تقويم أخلاق الدعاة
لا ينبغي أن ننظر إلى الأخلاق على أنها مجرد فضائل للتحلي فإن ذلك يعد نظرة ضيقة جدًا لحقيقة ما يجب أن يكون عليه خلق المسلم، وهناك قاعدة تبنى عليها قواعد التعامل الأخرى، وهي قاعدة حسن الخلق.
أمل هذه الأمة لا يزال باقيًا في علمائها ودعاتها، فعلماؤها هم مصابيح الهدى، ودعاتها هم أفئدتها النابضة، ولا تزال الشعوب جميعًا تنتظر من دعاتها نموذجًا تطبيقيًا إيجابيًا لما تسمعه على ألسنتهم من خلق الإسلام، وصفات نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، وأوامره وتصرفاته، ومعاملاته، وأسلوب حياته. والدعاة إلى الله -كما جميع البشر- يعتريهم النقص، ويدخل عليهم الخلل، وليس النقص أو الخلل الطارئ هو المعضلة الكبرى، فإنهما يعالجان بالمتابعة والتقويم، ولكن المعضلة الكبرى هي ألا يلتفت هؤلاء الدعاة إلى ذلك النقص أو ذلك الخلل، خصوصًا إذا تطرق ذلك إلى الخلق أو الصفات التي على أساسها يقدر الناس قيمة الداعية فيتبعونه ويستمعون إليه وينفذون نصحه أو لا يفعلون ذلك.
ونحن بحاجة دائمًا إلى تقديم أساليب تقويمية ومحاور توجيهية إلى الدعاة إلى الله الصادقين الأنقياء نستحثهم على متابعة قلوبهم ونفوسهم ومراجعة جداولهم وأجنداتهم وتقويم كل خطوة من خطوات حياتهم تبعًا للمرجو المأمول من صفات جيل النصر المنشود، وكثيرًا ما كتبت سابقًا حول تقويم جوانب مختلفة من العملية الدعوية، وألتقط إلى قارئي ها هنا جانب من تقويم الجانب الأخلاقي بالخصوص، أعيد على التأكيد عليه وأعيد على التنبيه إلى خطره وأهميته فما أعيد على تكرار الرجاء للتنبه إليه ومراعاته. فالإسلام دائمًا يحث المسلم على اتباع الخلق الحسن كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. وأهم ما في السلوك أن نكون قدوة عملية تطبيقية للخلق، وخلق المسلم منبثق من شريعة الله عز وجل ومن أوامر الدين لأن الخلق عند الغربي هو خلق نفعي وخلق مؤقت؛ أي أنه خلق يتوقف على الحالة التي يكون عليها الإنسان فهذا إن لاق بالغربي النفعي فلا يمكن أن يليق بالدعاة إلى الله بحال، فلا ينبغي أن يكون سلوك الدعاة نفعيا أو قريبا من النفعية أو متعلقًا بمصلحة دنيوية زائلة.
ولا ينبغي أن ننظر إلى الأخلاق على أنها مجرد فضائل للتحلي فإن ذلك يعد نظرة ضيقة جدًا لحقيقة ما يجب أن يكون عليه خلق المسلم، وهناك قاعدة تبنى عليها قواعد التعامل الأخرى، وهي قاعدة حسن الخلق، ويبين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هذه القاعدة بقوله: «اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» (حسنه الألباني في صحيح الترغيب: 3160). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه: "أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة تقوى الله وحسن الخلق". فالخلق في الإسلام فرائض فرضها الله سبحانه وتعالى، وليست فضائل فحسب. كما أن الخلق يمثل أوامر ونواهي حيث نهى الله عن الغيبة، والكذب، وغش الناس، وشهادة الزور وهذه النواهي تعادل الأوامر حيث أمر الله بحسن التعامل مع الناس والأمانة، وكذلك الصدق معهم وبالتالي فإن خلق الإسلام عبارة عن أوامر ونواهي وهذا هو الجانب الذي تأخذه من إطار الإسلام العام.
وإني لأتعجب من بعض الأدعياء عندما يهتمون بمظهرهم الخارجي مع اتصافهم بصفات السوء تلك فكيف يقبل الناس نصحًا من تاجر يغش تجارته ويحرص على الربح فيها بأي وسيلة ويكذب في بيعها؟ وكيف يقبل الناس نصحًا من آخر يشهد زورًا ليبرئ نفسه أو يحلف كذبًا ليرفع قدره، أو يسمح بأن يشتهر عنه قراءة كتب معينة أو حفظ متون معينة أو التعلم على يد شيوخ معينين وهو لم يفعل من ذلك شيئا أبدًا.. إلا رجاء الشهرة البغيضة، ثم يكتشف الخلق الشينة فيهلك مرتين!!
ولخص أحد الحكماء صفات حسن الخلق فيما يلي: "هو أن يكون كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الإصلاح، صدوق اللسان، قليل الكلام، كثير العمل، قليل الزلل، برًا وصولاً، وقورًا صبورًا شكورًا رضيًا، عفيفًا شفيقًا، لا لعانًا ولا سبابًا، ولا نمامًا، ولا مغتابًا، ولا عجولاً ولا حقودًا، ولا بخيلاً ولا حسودًا، بشوش، يحب في الله، ويبغض في الله، يرضى في الله، ويغضب في الله"؛ فمن عرض نفسه من الدعاة على ذلك فوجد نقصًا فليجهد نفسه للاتصاف به وتعلمه والتدرب عليه ومن وجد خيرًا فليثبت عليه وليحسنه وليلزمه مع الجميع.
والعرف والتقاليد جزء من تكوين شخصية المسلم ولكنه ذلك العرف الذي لا يتعارض مع كتاب الله أو سنة نبيه، فالكتاب والسنة أولاً ثم تأتي الأعراف والتقاليد إذا اتفقت مع أوامر الله ونواهيه، وكذلك أوامر الرسول ونواهيه. أما إذا اختلفت مع ما في دين الله سبحانه وتعالى من كتاب وسنة فتلغى تمامًا ولا تكون وإلا كانت عصبية وجاهلية، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في حسن الخلق، وغيره من كرائم الفضائل والخلال. واستطاع بأخلاقه المثالية أن يملك القلوب والعقول من القاصي والداني مع اختلاف تقاليدهم وتباين عاداتهم، قال علي بن أبي طالب: "كان أجود الناس كفًا، وأجرأ الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة. من رآه بديهة هابة. ومن خالطه فعرفه أحبه، لم أر مثله قبله ولا بعده".
وأما أخلاق أهل العلم والدعاة وأخص بالذكر منها آداب الخلاف والعمل بمقتضى القول، فهي التي استشرى أثر التخلي عنها وكثر القيل والقال بسبب غيابها، فقد يتحول الخلاف عند البعض إلى شحناء وبغضاء، وإلى تنافر وتباعد؛ بل قد يؤدي بهم إلى كبائر الآثام، إن السلف الصالح قد تربوا على آداب الإسلام وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يلجوا باب الاختلاف؛ فلما اختلفوا ساد في أوساطهم الحب والتراحم والتناصح.
لكن بعضنا تعلم الاختلاف قبل أن يتربى على آداب وأخلاق الإسلام؛ فأحس أن ثمة معركة تستخدم فيها كل الأسلحة المشروعة وغير المشروعة من أجل الانتصار وإفحام المخالف، ونحن بحاجة إلى التأكيد على بعض الآداب الهامة وتقويم سلوكنا في ضوئها، حتى لا نصبح صياحين في كل وادٍ ونادٍ حول اختلافات العالم الفلاني أو اجتهادات العالم الآخر، ولنعلم أن المجتهد الذي استوفى شروط الاجتهاد مأجور على أي حال؛ فهو مأجور أجرًا واحدًا إن أخطأ، ومأجور أجرين إن أصاب، وكذلك العامي الذي يقلد مجتهدًا كبيرًا استوفى شروط الاجتهاد العلمية والخلقية في مسألة معتبرة الخلاف، وما دام المجتهد قد استفرغ الجهد والطاقة في الاجتهاد، والعامي استفرغ الجهد والطاقة في البحث عن المجتهد المستوفي شروط الاجتهاد؛ فلا مكان أن يعيب على أحد منهما أو يسفه رأيه أو يغمزه في دينه أو عرضه، قال الحافظ ابن عساكر يرحمه الله: "إن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب".
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "المسلمون متفقون على جواز صلاة بعضهم خلف بعض، كما كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم من الأئمة الأربعة، يصلي بعضهم خلف بعض، ومن أنكر ذلك فهو مبتدع ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم من يقرأ بالبسملة، ومنهم من لا يقرأ بها، ومع هذا فقد كان بعضهم يصلي خلف بعض، مثل ما كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية وإن كانوا لا يقرؤون بالبسملة لا سرًّا ولا جهرًا. وصلَّى أبو يوسف خلف الرشيد وقد احتجم، وأفتاه مالك بعدم وجوب الوضوء فصلَّى خلفه أبو يوسف ولم يُعِد. وكان أحمد يرى الوضوء من الحجامة والرعاف فقيل له: فإن كان إمامي قد خرج منه الدم ولم يتوضأ أصلي خلفه؟ فقال: كيف لا تصلي خلف سعيد بن المسيب ومالك؟".
فإن التفريط بالأخوة الإسلامية أو المساس بها لمجرد اختلاف في الرأي أمر لا يجوز لمسلم أن يفعله، أو أن يسقط في شراكه، لا سيما في هذه الظروف التي تداعت فيها علينا الأمم، ولذلك فإن علماء السلف كثيرًا ما يفعلون المفضول ويتركون الأفضل منه مراعاة للائتلاف وخروجًا من الخلاف والنزاع، وقد يتركون المندوب، في نظرهم، ويفعلون الجائز تحقيقًا لذلك".
كذلك فإن محاولة احتكار الصواب خطأ آخر يجب تقويمه، فقد رفض الإمام مالك عرض أبي جعفر المنصور عليه بجعل كتابه (الموطَّأ) مرجعًا وحيدًا للمسلمين، وقال للمنصور: "يا أمير المؤمنين، لا تفعل، إنَّك إن فعلتَ ذلك شققت على المسلمين"، وقال عمر بن عبد العزيز: "ما يسرُّني أنَّ أصحاب محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنَّهم إذا اجتمعوا على قولٍ فخالفهم رجلٌ كان ضالاّ، وإذا اختلفوا فأخذ رجلٌ بقول هذا، ورجلٌ بقول هذا، كان في الأمر سَعة".
كذلك فإن التزام الدعاة بأقوالهم وتطبيقها عمليًا هو لب دعوتهم وقلبها السلوكي النابض وأقصد بذلك أن يطابق قول الداعي عمله، وأن يتمثّل ما يقوله عملاً وسلوكًا ومنهاج حياة، وأن لا يخالف في عمله بالجوارح والمقاصد ما يقوله بلسانه، فقد قال الله تعالى على لسان شعيب {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّـهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]، وعن أسامة رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ» (رواه البخاري ومسلم)، والداعية إلى الله يدعو بالبيان القولي والعملي لا يمكن أن ينفصلا بحال والقدوة أبلغ من القول إقناعًا وأعمق تأثيرًا، ومن أهم ذلك استمرارية التطبيق وعدم الانقطاع عن الصالحات من الأعمال فإن المنقطع عن العمل قدور منبتة وصورة مشوهة للعمل الدعوي الفاضل َقَالَ صلى الله عليه وسلم: «اكْلَفُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ» (رواه البخاري ومسلم).
خالد رُوشه
- التصنيف:
- المصدر: