دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، مرارة الحال وحلاوة المآل
إذا كان محمد بن عبد الوهاب من ناحية العقيدة ليس بمبتدع، فهو من ناحية السياسة مجدد مبدع؛ لقد استطاع أن يوقف حركة التاريخ، ويلوي عنق الأحداث التي كانت تدفع العالم الإسلامي دفعاً إلى التغريب (السعوديون والحل الإسلامي - جلال كشك).
إذا كان محمد بن عبد الوهاب من ناحية العقيدة ليس بمبتدع، فهو من ناحية السياسة مجدد مبدع؛ لقد استطاع أن يوقف حركة التاريخ، ويلوي عنق الأحداث التي كانت تدفع العالم الإسلامي دفعاً إلى التغريب (السعوديون والحل الإسلامي - جلال كشك).
قبل ثلاثة عقود فأكثر كانت الدراسات والبحوث والندوات عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ملء السمع والبصر، وكانت لوفرتها وكثرتها تبلغ حدّ التشابه والتكرار:
ما أرانا نقول إلا معاراً *** أو معاداً من لفظنا مكروراً
ومنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر تزايد المكر الكبّار تجاه هذه الدعوة، وتضاعف الكيد والنقمة لأصولها وقواعدها، ولحق فئام من المنتسبين للسنة الخذلان لهذه الدعوة؛ فآثروا الصمت، وتواروا خجلاً عن المجالدة والمجادلة، واستروح بعضهم تهذيب الدعوة وتطويعها بما لا يقلق غرباً، ولا يزعج شرقاً!
وغُيِّب أكثر تراث هذه الدعوة! وووري عن مدارسته وتدريسه في المعاهد والمساجد والمحاضن التربوية، ونبذوا الدرر السنية في الأجوبة النجدية بالغلو والإفراط، وتقاعس علماء وطلاب علم عن الذبّ عن هذا التراث النفيس؛ إما وهناً وهلعاً، وإما عجزاً وضعفاً.
وأضحت مؤلفات الدعوة الواضحة النقية وتاريخها المجيد، طلسماً مجهولاً، ولغزاً مغلقاً، لا يحلّه ولا يفقهه إلا ضلّال النصارى وأشباههم من المنتكسين والمتهوكين! بل صارت محاسن الدعوة محل طعن وانتقاد، فانتقصوها لأجل محاربتها الوثنيات، وإقامتها شعيرة الجهاد في سبيل الله.
إذا محاسني اللاتي ثُم أدلّ بها
كانت عيوبي فقل لي كيف أعتذر
بل حكموا على واقع قلب جزيرة العرب (نجد) بخلوّها من الشرك والانحرافات، لأجل تحجيم أثر الدعوة الوهابية وتقليص إنجازاتها!
وفي هذه السطور إشارة عابرة لواقع نجد قبيل الدعوة، وإلى فلاح الدعوة وسببه:
- كان الواقع النجدي حافلاً بركام هائل من الانحرافات الدينية، كما أثبته علماء مؤرخون وشعراء؛ كتعظيم الأضرحة، والتبرك بالأشجار، والافتتان بالطواغيت، والغلو في أدعياء الوَلاية كتاج وشمسان وأولاده، ويوسف وإدريس، وأبي حديدة (تاريخ ابن غنام ومؤلفات الشيخ محمد عبد الوهاب).
وقد وصف الشيخ الإمام هذا الواقع القائم في مواطن متعددة من رسائله، فقال: "ومعلوم أن أهل أرضنا وأرض الحجاز الذي ينكر البعث منهم أكثر ممن يقرّ به، وأن الذي يعرف الدين أقلّ ممن لا يعرفه" (مؤلفات الشيخ).
وحكى رحمه الله أن في بعض قبائل الأعراب أكثر من مائة ناقض من نواقض الإسلام (تاريخ ابن غنام)، وأنهم يفضلون حكم الطاغوت على حكم الله (مؤلفات الشيخ)، ويسبّون الشرع المنزل، وهذا معلوم حتى عند خصوم دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (تاريخ ابن غنام).
بل تحدّث الشيخ الإمام عن حيرته في هذا الواقع المريج قبل أن يمنّ الله عليه بالهداية، فقال:"وأن أخبركم عن نفسي، والله الذي لا إله إلا هو لقد طلبت العلم وأعتقد أن لي معرفة، وأنا ذلك الوقت لا أعرف معنى لا إله إلا الله، ولا أعرف دين الإسلام قبل هذا الخير الذي منّ الله به، فمن زعم من علماء العارض أنه عرف معنى لا إله إلا الله، أو عرف معنى الإسلام قبل هذا، فقد كذب وافترى، ولبّس على الناس" (مجموعة مؤلفات الشيخ).
ومما يجدر بيانه عن هذا الواقع المتردي لنجد، أن نشير إلى تأثير الآراء الكلامية، والأذواق الصوفية؛ فالناظر إلى آراء علماء نجد ومطاوعتهم قبيل الدعوة يلحظ النَفَس الكلامي في مقولاتهم وتقريراتهم، كالتجهيل في الصفات الإلهية، ومجاهرة بعضهم بالتمشعر، وإيجاب النظر، والاقتصار على تقرير توحيد الربوبية، وتجويز الذبح للجن إذا سمّى! (مبحث علم الكلام في مسائل الاعتقاد عند علماء نجد قبل الدعوة).
كما أن لنجد حظاً لا بأس به من شطحات الصوفية وأحوالهم، فهناك أحوال شيطانية تقارف في نجد! وهناك أشخاص يتّبعون ابن عربي وابن الفارض، وتداولت مصطلحات (السرّ والوَلاية والفناء)! والافتتان بأدعياء الوَلاية كتاج وشمسان وأضرابهم، والاحتفال بالمولد النبوي، واتخاذ الحُجُب كما هو مبسوط في موضعه (مبحث التصوف في مسائل الاعتقاد عند علماء نجد قبل الدعوة).
إن ذلك المسلك الكلامي والصوفي سبب ظاهر في موقف الخصومة لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وبيان ذلك أن دين الله تعالى قائم على أصلين كبيرين: ألا نعبد إلا الله وحده، وألا نعبده إلا بما شرعه المصطفى صلى الله عليه وسلم، فآراء الكلام أفسدت الأصل الأول، إذ جعلت الإلهية هي الخلق والقدرة على الاختراع، وأذواق الصوفية أفسدت الأصل الثاني، فجعلت التعبد وفق المواجيد والعادات، وهذه الدعوة الإصلاحية إنما جاءت بتحقيق هذين الأصلين الجليلين.
- شكوك المتكلمة وشحطات المتصوفة يستحيل أن تتفق مع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فكان ذلك المكر الكبّار الذي تكاد تزول منه الجبال، فعندما تطالع رسائل الشيخ ومخاطباته تلمس كثرة الخصوم وشراستهم، وشدة المعارضة للدعوة، وتنوع كيدها، وتلوّن الخصوم ومراوغتهم، كما وصفها الشيخ بقوله: "ولبّسوا على العوام أن هذا خلاف ما عليه أكثر الناس، وكبرت الفتنة، وأجلبوا علينا بخيل الشيطان ورَجَله.." (مجموعة مؤلفات الشيخ).
ويصوّر تلميذه ابن غنام هذا الخصومة الشرسة، فيقول: "فأخذوا في ردّه والإنكار عليه، وأتوا بأعظم الأسباب، وأشر الناس والعلماء إنكاراً عليه سليمان بن سحيم وأبوه محمد، فقد اهتم في ذلك وأنجد وجدّ في التحريش عليه، وأرسل بذلك إلى الأحساء والحرمين والبصرة، وأفتى علماء السوء بأن القائم بدعوة التوحيد خارجي، وصنفوا المصنفات في تضليله وتجهيله، وسطروا فيها الجزم بكفره" (تاريخ ابن غنام).
ومن ذلك أن أحمد بن علي البصري الشهير بالقباني، صنّف كتاباً ضخماً يزيد على مائتين ورقة، بناءً على رسالة تحريضية من سليمان بن سحيم مطوّع الرياض، وكان هذا العداء السافر منذ كانت الدعوة في بدايتها سنة 1157هـ (دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب)، ولهذا مصنف رواج عند خصوم الدعوة بنجد (مجموعة مؤلفات الشيخ).
وبالجملة، فلا تكاد تحصى المؤلفات التي سوّدها أصحابها في النيل من هذه الدعوة، لكنها اندرست وصارت أثراً بعد عين، فأما الزبد فيذهب جفاءً، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
- مع هذا العداء الراتب، والكيد المتناهي، والذي يؤزّه علماء ومطاوعة، ويحميه حكام وسلاطين؛ إلا أن الشيخ الإمام كان مستصحباً أن هذا العداء لا بد أن يصيب أتباع الرسل، فلم يبعث الله نبياً بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء، وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج (كشف الشبهات للشيخ محمد بن عبد الوهاب).
يقول رحمه الله: "والذي قلب الناس علينا الذي قلبهم على سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وقلبهم على الرسل من قبله، {كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ} [المؤمنون من الآية: 44]، ومثل ما قال ورقة للنبي صلى الله عليه وسلم: "والله ما جاء أحد بمثل ما جئتَ به إلا عودي" (مجموعة مؤلفات الشيخ). وهذه علامة الإرث الصحيح لسبيل المرسلين، فالعلماء ورثة الأنبياء، والعلماء والدعاة إذا أيقنوا أنهم امتداد لهذه القافلة المباركة، وأنه لا بد من أعداء وخصوم؛ فإن ذلك يزيدهم ثباتاً على الطريق، ويرسّخ فيهم إظهار الحق، والرحمة بالخلق.
لقد واجه الشيخ الإمام هذه المعارضات بالصبر واليقين، فدافع شبهات القوم بالحجة والبرهان، ومع أن الشيخ الإمام فيه بعض الحِدّة (مجموعة مؤلفات الشيخ) كما أخبر عن نفسه، إلا أنه كان ربانياً عالي الهمة، فطالما ترفق مع خصومه، وخاطبهم بالتي هي أحسن، فها هو يخاطب شيخه عبدالله بن محمد بن عبداللطيف أحد علماء الأحساء، قائلاً: "فإني أحبك، وقد دعوتُ لك في صلاتي، وما أحسنك لو تكون في آخر هذا الزمان فاروقاً لدين الله" (الدرر السنية). لكن هذا الشيخ المخاطب قد دوّن رسالة في الرد على الشيخ محمد بن عبد الوهاب، سمّاها: (سيف الجهاد لمدّعي الاجتهاد).
ويصف الشيخُ الإمامُ محمدَ بن فيروز بأنه أقربهم إلى الإسلام، وهو رجل من الحنابلة وينتحل كلام ابن تيمية وابن القيم (مجموعة مؤلفات الشيخ). لكن هذا الخصم ابن فيروز قد بلغت عداوته حدّاً لا يوصف، فألّف كتاباً في الرد على الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكاتب سلطان الدولة العثمانية يحرّضه على قتال (البغاة الخارجين) بنجد! على حد تعبيره، وله من الإسفاف وشناعة القذف ما لا يحسن تدوينه ها هنا! (دعاوى المناوئين للشيخ محمد بن عبد الوهاب). هذا الترفق والعدل كان من أسباب ظهور دعوة الشيخ، فإذا كان من أسباب ظهور الحق: ظهور المعارضين له، وعند وجود المرتدين يوجد المجيبون لله ورسوله، والمجاهدون في سبيل الله؛ فإن العدل مع المخالف من أسباب الغلبة والظهور، كما أن الظلم والعدوان مجلبة للخذلان.
قال ابن تيمية: "إن الإنسان إذا اتّبع العدل نُصر على خصمه، وإذا خرج عنه طمع فيه خصمه". ثم إن إخلاص الشيخ الإمام لله تعالى وحده في دعوته، وتخلّصه من حظوظ النفس، وتجرده لنصرة الدين، كان سبباً رئيساً في فلاح دعوته واستمرارها، فما كان لله فينفع ويدوم، وما لم يكن لله فإن يزول ويضمحل. تأمّل في قوله رحمه الله: "إني أذكر لمن خالفني أن الواجب على الناس اتباع ما وصّى به النبي صلى الله عليه وسلم أمته، وأقول لهم الكتب عندكم انظروا فيها، ولا تأخذ من كلامي شيئاً، لكن إذا عرفتم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في كتبكم فاتبعوه" (مجموعة مؤلفات الشيخ). انظر رعاك الله إلى مقالته: "بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه إن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلنها على الرأس والعين، ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقول إلا الحق" (مجموعة مؤلفات الشيخ).
وعقب جهاد طويل، ومجادلة باللسان، ومجادلة بالسنان؛ تحقق التمكين لهذه الدعوة، وأفنى الله خصوم الدعوة من علماء وأمراء، فلم تبقَ منهم عين تطرف، وصاروا نسياً منسياً. وتحققت الحياة الطيبة في جزيرة العرب، فعمّ الأمن والطمأنينة، وغلب الرخاء، وازدهر الرزق والاقتصاد، فامتنّ الله عليهم فأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، والنعيم المقيم والنظر إلى وجه الله الكريم خير وأبقى.
- التصنيف: