الإنكار على الولاة لا يناقض توقيرهم
منذ 2014-01-14
الطائفة الأولى التي تعلي من قدر الأمير فتقدره وتحترمه الاحترام الذي ينافي الإنكار عليه ولو أتى من المنكرات ما أتى، ومن ثم يذمون من ينكر عليه ويبدعونه وربما زادوا على ذلك. والطائفة الثانية التي تعلي من شأن المخالفة فتنكر على الوالي إنكاراً شديداً بحيث لا ترعى له حرمة، والمذهب الوسط يُرحم فيه الخلق ويُعظم فيه الشرع، فينكر على الوالي ما أخطأ فيه مع الاحتفاظ له بالتقدير والاحترام الذي أعطاه إياه الشرع.
هناك من الأمور ما قد يتناقض اجتماعها معاً في تصور بعض الناس، فقد يتصور أن الإنكار على الولاة ما أخطئوا فيه لا يجتمع مع توقيرهم واحترامهم، فإذا أنكر عليهم ما خالفوا فيه الشريعة لم يقم بذهنه إمكانية تقديرهم واحترامهم، وهناك من يتصور أن توقير الولاة واحترامهم يقتضي عدم الإنكار عليهم، فتقديرهم واحترامهم ينافي الإنكار عليهم، فالصورتان عندهم لا تتواردان على محل واحد، أما أهل الفهم السليم فلا يمتنع عندهم توارد الصورتان على محل واحد من حيث إمكانية وقوع الوالي في خطأ يوجب النكير عليه وله في الوقت نفسه من الأعمال الحسنة التي توجب تقديره واحترامه، ويوم أن غاب هذا الفهم وحل محله الفهم العليل ابتلي المسلمون بطائفتين:
الطائفة الأولى التي تعلي من قدر الأمير فتقدره وتحترمه الاحترام الذي ينافي الإنكار عليه ولو أتى من المنكرات ما أتى، ومن ثم يذمون من ينكر عليه ويبدعونه وربما زادوا على ذلك.
والطائفة الثانية التي تعلي من شأن المخالفة فتنكر على الوالي إنكاراً شديداً بحيث لا ترعى له حرمة، والمذهب الوسط يُرحم فيه الخلق ويُعظم فيه الشرع، فينكر على الوالي ما أخطأ فيه مع الاحتفاظ له بالتقدير والاحترام الذي أعطاه إياه الشرع، وأذكر هاهنا واقعة تدل على تمسك العلماء والأمراء في عصور الإسلام الغابرة بذلك، فلا العالم تهيب من الإنكار على الوالي ما أخطأ فيه، ولا الوالي تجبر وتكبر وأصر على خطأه، روى الخطيب بسنده في تاريخ بغداد "عن عمر بن الهياج بن سعيد، قال: أتته امرأة يوما، (يعني: شريكا القاضي)، من ولد جرير بن عبد الله البجلي صاحب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في مجلس الحكم، فقالت: أنا بالله ثم بالقاضي، امرأة من ولد جرير بن عبد الله صاحب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورددت الكلام، فقال: إيها عنك الآن، منْ ظلمك؟ فقالت: الأمير موسى بن عيسى، كان لي بستان على شاطئ الفرات لي فيه نخل ورثته عن آبائي وقاسمت إخوتي، وبنيت بيني وبينهم حائطا، وجعلت فيه فارسيا في بيت يحفظ النخل، ويقوم ببستاني، فاشترى الأمير موسى بن عيسى من إخوتي جميعا، وساومني وأرغبني فلم أبعه، فلما كان في هذه الليلة بعث بخمس مائة فاعل فاقتلعوا الحائط، فأصبحت لا أعرف من نخلي شيئا، واختلط بنخل إخوتي، فقال: يا غلام طينة (طينة هي كالشمع اليوم يختم به على المراسلات حتى لا تفض)، فختم، ثم قال لها: امضي إلى بابه حتى يحضر معك، فجاءت المرأة بالطينة فأخذها الحاجب، ودخل على موسى، فقال: أعدى شريك عليك، قال: ادع لي صاحب الشرط، فدعا به، فقال: امض إلى شريك، فقل: يا سبحان الله، ما رأيت أعجب من أمرك، امرأة ادعت دعوى لم تصح أعديتها علي، قال: يقول له صاحب الشرط، إن رأى الأمير أن يعفيني فليفعل، فقال: امض ويلك.
فخرج فأمر (صاحب الشرط) غلمانه أن يتقدموا إلى الحبس بفراش وغيره من آلة الحبس، فلما جاء فوقف بين يدي شريك، فأدى الرسالة، قال (شريك لأحد أعوانه): خذ بيده فضعه في الحبس، قال: قد والله يا أبا عبد الله عرفت أنك تفعل بي هذا، فقدمت ما يصلحني إلى الحبس، وبلغ موسى بن عيسى، يعني: الخبر، فوجه الحاجب إليه، فقال: هذا مِنْ ذاك رسول، أي شيء عليه؟ فلما وقف بين يديه وأدى الرسالة، قال: ألحقه بصاحبه، فحبس، فلما صلى الأمير العصر بعث إلى إسحاق بن الصباح الأشعثي، وجماعة من وجوه الكوفة من أصدقاء شريك، فقال: امضوا إليه فأبلغوه السلام، وأعلموه أنه قد استخف بي، وأني لست كالعامة، فمضوا وهو جالس في مسجده بعد العصر، فدخلوا فأبلغوه الرسالة، فلما انقضى كلامهم، قال لهم: ما لي لا أراكم جئتم في غيره من الناس كلمتموني؟ مَنْ هاهنا من فتيان الحي، فيأخذ كل واحد منكم بيد رجل فيذهب به إلى الحبس، لا بِتُّم والله إلا فيه قالوا: أجاد أنت؟ قال: حقا حتى لا تعودوا برسالة ظالم، فحبسهم، وركب موسى بن عيسى في الليل إلى باب الحبس، ففتح الباب وأخرجهم جميعا، فلما كان الغد وجلس شريك للقضاء، جاء السجان فأخبره فدعا بالقِمَطر (وهو ما يُصان فيه الكتب) فختمها، ووجه بها إلى منزله، وقال لغلامة: الحقني بثقلي إلى بغداد، والله ما طلبنا هذا الأمر منهم، ولكن أكرهونا عليه، ولقد ضمنوا لنا الإعزاز فيه إذ تقلدناه لهم.
ومضى نحو قنطرة الكوفة إلى بغداد، وبلغ موسى بن عيسى الخبر فركب في موكبه فلحقه، وجعل يناشده الله ويقول: يا أبا عبد الله، تثبت، انظر إخوانك تحبسهم، دع أعواني.
قال: نعم، لأنهم مشوا لك في أمر لم يجب عليهم المشي فيه، ولست ببارح أو يردوا جميعا إلى الحبس، وإلا مضيت إلى أمير المؤمنين فاستعفيته مما قلدني.
وأمر بردهم جميعا إلى الحبس وهو والله واقف في مكانه حتى جاءه السجان، فقال: قد رجعوا إلى الحبس، فقال لأعوانه: خذوا بلجامه، قودوه بين يدي جميعا إلى مجلس الحكم، فمروا به بين يديه حتى أدخل المسجد، وجلس مجلس القضاء ث? قال: الجويرية المتظلمة مِنْ هذا؟ (يعني يسأل عنها أين هي)، فجاءت، فقال: هذا خصمك قد حضر وهو جالس معها بين يديه، فقال: أولئك يخرجون من الحبس قبل كل شيء، قال: أما الآن فنعم، أخرجوهم.
قال: ما تقول فيما تدعيه هذه؟ قال: صدقت.
قال: فرُدَّ جميع ما أخذ منها، وتبني حائطها في وقت واحد سريعا كما هدم.
قال: أفعل، قال: بَقِيَ لكِ شيء؟ قال: تقول المرأة بيت الفارسي ومتاعه، قال: يقول: موسى بن عيسى: ويرد ذلك، بَقِيَ لك شيء تدعينه؟ قالت: لا، وجزاك الله خيرا.
قال: قومي، وزبرها، ثم وثب من مجلسه فأخذ بيد موسى بن عيسى فأجلسه في مجلسه ثم قال: السلام عليك أيها الأمير، تأمر بشيء؟ قال: أي شيء آمر؟ وضحك"[1]، ففي هذه القصة استعدت المرأة القاضي على الأمير الذي غصبها حقها فلم يمنعها ضعفها الناشئ من كونها أنثى ولا قوة الرجل المستفادة من كونه أمير الناس أن تشتكي عند القاضي، فأرسل القاضي يستدعي الأمير للتحقيق معه ولم يمنعه كونه أميراً من أن يستدعيه لشكوى امرأة ثم إن الأمير حاول أن يلتف عل الذهاب للقاضي فأرسل له من يحاول ثنيه عن ذلك، لكن القاضي حبس كل من جاءه يتوسط في هذا الأمر إلى أن استجاب الأمير في نهاية الأمر وذهب لمجلس القضاء وحقق مع الأمير ولما ثبت الحق للمرأة أمر الأمير أن يوفي المرأة حقها كاملا غير منقوص، فلما انصاع الأمير للحق وأذعن هنا قام القاضي من مجلسه وأخذ بيد الأمير وأجلسه مكانه وسلم عليه باسم الإمارة وقال: السلام عليك أيها الأمير هل تأمر بشيء؟ لأن له عليه حق السمع والطاعة، فوازن القاضي بين الأمرين الحفاظ على حقوق الناس مع الحفاظ على حقوق الأمير ولم يجعل لأحد من الحقين أن يطغى على الآخر، ولما شعر أنه قد لا يستطيع القيام بذلك على الوجه الأكمل عزم على الذهاب بنفسه إلى أمير المؤمنين ليعلمه بالحاصل ويطلب إعفاءه من منصبه ما دام هناك من يعوقه عن القيام بحقوق منصبه، وهو ما يبين أن ما يهم العلماء لم يكن تولي المناصب وإنما القيام بحقوق وظائفهم، وهذا الذي ضمن لهم العزة والقدرة على القيام بمهامهم على الوجه الأكمل، فمتى تعود تلك الأيام.
[1] تاريخ بغداد 10/384 ورواه عنه ابن الجوزي في المنتظم 9/33-34
المصدر: محمد بن شاكر الشريف