الخطرات من أثر المعاصي

منذ 2014-01-01

وأما الخطرات: فشأنها أصعب، فإنها مبدأ الخير والشر، ومنها تتولد الإرادات والهمم والعزائم، فمن راعى خطراته ملك زمام نفسه وقهر هواه، ومن غلبته خطراته فهواه ونفسه له أغلب، ومن استهان بالخطرات قادته قهرًا إلى الهلكات، ولا تزال الخطرات تتردد على القلب حتى تصير منى باطلة.


وأما الخطرات: فشأنها أصعب، فإنها مبدأ الخير والشر، ومنها تتولد الإرادات والهمم والعزائم، فمن راعى خطراته ملك زمام نفسه وقهر هواه، ومن غلبته خطراته فهواه ونفسه له أغلب، ومن استهان بالخطرات قادته قهرًا إلى الهلكات، ولا تزال الخطرات تتردد على القلب حتى تصير منى باطلة.

كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور من الآية:39].

وأخس الناس همة وأوضعهم نفسًا، من رضي من الحقائق بالأماني الكاذبة، واستجلبها لنفسه وتجلى بها، وهي لعمر الله رؤوس أموال المفلسين، ومَتاجر البطالين، وهي قوت النفس الفارغة، التي قد قنعت من الوصل بزورة الخيال، ومن الحقائق بكواذب الآمال، كما قال الشاعر:

 


أماني من سعدى رواء على الظما *** سقتنا بها سعدى على ظمأٍ بردا  
منى إن تكن حقا تكن أحسن المنى *** وإلا فقد عشنا بها زمنًا رغدا


 

وهي أضرُّ شيء على الإنسان، ويتولّد منها العجز والكسل، وتولد التفريط والحسرة (ص: [155]) والندم، والمتمني لما فاتته مباشرة الحقيقة بجسمه حول صورتها في قلبه، وعانقها وضمها إليه، فقنع بوصال صورة وهمية خيالية صورها فكره.

وذلك لا يجدي عليه شيئًا، وإنما مثله مثل الجائع والظمآن، يصور في وهمه صورة الطعام والشراب، وهو لا يأكل ولا ويشرب.

والسكون إلى ذلك واستجلابه يدل على خسارة النفس ووضاعتها، وإنما شرف النفس وزكاؤها، وطهارتها وعلوها بأن ينفي عنها كل خطرة لا حقيقة لها، ولا يرضى أن يخطرها بباله، ويأنف لنفسه منها.

ثم الخطرات بعد أقسام تدور على أربعة أصول:

1- خطرات يستجلب بها العبد منافع دنياه.

2- وخطرات يستدفع بها مضار دنياه.

3- وخطرات يستجلب بها مصالح آخرته.

4- وخطرات يستدفع بها مضار آخرته.

فليحصر العبد خطراته وأفكاره وهمومه في هذه الأقسام الأربعة، فإذا انحصرت له فيها أمكن اجتماعه منها ولم يتركه لغيره، وإذا تزاحمت عليه الخطرات لتزاحم متعلقاتها، قدَّم الأهم فالأهم الذي يخشى فوته، وأخّر الذي ليس بأهم ولا يخاف فوته.

بقي قسمان آخران:

أحدهما: مهم لا يفوت.

والثاني: غير مهم ولكنه يفوت.

ففي كل منهما ما يدعو إلى تقديمه، فهنا يقع التردد والحيرة، فإن قدم المهم؛ خشي فوات ما دونه، وإن قدَّم ما دونه فاته الاشتغال به عن المهم، وكذلك يَعرِض له أمران لا يمكن الجمع بينهما، ولا يحصل أحدهما إلا بتفويت الآخر.

فهو موضع استعمال العقل والفقه والمعرفة، ومن هاهنا ارتفع من ارتفع وأنجح من أنجح، وخاب من خاب، فأكثر من ترى ممن يعظم عقله ومعرفته، يؤثر غير المهم الذي لا يفوت على المهم الذي يفوت، ولا تجد أحدًا يسلم من ذلك، ولكن مستقل ومستكثر.

والتحكيم في هذا الباب للقاعدة الكبرى التي عليها مدار الشرع والقدر، وإليها مرجع الخلق والأمر، وهي إيثار أكبر المصلحتين وأعلاهما، وإن فاتت المصلحة التي هي دونها، والدخول في أدنى المفسدتين لدفع ما هو أكبر منها (ص: [156]).


 

فيفوت مصلحة لتحصيل ما هو أكبر منها، ويرتكب مفسدة لدفع ما هو أعظم منها.

خطرات العاقل:

فخطرات العاقل وفكره لا يجاوز ذلك، وبذلك جاءت الشرائع، ومصالح الدنيا والآخرة لا تقوم إلا على ذلك، وأعلى الفكر وأجلها وأنفعها: ما كان لله والدار الآخرة، فما كان لله فهو أنواع:

أحدها: الفكرة في آياته المنزلة وتعقلها، وفهمها وفهم مراده منها، ولذلك أنزلها الله تعالى، لا لمجرد تلاوتها، بل التلاوة وسيلة.

قال بعض السلف: "أنزل القرآن ليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملًا".

الثاني: الفكرة في آياته المشهودة والاعتبار بها، والاستدلال بها على أسمائه وصفاته، وحكمته وإحسانه، وبره وجوده، وقد حض الله سبحانه عباده على التفكر في آياته وتدبُّرها وتعقلها، وذم الغافل عن ذلك.

الثالث: الفكرة في آلائه وإحسانه، وإنعامه على خلقه بأصناف النعم، وسعة رحمته ومغفرته وحلمه.

وهذه الأنواع الثلاثة تستخرج من القلب معرفة الله ومحبته وخوفه ورجاءه. ودوام الفكرة في ذلك مع الذكر يصبغ القلب في المعرفة والمحبة صبغة تامة.

الرابع: الفكرة في عيوب النفس وآفاتها، وفي عيوب العمل، وهذه الفكرة عظيمة النفع، وهذا باب لكل خير، وتأثيرها في كسر النفس الأمارة بالسوء، ومتى كسرت عاشت النفس المطمئنة وانبعثت وصار الحكم لها، فحيي القلب، ودارت كلمته في مملكته، وبث أمراءه وجنوده في مصالحه.

الخامس: الفكرة في واجب الوقت ووظيفته وجمع الهم كله عليه، فالعارف ابن وقته، فإن أضاعه ضاعت عليه مصالحه كلها، فجميع المصالح إنما تنشأ من الوقت، وإن ضيعه لم يستدركه أبدًا.

قال الشافعي رضي الله عنه: "صحبت الصوفية فلم أستفد منهم سوى حرفين: أحدهما قولهم: الوقت سيف، فإن قطعته وإلا قطعك".

وذكر الكلمة الأخرى: "ونفسك إن لم تشغلها بالحق وإلا شغلتك بالباطل".

فوقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة المعيشة الضنك في العذاب الأليم، وهو يمرُّ أسرع من السحاب، فما كان من وقته لله وبالله (ص: [157]) فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوبًا من حياته، وإن عاش فيه عاش عيش البهائم، فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو والأماني الباطلة، وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة، فموت هذا خير له من حياته.

وإذا كان العبد -وهو في الصلاة- ليس له من صلاته إلا ما عقل منها فليس له من عمره إلا ما كان فيه بالله ولله.

وما عدا هذه الأقسام من الخطرات والفكر، فإما وساوس شيطانية وإما أماني باطلة، وخدع كاذبة، بمنزلة خواطر المصابين في عقولهم من السكارى والمحشوشين والموسوسين، ولسان حال هؤلاء يقول عند انكشاف الحقائق:

 


إن كان منزلتي في الحشر عندكم *** ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي
أمنية ظفرت نفسي بها زمنًا *** واليوم أحسبها أضغاث أحلام


 

واعلم أن ورود الخاطر لا يضر، وإنما يضر استدعاؤه ومحادثته، فالخاطر كالمار على الطريق، فإن تركته مر وانصرف عنك، وإن استدعيته سحرك بحديثه وغروره، وهو أخف شيء على النفس الفارغة الباطلة، وأثقل شيء على القلب والنفس الشريفة السماوية المطمئنة.

وقد ركب الله سبحانه في الإنسان نفسين: نفسًا أمارةً ونفسًا مطمئنة، وهما متعاديتان، فكل ما خف على هذه ثقل على هذه، وكل ما التذت به هذه تألمت به الأخرى، فليس على النفس الأمارة أشق من العمل لله وإيثار رضاه على هواها، وليس لها أنفع منه، وليس على النفس المطمئنة أشق من العمل لغير الله، وما جاء به داعي الهوى.

وليس عليها شيء أضر منه، والملك مع هذه عن يمنة القلب، والشيطان مع تلك عن يسرة القلب، والحروب مستمرة لا تضع أوزارها إلا أن يستوفى أجلها من الدنيا، والباطل كله يتحيز مع الشيطان والأمارة، والحق كله يتحيز مع الملك والمطمئنة، والحرب دول وسجال، والنصر مع الصبر، ومن صبر وصابر ورابط واتقى الله فله العاقبة في الدنيا والآخرة، وقد حكم الله تعالى حكما لا يبدل أبدًا: أن العاقبة للتقوى، والعاقبة للمتقين، فالقلب لوح فارغ، والخواطر نقوش تنقش فيه، فكيف يليق بالعاقل أن يكون نقوش لوحه ما بين كذب وغرور وخدع، وأماني باطلة، وسراب لا حقيقة له؟ فأي حكمة وعلم وهدى ينتقش مع هذه النقوش؟ وإذا أراد أن ينتقش ذلك في لوح قلبه كان بمنزلة كتابة العلم النافع في محل مشغول بكتابة ما لا منفعة فيه، فإن لم يفرغ القلب من الخواطر الردية، لم تستقر فيه الخواطر النافعة، فإنها لا تستقر إلا في محل فارغ، كما قيل: (ص: [158]).

 


أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى *** فصادف قلبًا فارغًا فتمكنا


 

وهذا كثير من أرباب السلوك بنوا سلوكهم على حفظ الخواطر، وأن لا يمكنوا خاطرًا يدخل قلوبهم حتى تصير القلوب فارغة قابلة للكشف وظهور حقائق العلويات فيها، وهؤلاء حفظوا شيئا وغابت عنهم أشياء، فإنهم أخلوا القلوب من أن يطرقها خاطر فبقيت فارغة لا شيء فيها، فصادفها الشيطان خالية، فبذر فيها الباطل في قوالب أوهمهم أنها أعلى الأشياء وأشرفها، وعوضهم بها عن الخواطر التي هي مادة العلم والهدى، وإذا خلا القلب عن هذه الخواطر جاء الشيطان فوجد المحل خاليًا، فيشغله بما يناسب حال صاحبه، حيث لم يستطع أن يشغله بالخواطر السفلية، فشغله بإرادة التجريد والفراغ من الإرادة التي لا صلاح للعبد ولا فلاح إلا أن تكون هي المستولية على قلبه، وهي إرادة مراد الله الديني الأمري الذي يحبه ويرضاه، وشغل القلب واهتمامه بمعرفته على التفصيل به، والقيام به، وتنفيذه في الخلق، والتطرق إلى ذلك، والتوسُّل إليه بالدخول في الخلق لتنفيذه، فيضلهم الشيطان عن ذلك بأن دعاهم إلى تركه وتعطيله من باب الزهد في خواطر الدنيا وأسبابها.

وأوهمهم أن كمالهم في ذلك التجريد والفراغ، وهيهات هيهات، إنما الكمال في امتلاء القلب من الخواطر والإرادات والفكر في تحصيل مراضي الرب تعالى من العبد ومن الناس، والفكر في طرق ذلك والتوصل إليه، فأكمل الناس أكثرهم خواطر وفكرًا وإرادات لذلك، كما أن أنقص الناس أكثرهم خواطر وفِكرًا وإرادات لحظوظه وهواه أين كانت، والله المستعان.

وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت تتزاحم عليه الخواطر في مراضي الربِّ تعالى، فربما استعملها في صلاته، فكان يجهز جيشه وهو في الصلاة، فيكون قد جمع بين الجهاد والصلاة، وهذا من باب تداخل العبادات في العبادة الواحدة، وهو من باب عزيز شريف، لا يدخل منه إلا صادق حاذق الطلب، متضلع من العلم، عالي الهمة، بحيث يدخل في عبادة يظفر فيها بعبادات شتى، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

 

المصدر: كتاب الجواب الكافي؛ لابن القيم رحمه الله
  • 17
  • 0
  • 22,697

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً