لا تكثروا لوم الأعداء... فتُخدر الأمة عن الداء!
أتألم كثيراً من كثرة اللوم منا على أعداء الأمة -سواءً الفاعلين أو المتآمرين أو الساكتين- عندما يأتي الحديث عن مآسينا والواقع المؤلم والعجز المفجع بدون أن نُركز بشكل كافٍ على أن أسَّ المشكلة هو في عجزنا نحن عن إنقاذهم، والذي حصل من ذنوبنا وتقصيرنا في حق الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وبعد:
لا تتركِ الداءَ يسري في مَرابعنا *** وتنعت الأعداءَ بالتقصيرِ والخللِ
إن أساس ذلنا وهواننا وعجزنا عن إنقاذ إخواننا المضطهدين في شتى بقاع الأرض ليس من أعدائنا بل هو من أنفسنا وممن ضيعوا الأمة عن التمسك الحق بالدين الذي هو سبيل العز والتمكين وتحقيق النصر الشامل لأمتنا؛ قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم» (أبو داود، وصححه الألباني).
وعندما تكون الأمة الإسلامية أمة الحق محققة لشرط التمكين فلن تعجز عن إنقاذ إخوانها وتأديب المعتدين، ولن تستطيع منعها من ذلك أي قوة أياً ما كانت، قال تعالى: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد: 7]، بل وقتها لن يتجرأ الأعداء على دمائنا وأعرضنا ومقدساتنا كما يتجرؤون الآن.
وأتألم كثيراً من كثرة اللوم منا على أعداء الأمة -سواءً الفاعلين أو المتآمرين أو الساكتين- عندما يأتي الحديث عن مآسينا والواقع المؤلم والعجز المفجع بدون أن نُركز بشكل كافٍ على أن أسَّ المشكلة هو في عجزنا نحن عن إنقاذهم، والذي حصل من ذنوبنا وتقصيرنا في حق الله، فكنا بذلك سبباً هاما في استمرار ذبحهم واستئساد أعداء الدين عليهم وعلى أمتنا، وكان من يضيعنا عن طريق الحق قائماً بخيانة عظمى لنا ولأمتنا، ودوره أخطر من دور أعداء الدين الواضح مكرهم وكيدهم وخطرهم.
إننا بمثل هذا الطرح قد نخدع أنفسنا وأمتنا وكأننا نتغاضى عن تقصيرنا وعن تقصير من أوصلونا لهذا الحال بإبعادهم مجتمعات المسلمين عن التمسك الحق بالدين وقيمه ومبادئه. ويكفي مثالاً صارخا لذلك ما يحدث في وسائل الإعلام والقنوات التي تجاهر العظيم سبحانه بالليل والنهار بالطامات مما لا يرضاه ومما يفسد ويضيع، ويجعل الأمة تعيش في لهو وانشغال بالدنيا، بل بانشغال فيما يحرم ولا يجوز ويؤخر عودة العز لأمة الإسلام.
والنهج الذي يربينا عليه ديننا هو أن نهتم بأخطائنا أكثر من اهتمامنا بأعدائنا وكيدهم ومكرهم؛ قال تعالى: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120]... نعم لا بد من فضح الأعداء ومؤامراتهم، ولكن لا نجعلها الأساس وننسى الداء الأهم من تقصيرٍ منا وممن ضيعوا ويضيعون الأمة عن الحق والهدى، والذين هم كما ذُكر أخطر علينا من أعدائنا، وإن كانوا هم بأفعالهم صنيعة أعداء الدين وإن تكلموا وخدعونا بأنهم منا وحريصون على الخير لأمتنا.
بل إننا عندما ننتهج التركيز على الأعداء فكأننا نحمي من ضيعوا الأمة من النقد، وكأني بالماكرين من أعداء الدين ممن يحركون أيدٍ خفية لتضييع المسلمين يقفون فرحين بهذا النهج الذي يؤدي بشكل غير مباشر إلى إبعاد الأمة عن مكمن الداء وحماية أيديهم الخفية من المسؤولية تجاه هذا الواقع المؤلم المشين الخطير الذي تعيشه أمتنا في عصرنا الحاضر من هوان وذل وعجز وخذلان بلغ حداً لا يكاد يوصف.
أيضاً إلى متى ونحن مع كل مأساة ومذابح نعيشها نقول لأفراد أمتنا فقط تصدقوا وادعوا لإخوانكم المذبحين والذين يبادون شر إبادة في شتى أرجاء الأرض بدون أن نحفزهم ونذكرهم بالواجب الأساس على كل فرد مسلم في إصلاح حال نفسه وأمته ليعود عز الأمة ومجدها فتُنقذ مباشرةً أبناءها المضطهدين. والتحرك بالصدقة والدعم والدعاء أمر مهم جداً بلا شك، ولكـن أن يكون هذا فقط هو جُلُّ تركيزنا وطرحنا على مدى عشرات السنين بدون أن نركز ونشير إلى الواجب الأساس وبدون تذكير المسلمين بحقيقة سبب مأساة الهوان والعجز الذي نعيشه يعتبر نقصاً يؤدي إلى أننا من ناحية ننقذ أمتنا ومن ناحية أخرى نطيل معاناتها إذ لم نعالج المرض الذي منه نتجت وتنتج كل الأعراض.
ومن الماضي وتاريخنا تُستلهم العبر؛ فإن النهج الذي سلكه المصلحون في منهجهم الإصلاحي في الفترة التي سبقت وكانت سبباً في ظهور صلاح الدين وجيله الذين تحقق النصر على أيديهم واسترجعوا وقتها عز الأمة وقدسها، كان نهجاً يقوم على نقد الذات أكثر من التركيز على نقد الأعداء أو التخوف والتخويف من قوتهم وعداوتهم؛ (انظر كتاب: هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس- للدكتور ماجد الكيلاني).
ولو انتقدنا أعداءنا مهما انتقدنا، ولو فضحنا شرهم مهما فضحنا بدون الإصلاح الذي يؤدي إلى النصر فإننا لا نكون حققنا الأولويات، بل من أسباب استمرار أعداء الدين في ضلالهم وجبروتهم وطغيانهم وشتى انحرافاتهم هو هذا الواقع المتناقض الذي أُبعِدت فيه أمتنا عن الحماس الكبير لدينها والتزامها الحق به ونشرها له في العالمين ليهتدي حتى من يريدون القتل والكيد بنا. فبعض من يذبحون أمتنا حالياً ربما كانوا من المسلمين لو كانت الأمة على ما ينبغي أن تكون عليه؛ أمةً قائدة هادية مصلحة للأمم والشعوب، بدلاً من أن تُجعل أمة لهوٍ وتُخدر بمعاصٍ ومنكرات تُلهيها عن الحماس لدينها والعمل له.
وأختم بهذه الأبيات لشاعر الأمة د. عبد الرحمن العشماوي من قصيدته الرائعة (عتابٌ إلى أمتي!) التي ركزَّ فيها ببلاغة عن الداء الذي أوصلنا لهذا الحال الذي لم يمر على أمتنا مثله على مدى تاريخها من ناحية درجة الذل واستمرار العجز، خاصةً أننا نرى الذبح والإبادة الشديدين جداً أمام أعيننا على مدى أعوام وأعوام:
يا أمة الإسلام، كنتِ عزيزة *** بالأمسِ، لم تقفي على الأعتابِ
ماذا جرى حتى غدوتِ ذليلةً *** مكسورة النظرات والأهدابِ
لا، لا تجيبي ما سألتُكِ طالبــاً *** منك الجوابَ، فقد عرفتُ جوابي
فرطتِ في الإِسلام، هذا كل ما *** في الأمر، لم تسترشدي بكتابِ
لم تجعلي للدين وزناً صادقـاً *** وغرقـتِ في رُتَبٍ وفي ألقابِ