إجهاض أُمَّة
إجهاض الأمم مخطط تاريخي شيطاني عريق، كم بسببه تلاشت أمم، وذلَّت ورسفت في الوحل أخرى، وكم بواسطته أُنتِجت دولاً فاشلة ذاقت مُرّ العوز والحاجة بعدما نَعِمَت حيناً من الدهر بالرخاء والاستقرار.
بسم الله الرحمن الرحيم
إجهاض الأمم مخطط تاريخي شيطاني عريق، كم بسببه تلاشت أمم، وذلَّت ورسفت في الوحل أخرى، وكم بواسطته أُنتِجت دولاً فاشلة ذاقت مُرّ العوز والحاجة بعدما نَعِمَت حيناً من الدهر بالرخاء والاستقرار.
أولى خطوات إجهاض أمة أن يتم تقسيم شعبها إلى طائفتين: ثلة قليلة من السادة، وجم غفير من العبيد، السادة لا دور لهم إلا قيادة العبيد، والتنعُّم بخيرات الوطن عبر امتيازات مُعلنةً تارةً وسِريةً تارةً أخرى، أما العبيد فدورهم في غاية العجب، إنهم مخطوفون ذهنياً ومولعون بالهتاف للسادة والتغني بأمجاد الوطن والتصديق بأكذوبة المستقبل المشرِق الذي لم ولن يأتي في يوم من الأيام، عبيد يكدحون دون مقابل يُذكَر لينعم السادة ويلتذون بالعبودية كما يلتذ السادة بالنعيم.
والعبيد في هذه الأمة الميتة هم كيان الأُمَّة الذي تقوم عليه؛ فالقوانين تُطبَّق عليهم وحدهم أما السادة فبالهاتف يصدرون أوامرهم ورغباتهم فتقضى على الفور متجاوزة اللوائح والقوانين والبروتوكولات، من أجل العبيد أنشأت المحاكم لكنها لا تبرم حُكماً، ومن أجلهم كانت مخافر الشرطة لكنها لا تنصف مظلوماً ولا تُجير مستجيراً، ومن أجلهم عقدت الصفقات التجارية والمشروعات التنموية غير أن الخدمات رديئة وقصة البنية التحتية لم ولن تنتهي، وواقع الأمر أنها صفقات وعمولات خفية، وما يوضع في خدمة العبيد أقل بكثيرٍ مما يُحشَر في جيب المنتفعين.
من أجل العبيد كانت الوزارت ولا خدمات، وكانت الجيوش ولا انتصارات، وكانت الجامعات ولا كفاءات، لكن لا يُنكِر أحداً أنهم في دولةٍ لها رئيس وبرلمان ودستور وجيش وعيش.
وللعبيد دور محوري في صناعة "وهم الديمقراطية" لأنهم وقود الانتخابات والاستفتاءات، وبرغم أن شرعية الصندوق مهدرة والتزوير يلاحقها لكن لابد من جمهورٍ أمام اللجان الانتخابية، وبطاقاتٍ وتصويتاتٍ وحبرٍ فسفوري لكي يكتمل المشهد الديمقراطي لا أكثر ولا أقل، أما مسألة القوانين فترميمها في الكواليس أسهل مما يتصور، وتُعيِّن نواب البرلمانات لمن له الولاء لا أكثر ولا أقل حتى وإن لم يحصل إلا على صوت نفسه فقط.
ومخطط إجهاض الأمم يقوم على ثلاث محاور:
- إعلامٌ مضلَّل.
- وسلطة أمنيةٌ قمعية.
- وقضاءٌ فاسدٌ مُزوِّر.
- فالإعلام المضلَّل دوره محوري لأنه يحشد السذج والمغفلين والمشبوهين الذين يوهبون للديمقراطية زخمها وروحها؛ فانقلاب 3 يونيو 2013م المصري -مثلاً- كان المعوِّل كله على النجاح في حشد جماهير لمدة ست ساعات فقط، من أجل أن يجد الانقلابيون المبرِّر لاقتناص السلطة بناء على انتفاضة الجماهير لا على نتائج الصندوق.
- أما السلطة الأمنية القمعية فقد بات في قناعة المواطن العربي أن دولهم لا تشتري السلاح -وهي من أكبر مشتري السلاح في العالم- إلا لقمع شعوبها وحماية كراسي الطغمة الحاكمة، أسلحة لقهر لشعوب وليس لأمن الوطن، أسلحة للمعارضين السياسيين والمناوئين للحكم الأبدي وليست لتحرير المغتصبات الصهيونية وحماية البيضة الإسلامية كما هي وظيفة الجيوش في كل أرجاء الدنيا في حمايةِ أرض،ِ وثوابتِ الأوطان.
- أما القضاء الفاسد فهو من أجل إضفاء صيغة قانونية للاعتقالات والاغتيالات، وكله بالقانون، ولا شرعية فوق شرعية الدستور الذي يكتب ويفسر ويُحتكم إليه عند الحاجة ووقت اللزوم لتبرير كل التجاوزات.
ولذلك تتمتع هذه المحاور الثلاث (الإعلام، الأمن، القضاء) في الدول القمعية بامتيازات لا تحد ولا توصف، من اكتناز ثروات طائلة مدفوعة من دماء الشعوب البائسة، ومناصب مرموقة في كافة قطاعات الدولة، وتصعيد الأقزام وأصحاب المواهب المحدودة مقابل الولاءات لا أكثر ولا أقل.
الغريب أن الكل منتفع ومستفيد من هذا الإجهاض الأممي إلا الشعوب المستعبدة التي لا تعرف إلا التصفيق للأكابر والعيش في كنفهم على فتات موائدهم، تستمرئ الذُّل برضا وتقبل بالخنوع عن طيب خاطر وتستعذب الفقر لكي ينعم الأسياد، متغافلة عن أن الأمم المنتصرة هي تلك الأمم التي استطاعت الانتصار على أزماتها الداخلية قبل الخارجية، وبالعكس فالأمم المهزومة هي الأمم التي انخذلت أمام أكوام الزبالة فلم تستطع التخلُّص منها، وانهزمت في معركة رغيف الخبز فلم توفِّره لمواطنيها.
تلك الأمم التي اندحر فيها القطاع العام وصارت الدولة بأكملها قطاع خاص يُقدِّم خدماته لمن يدفع، مدارس فاشلة والتعليم في أروقة الدروس الخصوصية، ومستشفيات قذرة والعلاج في العيادات الخاصة، بل حتى الماء المنزلي يحتاج لفلتر وإلا كليتك ستدفع الثمن غالياً.
إن الأمة التي حظها من الأمجاد تلويح السذج من أبنائها بالأعلام على أنغام الأغاني الوطنية إنما هي أُمةٌ ماتت من زمنٍ وأهلها لا يشعرون بذلك لموت مشاعرهم.
- التصنيف: