الفرعون لا يموت إلا غرقاً...

منذ 2014-01-13

الإعلام المصري غارق في الاستقطاب، ونهاية هذا الاستقطاب أن تغرق سفينة الإعلام بكل ما تحمله ولا ينجوا منها إلا من كان في مكان قصي لم يشارك في معركة التحريض والتخوين والقتل.



{قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:الآية 29]

-------

المتابع للإعلام المصري الفضائي يترحم على حرفيته ومهنيته فالجميع ينادي بأعلى صوته على بضاعته ضمن برامجه يبيع من خلالها ما بقي من أخلاقه بعد أن تجردت منها الفضائيات المصرية ليس في الجانب الدرامي؛ بل في برامج الحوار السياسي.


ومع انشغال الدولة بهموم أخرى وصمتها عن حملات التخوين؛ ورعايتها في بعض الأحيان لحملات التحريض انتكست القواعد المهنة الإعلامية وغابت مواثيق الشرف الإعلامي وأصبح التعرض لبائع عربة فول في زقاق حارة شعبية يُقرأ في الفضائيات المصرية بتفسيرات متناقضة ومعلومات متضاربة وتنافس المتنافسون في ترويج الأكاذيب وتأجيج المشاعر، وحملات التحريض.

وإن كان كما أصدرت منظمة هيومن رايتش واتش تقرير وصفت فيه فترة محمد مرسي الرئاسية بـ"الأسوأ" إلا أن حرية التعبير والحريات الإعلامية ما زالت تعاني الكثير الآن، فبعد خطاب الانقلاب لوزير الدفاع المصري عبد الفتاح السيسي وعزل الرئيس محمد مرسي، انطلقت سيارات الشرطة نحو مدينة الإنتاج الإعلامي، وتم إيقاف بث قناة مصر 25 ، والحافظ الناس، والرحمة، والخليجية، ومداهمة قناة "الجزيرة مباشر مصر" وإقفال مكاتبها في القاهرة، واعتقال عشرات العاملين في هذه الفضائيات، كما عطّلت المؤسسة المسؤولة عن القمر الصناعي المصري نايلسات بث قناة الأقصى والقدس واليرموك.

إن أخطر ما يعانيه الإعلام المصري الجهل التام في التحليل، بل كل ما يقدمه من تصريحات تتم لتمضية "برنامج الليلة" يُغلفها سطحية بالغة في فهم الواقع المصري ومآلته المستقبلية، سيطر عليها للأسف ضيوف عديمي الموهبة والفهم مدعين أنهم يدركون الواقع المصري، فأي ضيف يستطيع أن يمرر ما يريد ولا يجد من يرد عليه بوعي، فأصبح النِتاج الإعلامي مشوهة بفعل تغلغل لغة المصالح وعلو صوت الإعلام المريض بفعل مواكب المهرجين وغاب عن المشهد أصحاب التحليل والفهم العميق.


إن أخطر السقطات التي ارتكبها الإعلام المصري الاعتماد على أسماء معروفة في مجال الصحافة وبين عشية وضحاها أصبحوا خبراء تحليل في كل شئ وأي شئ، سياسة اقتصاد أمن إرهاب جماعات إسلامية وضع ما تشاء من موضوعات؛ فالإعلام المصري يقدم لك الحل!!
والغريب أن المحللين والخبراء يتناقلون بين كل المحطات خلال أجزاء من الساعة بحكم وجود القنوات الفضائية داخل حرم مدينة الإنتاج الإعلامي، وبحكم عملي لزمن في الإعداد التلفزيوني أكاد أجزم أن المواد التلفزيونية تصدر مترهلة "كنص" فلا يوجد إعداد محكم ولا زواية معالجة ولا محاور رئيسة وفروع ثانوية بل ثرثرة عبر ساعات طويلة مع أن أغلب برامج التوك شو لا تزيد مدتها عن 50 دقيقة.


أما موضوعات النزاهة والحياد فهي أصلاً صعبة المنال في الإعلام؛ ولايوجد إعلام حيادي بل كل ما يقدم في الإعلام العالمي يبث ضمن تيارات فكرية أو قومية ولكن أن يتشدق الإعلام بعدم الحياد فهذا لم يحدث إلا في الإعلام المصري، فخلال الفترة ما بين تظاهرة 30 يونيو وعزل مرسي 3 يوليو؛ تعامل الإعلام المصري مع الحدث بحماسة، واحتفل كثيرهم بعزل مرسي.

وقالت منى الشاذلي: "أعتذر منكم على عدم المهنية، فنحن في لحظة تاريخية"، أما إبراهيم عيسى فقد رقص مع فريقه وقال: "خلصنا منهم، كانوا فاكرين إن مصر عزبة أبوهم"، وبكى عمرو أديب من فرط السعادة رافعاً العلم المصري.


أما هالة سرحان فبعد عزل الرئيس محمد مرسي أصيبت بانهيار حاد مصحوب ببكاء الفرح على الهواء، وقالت لميس الحديدي: "ارقصوا يا مصريون وافرحوا وغنوا، مصر عادت لنا، رحل النظام الفاشي".

بخجل يتحدث أكثر من مصدر إعلامي مصري عن صفقات سرية بين مؤسسات إعلامية محلية ودوائر لتمويل برامج إعلامية محددة مرسومة بدقة، وعن دور مشبوه لإعلاميين ومؤسسات مجتمع مدني، وبفعل هذا الدعم تحول الإعلام المصري إلى أدوات هدم للتاريخ المصري واصبح العقل المصري بكل ثوابته وقيمه مسرحاً لتسطيح الفكر والانقضاض على قناعاته.

فمنذ ثورة يناير والإعلام المصري يدفع بالشارع المصري إلى عدم الإستقرار عبر إشعال الفتن وتحول الإعلاميون في مصر إلى محركون للأحداث ارتدوا حلة الزعماء السياسيين وتباكوا على الوطنية وتحدثوا باسم الشعب وغابت المصداقية واختلطت الأوراق ما بين إعلام دولة مدين بنحو 13 مليار جنيه وإعلام خاص بعيد عن النزاهة، وغابت الرؤية والرسالة وخسرت مصر وإعلامها وتجذرت الانقسامات الحادة في الرؤي والأهداف والمصالح وتحول الصراع بين المؤسسات الإعلامية إلى مواجهات حادة حول صفقات داخلية لجذب المشاهدين، وتحول النشاط الإعلامي إلى معارك سياسية وحزبية ووسيلة للظهور، وفرضت بعض الاسماء نفسها على الوسائل الإعلامية بشكل دائم وغاب للأسف إعلام الفكر والرسالة.


إن الإعلام قوة ضاربة في مسيرة الأوطان وقادر على قلب موازين الأشياء وإسقاط النظم الحاكمة فمن يملك المال يستطيع أن يقيم عشرات المنابر الإعلامية ويشتري آلاف الضمائر بعد أن أصبح ديدن الإعلام هو الانفلات. وبقدر ما كان مأمول من الإعلام تنظيم الوعي بقدر ما شارك في تشويه اشياء كثيرة، فصحوة الضمير المطلوبة هي الحل الوحيد للخروج بالإعلام المصري من سردايب الظلمة  والافتراءات والأكاذيب والبعد عن الطيش واللهو بمقدرات وطن يمر بظروف استثنائية قبل أن تحل الكارثة.

الإعلام المصري غارق في الاستقطاب، ونهاية هذا الاستقطاب أن تغرق سفينة الإعلام بكل ما تحمله ولا ينجوا منها إلا من كان في مكان قصي لم يشارك في معركة التحريض والتخوين والقتل.



1/7/2014 م

باسل النيرب

مجلة البيان
 

  • 2
  • 0
  • 4,753

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً