبورها؛ لكان هذا القرآن دون غيره، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد:31]
أيها المسلمون:
عَنْ تَمِيمٍ بن أوس الدَّارِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « »، قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: « ».
فأين النصح في دين الله لكتاب الله؟
أتدرون ما النصح لكتاب الله؟
قال العلماء: أمَّا النصيحة لكتابه فشدة حبِّه وتعظيم قدره، وشدةُ الرغبة في فهمه، وشدةُ العناية في تدبره، والخشوع عند تلاوته، والتصديق بما فيه، والوقوف مع أحكامه، والاعتناء بمواعظه والتفكير في عجائبه، ونشر علومه، والدعاء إليه..
فيا حملة القرآن تمثلوا هدي القرآن في ذوات أنفسكم، واحملوه إلى غيركم، وعلِّموه الأبناء، وادعوا إليه الآباء، واعقدوا له الحلق في المدن والقرى، واصبروا وصابروا على ما ينالكم في سبيله من اللأواء.
وليكن الإخلاص رائدكم، والمتابعة لهدي محمد منهجاً في حياتكم، وخذوا من همم السلف الصالحين ما يقوى عزائمكم.
كتب يزيد بن أبي سفيان إلى عمر رضي الله عنه، يقول: "إنَّ أهل الشام قد كثروا وملأوا المدائن، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن، ويفقههم في الدين، فأعني برجال يعلمونهم"، فدعا عمر الخمسة الذين جمعوا القرآن، فقال لهم: "أعينوني يرحمكم الله بثلاثة منكم إن أحببتم، وأن انتدب ثلاثة منكم فليخرجوا"، فقالوا: ما كنا لنتساهم، هذا شيخ كبير يعنون أبا أيوب، وأمَّا هذا فسقيم يعنون أبي بن كعب، فخرج معاذ وعبادة بن الصامت وأبو الدرداء، فقال عمر: "أبدوا بحمص؛ فإنكم ستجدون النَّاس فيها على وجوه مختلفة، فإن رضيتم منهم فليقم بها واحد، وليخرج واحد إلى دمشق، والآخر إلى فلسطين"، قال: فقدموا حمص فكانوا بها؛ حتَّى إذا راضوا من الناس، أقام بها عبادة، وخرج أبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذ إلى فلسطين؛ فمات في طاعون عمواس ثمَّ صار عبادة إلى فلسطين، وبها مات، ولم يزل أبو الدرداء بدمشق حتَّى مات رضي الله عنهم وأرضاهم.
هكذا؛ فلتكن الجدية في تعليم كتاب الله، والدعوة لدينه، والنفع لخلقه، حتى لو تغرَّب المعلمون عن الأوطان، وتحملوا الموت في سبيل الغاية النبيلة عند المجاهدين الصادقين.
يا أهل الدثور يا أصحاب الولايات والمسؤوليات في بلاد المسلمين؛ إنَّه لشرف لكم أن تساهموا في تعليم كتاب الله بأموالكم أو بجاهكم، وكم هو شرف عظيم أن تشملنا الخيرية التي وَعَدَ بها الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في البخاري، حين قال: « ».
اللهم اجعل لنا في الخير نصيباً وافراً، واجعل القرآن لنا في الدنيا رفيقاً، وفي القبر مؤنساً، وفي عرصات القيامة شافعاً، هذا وصلوا.
منديل بن محمد آل قناعي الفقيه
- التصنيف:
- المصدر: