مانديلا... وغياب الرمز الإسلامي

منذ 2013-12-23

عارض العز بن عبد السلام إبرام صلح مُذل مع الفرنجة، فحبسه الصالح إسماعيل في خيمة، واقتاده معه، حيث كان يبرم الصلح في الخيمة المجاورة.


عارض العز بن عبد السلام إبرام صلح مُذل مع الفرنجة، فحبسه الصالح إسماعيل في خيمة، واقتاده معه، حيث كان يبرم الصلح في الخيمة المجاورة.

وظل الشيخ يتلو القرآن، ويصلي وهم يسمعونه، فقال إسماعيل لجلسائه متفاخراً: "تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن".
قالوا: "نعم".
قال: "هذا أكبر قسوس المسلمين، وقد حبسته لإنكاره علي تسليمي لكم حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق، وعن مناصبه، ثم أخرجته، فجاء إلى القدس، وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم".
فقالت له ملوك الفرنج: "لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقها!".(

طبقات الشافعية الكبرى، لتاج الدين أبي النصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي

).


 

هؤلاء هم الفرنجة، الذين يتمنون مثل هذا الرجل في تاريخهم، ليصنعوا منه رمزاً يقدسه الناس لغياب أمثاله فيهم، وهؤلاء أحفادهم الغربيون، الذين يقدمون للأمة الإسلامية وللعالم كله شخصياتهم التي يصنعونها، لتكون رموزاً ليتلقفها الناس جميعاً ومنهم المسلمون، ويعتبرونهم شخصيات فذة في التاريخ الإنساني، وليقدموهم كقدوات ينبغي الاحتذاء بها، وبطريقة سيرها، حتى لو كانوا شخصيات هزيلة لا تقوى على منافسة الشخصيات الإسلامية التي تفوقهم في رونقها وبريقها وصفاتها.

ويجيد الغرب صنع الرمز وتسويقه للناس على هيئة شخصية متميزة يكثر الحديث عنها، وعن بطولاتها ومواقفها وربما يفتعل لها مواقف ليست حقيقة، ويضفي عليها من البهاء الذي تفتقر إليه، حتى يقدمها للناس في أبهى صورة.

وربما يخترع شخصيات لفقره، ليحيك حولها الأساطير، وليلتف حولها الناس، ولا يدرك سوى صانعيها أنها شخصيات وهمية، وبطولات زائفة، ولكن كل ما يهمهم هو استفادتهم القصوى من الشخصية الزائفة، التي أضحت رمزاً للعالم كله، والتي يمكنها أن تُسمع صوتها ويُستمع لها.

ونحن حتى الآن، لم نستطع نحن كعرب ومسلمين أن نستفيد من هذا التراث الضخم من الشخصيات الفذة التي نملكها، بل ربما لم نهتم بهذه القضية الإهتمام الكافي، ولم نوليها هذا القدر من الأهمية، على خطورتها وعظم تأثيرها.

فلم تملك في أمة من الأمم، مثل الأمة العربية والإسلامية هذا الكنز الهائل من الشخصيات العظيمة قديماً وحديثاً إذ توجد لدينا شخصيات حقيقية، تتحلى بالمقاييس التي يقيسون بها الشخصيات العظيمة وتتفوق عليها أيضاً في كافة الميادين والأصعدة، في حين أن معظم الشخصيات التي صنعوا منها رموزاً ليفتنوا بها الناس، وليصوروهم على أنهم من خيرة من أنجبت البشرية، كانت شخصيات بها من العيوب الكثيرة، والتي ربما ظهرت قوتها في جانب واحد، فتغاضوا عن عيوبهم، وطمسوا ذكرها، ورفعوا ذكر مزاياهم الحقيقية أو الوهمية، ليعيش الناس حولهم وليقتدوا بهم بعد أن ينظروا إليهم باعتزاز وتكريم.

ونيلسون مانديلا، من آخر النماذج التي صنعها الغرب، وجعل منها أسطورة تُحكى لكل البشرية، وأضاف إليها الرونق الحقيقي منه، والكثير من المصطنع المختلق ليكون أيقونة للتحرر في العالم، وليطفو اسمه، وليفرض عند الحديث عن من رفعوا راية التحرر من الاستعمار أو من التفرقة العنصرية كما يسمونها.

وبصرف النظر عن التقييم الشخصي لسلوك مانديلا، الذي تباكت عليه النخب المثقفة في عالمنا العربي والإسلامي، والذي فجعت كثير من الأوساط الرسمية العربية بموته، وأعلنت حداداً رسمياً على مستوى الدول عليه، إلا أنه كان من مواقفه المخزية في حياته، وخاصة بعد توليه رئاسة بلده، ما يجعلنا نثق أن وراء هذا التلميع شخصية لا ترقى أبداً لهذا المستوى من التكريم.

فمانديلا الذي حاز جائزة نوبل للسلام، وقضى حياته كما اشتهر في محاربة الاستعمار، واحتلال بلده يرحب ويدعم الغزو الأمريكي لأفغانستان، ثم العراق مشترطاً فقط أن يتم الغزو تحت مظلة الأمم المتحدة!.

فهل يمكن اعتبار تلك الشخصية، بهذا الانقلاب في أفكارها، شخصية عظيمة تستحق كل هذا القدر، وخاصة في بلادنا؟.
وهل فقط تسير نخبنا، خلف السيد الغربي الذي يقرر رفع شخصية أو خفضها، فنتبعه دون إعمال لفكر أو نظر؟.

ومع احتكار الغرب لمانديلا، سمة قيادة نماذج التحرر في العالم، واحتكار نموذج الحرية، الذي وصفه أوباما: "بأنه من لحم ودم، وليس تمثالاً رخامياً"، يقصد تمثال الحرية.

ويقول: "لذلك تعلمنا منه الكثير، وسنذكره على الدوام، وسيبقى أيقونة في ذاكرتنا".
إلا أن العالم كما أوجد رمزاً نصرانياً للحرية، طمس متعمداً رموزاً إسلامية، تفوق في عطائها هذا الرمز النصراني المتغرب.

فإذا كان مانديلا قد مكث في السجن سبعة وعشرين عاماً، إلا أن هناك من مكث أكثر منه، فسجن ثلاثين عاماً كاملة، وكان سبب سجنه مواجهته لنفس المستعمر الذي واجهه مانديلا، وكان في نفس البلد، المجاهد البطل الإمام عبد الله هارون، الذي سجن لثلاثين عاماً مدافعاً عن حرية بلده، وكرامة أهله، حتى قُتل في عام 1969، ولكن الفارق الوحيد بينهما، أن الآخر كان مسلماً، ولذا طمس الغرب ذكره، ورفع فقط صورة مانديلا فقط.

ولكن لضعف فينا نحن وغفلة عن رموزنا الحقيقية، واستسلامنا الحقيقي والواقعي حتى بمثقفينا للفكر الغربي، الذي يرفع من قدر أناس ويخفض غيرهم، ونحن نسير كالأسرى وراءه.

ولم تكن أبداً أزمتنا مع صنع الرموز الإسلامية أزمة موارد وإمكانيات!.
ولا أزمة عدم وجود رموز حقيقية تستحق وأن تخرج على الناس ليروا حقيقتها!.
ولم تكن أزمتنا، أننا نحتاج إلى إضافة عناصر الإبهار إليها كما يفعل الغرب!.
وإنما أزمتنا الحقيقية في هذا، هي غياب الفكرة عن رؤوس المثقفين المسلمين وغيرهم، ممن يمكنهم صناعة الرموز، فغياب الفكرة لدينا واستسلامنا فكرياً للغرب، أدى بنا إلى أن نتلقف ما يقدمونه لنا كبضاعة غثة، تصور لنا على أنها كنوز ثمينة.

ولعل مشكلتنا الأخطر في مضمار عدم تسويق الرموز الإسلامية الحقيقية، هي مشكلة تحطيم الرموز التي يمكن أن تقود الأمة فكرياً وعملياً.

وتحطيم الرموز، إما بقصد ونية من أعداء الأمة في الداخل والخارج، أو بحسن نية من أبناء الإسلام بلا تعمد ولا سوء نية.

فلم يكن سعي ابن سلول لإيقاد فتنة الإفك، لتحطيم صورة السيدة عائشة ولا أبيها رضي الله عنهما فحسب، بل كانت الغاية الأهم؛ تحطيم صورة النبي صلى الله عليه وسلم كرمز للأمة وقائد لها، ولهذا كان تعريف السيدة عائشة في كلمته الشهيرة، عندما رأى صفوان آخذا بزمام ناقتها فقال: "امرأة نبيكم تبيت مع رجل منكم، فلا نجت منه، ولا نجا منها".

وبعد ذلك، قام الخوارج ومن عُرفوا بعد ذلك بالشيعة، بمحاولة تحطيم صورة الصحابة رضي الله عنهم، فكفروهم وضللوهم، وحثوا الناس على تركهم، وعدم الاقتداء بهم، وهكذا سار خلفهم ممن يمقتون الشريعة ورجالها في تحطيم كل رمز إسلامي، بالتلفيق والكذب والزور والبهتان، حتى وصلنا اليوم للعلمانيين كارهي الشريعة، فنجدهم لا يتركون رمزاً إسلامياً إلا وطعنوا فيه حياً أو طعنوا في سيرته بعد وفاته.

بالتأكيد على نشر عيوبه الحقيقية، أو اختلاق القصص الوهمية الباطلة لمحو وجود رمز إسلامي يمكن أن ينهض بالمسلمين في أي اتجاه.


أما تحطيم الرموز بدون قصد، هو سعي البعض من الإسلاميين لطمس أي شخصية ورمز إسلامي يظهر على الساحة حينما يكون مخالفاً في بعض الفروع، ويتم تحطيمه في أعين متابعيه، وكأننا ننشد الكمال في الإنسان دون أن ننتبه جميعاً إلى أن الكمال الإنساني شيئ يستحيل وجوده بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

فلا تجد رمزاً يظهر في أي مضمار، ثم يتصدر هو بنفسه إن كان حياً، أو تتصدر كلماته وأفكاره بعد موته، إلا وتجد من يتطوع بحسن نية بالنبش في أفكاره وكلماته، وتحميل بعضها فوق وغير ما تحتمل، فتكون النتيجة تحطيمه كرمز في أعين محبيه ومتبعيه، قبل أعين غيرهم لنظل دوماً بلا رمز.

لن تخسر الأمة إن أرادت أن تستخرج الكنوز من الرموز المطموس ذكرها في التاريخ الإسلامي، ولن تخسر إذا تبنت فكرة دعم رموز لازالت تعيش بيننا الآن، بل ستربح كثيراً.

فأمة الإسلام أمة ولود، لا ينتهي خيرها ولا ينقطع مددها، ولا يمكن قيام نهضة لأمتنا إلا بدعم رموزها في كافة الميادين، ليشكلوا وجداناً حياً للشعوب؛ ليسير الناس على خطاهم، فبكلمة واحدة وبموقف واحد من رمز صالح، ربما يشكل علامة فارقة ويمكنه بإذن الله تغيير شعوب بأكملها.

 

يحيى البوليني
 

  • 7
  • 0
  • 1,873

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً