أيتامٌ عظماء
الأمل هو تلك القوة التي تهمس لك من وسط الآلام أن عليك الاستمرار؛ وسوف تصل إن شاء الله، وكذلك مرَّ جميع عظماء التاريخ على لحظات صعبة ننتقي لك عزيزي القارئ منها صفحات من أيتام فقدوا الأب أو الأم أو كليهما، ولكنهم أعلنوا أنهم سيصنعون المستحيل، وسيصلون لأهداف حياتهم.
الأمل هو تلك القوة التي تهمس لك من وسط الآلام أن عليك الاستمرار؛ وسوف تصل إن شاء الله، وكذلك مرَّ جميع عظماء التاريخ على لحظات صعبة ننتقي لك عزيزي القارئ منها صفحات من أيتام فقدوا الأب أو الأم أو كليهما، ولكنهم أعلنوا أنهم سيصنعون المستحيل، وسيصلون لأهداف حياتهم.
واعظ كل عصر:
قال عنه الحافظ ابن الدبيثي: "كان أحسن الناس كلاماً، وأتمَّهم نظاماً، وأعذَبهم لساناً، وأجودَهم بياناً، وبورِك في عمره وعمله، فروى الكثير، وسمع الناس منه أكثر من أربعين سنة".
إنه جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد، المعروف بابن الجوزي، ذلك الشيخ العلّامة المفسِّر المؤرخ شيخ الإسلام عالِم العراق الذي وُلِدَ بدرب حبيب في بغداد، ولد عام 511هـ، وكان والده تاجر نُحاس، وعاش ذلك العظيم في كنف والده يحوطه برعايته، ويُنفق عليه من ماله الكثير إلى أن شاء الله تعالى أن يتوفى والده وله من العمر ثلاث سنين".
ولكن ذلك لم يؤثر في نشأته نشأة صالحة؛ بل كان باب خير فتحه الله له؛ "حيث أبدله الله عمَّته مربية مخلصة، تُعطيه كل عطفها وعنايتها، وتسهر على خدمته وتعليمه؛ فهي التي حملته إلى مسجد أبي الفضل بن ناصر فتلقى منه الرعاية التامة، والتربية الحسنة، حتى أسمعه الحديث".
بل على العكس؛ فقد جعلت عنده طموحاً عظيماً ربما لم يكن ليبلغه لو كان والده على قيد الحياة، أو سار على نهج أبيه في تجارة النُحاس، ذلك الطموح الذي يُعبِّر عنه بقوله: "ينبغي للعاقل أن ينتهي لغاية ما يمكنه، فلو كان يتصور للآدمي صعود السماوات لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض".
وهذا بالتحديد ما صعد إليه ذاك اليتيم العملاق الإمام ابن الجوزي رحمه الله فقد كتب بخطِّه كثيراً من كتبه التي قاربت المائتين، وقد "كان ذا حظ عظيم، وصيت بعيد في الوعظ، يحضر مجالسه الملوك والوزراء، وبعض الخلفاء والأئمة والكبراء، لا يكاد المجلس ينقص عن ألوف كثيرة حتى قيل في بعض مجالسه: إن حزر الجمع بمئة ألف".
وقال عن نفسه: "كتبتُ بإصبعي هاتين ألفي مجلدة، وتاب على يدي مائة ألف، وأسلم على يدي عشرة ألف يهودي ونصراني"، وله عشرات المؤلفات في شتى جوانب العلم فقد كتب في عِلم القراءات كتابه (المغني)، بينما سطَّر في أصول الفقه مؤلفه الشهير (منهاج الوصول إلى علم الأصول).
وراح قلمه يرشِف حبراً من عبير الصحابة والتابعين والصالحين ليُسطِّر به سيرهم في كتب عديدة، كـ كتاب (صفة الصفوة)، و(مناقب أحمد)، و(مناقب إبراهيم بن أدهم)، و(منهاج الإصابة في محبة الصحابة)، ولم يقتصر على ذلك فقط بل كان طبيب أبدان كما كان طبيب قلوب، فلقد ألف كتابه (المنافع في الطب) فكان بذلك طبيب أبدان، وأبدع وتميز في كتب الوعظ التي ترقع بها القلوب وتطيب، ومنها كتابه (المواعظ)، و(ذم الهوى).
ولعل من أشهر كتبه، والذي تجلى فيه عظيم همته هو كتاب (صيد الخاطر)؛ فقد كان في قصة تدوينه لفتة هامة حيث يقول ابن الجوزي متأسِّفاً: "وكم قد خطر لي شيء فأتشاغل عن إثباته فيذهب، فأتأسَّف عليه... فجعلتُ هذا الكتاب قيداً والله ولي النفع، إنه قريب مجيب"، فكان كلما خطر له خاطرة نفض غبار الكسل، وقام يسطرها.
لقد عاش ذلك اليتيم العملاق حياته لله تعالى، وأنشد حال احتضاره مخاطباً ربه قائلاً:
يا كثير العفو عمَّن *** كثر الذنب لديه
جاءك المُذِنب يرجو *** الصفح عن جرم يديه
أنا ضيف وجزاء *** الضيف إحسان إليه
صقر قريش عبد الرحمن الداخل:
صقر قريش: هكذا وصف أبو جعفر المنصور أحد خلفاء العباسيين هذا اليتيم العملاق، سليل الأسرة الأموية، فأمام ما بدى من عظمته لم يستطع الخليفة العباسي إلا أن يتناسى العداوة الطاحنة، والحروب المستعرة بين الأمويين والعباسيين؛ ليعلن أمام حاشيته أن صقر قريش ليس عباسيّاً بل أمويّاً، فمن يا ترى يكون هذا الصقر؟
إنه عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، ولد سنة 113هـ، وما هي إلا سنوات قلائل حتى توفي والده وهو أحد سادات بني أمية ليكفله جده الخليفة هشام بن عبد الملك.
وظل هذا اليتيم العملاق زمناً وهو يرفل في النعمة والترف إلى أن رفعت الدولة العباسية راياتها السود في خراسان، وبويع أبو العباس السفاح بالخلافة في الكوفة كأول خليفة لدولة بني العباس، وهزم الخليفة الأموي الأخير مروان بن محمد في معركة الزاب الأكبر عام 132هـ، وكان عمْر يَتِيمُنا العملاق وقتها 18 عاماً تقريباً.
حينها بدأ العباسيون في قتل من تبقى من أمراء بني أمية وقادتهم، ولكن يتيمنا العملاق كان من القلة التي استطاعت الهرب من بطش بني العباس، غير أنهم لحقوا به هو وأخيه وطاردوهما حتى صار جند العباسيين من خلفهما، وصار الفرات أمامها، فما كان لهما من بد سوى القفز في الفرات والسباحة. وظل يسبح هو وأخوه، ولكن الإعياء والتعب بدأ يدب في نفس أخيه، وصيحات الأمان من جند العباسيين قد أغرته؛ فعاد أخوه إليهم ليلقى حتفه على مرئى ومسمع من أخيه عبد الرحمن الذي عبَر إلى الضفة الأخرى، ليبدأ رحلة من الشتات والهرب بين المغرب وشمال إفريقيا، حتى وصل إلى الأندلس.
وفي ذلك الوقت؛ كانت الأندلس تعاني حالة من تمزق وتشتُّت مقيت بين حكامها من المسلمين من العرب المضرية واليمنية، فكاتب عبد الرحمن الأمويين في الأندلس، ودخلوا في طاعته، وقاتل والي الأندلس يوسف الفهري وانتصر عليه عام 138هـ -أي وعمره لم يجاوز 25 سنة-، ودخل قرطبة مُعلِناً قيام دولة الأمويين في الأندلس، وسُمِّيَ من يومها عبد الرحمن الداخل.
ولم تنجح محاولات الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور ولا الفهري، ولا حلفائهم من الصليبين من أمثال شارلمان الفرنسي؛ حتى أن أبا جعفر بدأ في استمالته، وأرسل إليه الرسل، وبلغ به الأمر أن يظهر إعجابه بعدوه ومنافسه في أكثر من موضع. وفي يوم من الأيام؛ وبينما كان جعفر المنصور بين حاشيته قال لهم: "أخبروني من صقر قريش من الملوك من هو؟ قالوا: ذاك أمير المؤمنين الذي راض الملوك، وسكن الزلازل، وأباد الأعداء، وحسم الأدواء، قال: ما قلتم شيئاً. قالوا: فمعاوية، قال: ولا هذا، قالوا: فعبد الملك بن مروان، قال: ما قلتم شيئاً، قالوا: يا أمير المؤمنين فمن هو؟ قال: صقر قريش عبد الرحمن بن معاوية الذي عبرَ البحر، وقطع القفر، ودخل بلداً أعجميّاً مفرداً فمصَّر الأمصار، وجنَّد الأجناد، ودوَّن الدواوين، وأقام ملكاً عظيماً بعد انقطاعه بحسن تدبيره، وشدة شكيمته".
يتيمٌ عبرَ الأنهار والبحار، وقطع الفيافي والقفار، وبنى في الأندلس القصور والديار، وفي سنة 172هـ وبعد حكم دام ثلاثاً وثلاثين سنة، وأربعة أشهر، وبعد خلافة دامت بعده القرون الطوال؛ توفي اليتيم الصقر عبد الرحمن بن معاوية فرحمه الله، وصدق قول أبي جعفر المنصور فيه: "إن ذلك الفتى لهو الفتى، كل الفتى لا يكذب مادحُه".
نيلسون مانديلا:
هو يتيم صاغ نجاحه في جملة لخَّص فيها تجربته حين قال: "العظمة في هذه الحياة ليست عدم التعثر ولكن في القيام بعد كل مرة تتعثر فيها".
وُلد هذا اليتيم العملاق في "أوماتا" بمقاطعة "ترانسكي" في جنوب أفريقيا عام 1918م، وكان أبوه زعيماً قبليّاً، وعندما بلغ السنة السابعة من عمره تُوفي والده لتبدأ رحلة ذلك الزعيم الأسود الشهير "نيلسون مانديلا"، هذا الاسم البراق في عالم الحرية والتضحية وحب الوطن.
وُلد ذلك الأسود العملاق في بلاد يسود فيها العنصرية ضد البشرة السمراء، وكونك أسوداً في هذه البلاد يعني أنك سوف تسكن في مناطق لا يسكن فيها سوى السود، وسوف تركب مواصلات لا يركبها سوى السود، وسوف تذهب إلى مدرسة لا يذهب إليها سوى السود، وإذا كبرت وأصبحت رجلاً سوف تقف في طابور الحصول على عمل لا يقف فيه أيضاً سوى السود.
حتى إذا تجوَّلت ليلاً أو نهاراً؛ فستجد من يوقفك ويأمرك بإخراج تصريح مرورك وإلا تعرَّضت للاعتقال، وأنك مواطن من الدرجة الثالثة أو الرابعة في هذه البلد التي تعيش فيها والتي هي بلدك أصلاً: إنها بلدك ولكنك لا تستطيع أن تتملك فيه، أو تدخل برلمانه، أو يكون لك دور في المشاركة في وزارته لأنك أسود.
وبدأ السير الفعلي في خطته من أجل القضاء على تلك العنصرية حينما هاجر إلى جوهانسبرج عاصمة جنوب أفريقيا، وهناك بدأ الخطوة الأولى وهي استكمال تعليمه الجامعي، وحتى يتمكن من ذلك فقد عمل في وظيفة كتابية في إحدى الشركات، وفي الوقت ذاته استكمل تعليمه الجامعي فحصل على شهادة الليسانس في القانون عام 1942م.
ثم انضم إلى المؤتمر الوطني الإفريقي وهو أقدم تجمع وطني أفريقي ينص دستوره على معارضة العنصرية، ثم بدأ الممارسة الفعلية للمعارضة ضد العنصرية، وكانت البداية الفعلية في مسيرة النضال في أغسطس عام 1943م حينما شارك لأول مرة في حياته في مسيرة ضمت عشرة آلاف أفريقي؛ احتجاجاً على زيادة سعر ركوب السيارات العامة المخصصة للأفريقيين، وبعد مقاطعة هذه السيارات لتسعة أيام متواصلة اضطُرت الشركة المالكة إلى خفض الأسعار؛ مما جعل مانديلا يتأثر تأثراً شديداً بهذه المسيرة.
ثم التحق بجامعة "ويتووتر سراند" للحصول على شهادة تؤهله للعمل في المحاماة، وفي هذه المرحلة أيضاً أصبح لمانديلا دور بارز في العمل السياسي، وصار له شأن كبير في المؤتمر الوطني الأفريقي حيث أصبح أحد أربعة نواب لرئيس الحزب، وبالإضافة لعمله السياسي كان يدافع عن قضايا الأفريقيين أمام محاكم البِيض.
وبدأت مرحلة مقاومة المحتل الإنجليزي عندما استولى البِيض على مدينة "صوفيا تاون" إحدى المدن المخصصة للسود طبقاً لقوانين الفصل العنصري، حتى تم القبض عليه في ديسمبر 1956م، ثم أُطلق سراحه نظراً لعدم توفر الأدلة على إدانته.
ثم خضع "مانديلا" لاتهامات عديدة، والتي انتهت إلى الحكم عليه عام 1964م بالسجن مدى الحياة هو وسبعة آخرين؛ ليبدأ مرحلة جديدة وهي مرحلة الصمود، وفي جزيرة "روبن" البعيدة أمضى "مانديلا" 18 سنة في تقطيع الأحجار، وفي عام 1982م تم نقله إلى سجن "بولز مور" في مدينة "كيب تاون"، وكانت الإغراءات قد بدأت تُمارِس دورها معه؛ للإفراج عنه مقابل إعلانه نبذ المقاومة، والدفاع عن حقوق البِيض، وبراءته من أعمال المؤتمر الوطني الأفريقي، وفي الوقت الذي انهار زملاءٌ له أمام هذه الإغراءات؛ رفض "مانديلا" التنازل عن مبادئه، وما أعلنه أمام المحكمة من استعداده للموت في سبيل تحقيق هدفه وهو ميلاد جنوب أفريقيا حرة خالية من نظام الفصل العنصري.
واحتاج الأمر إلى 28 عاماً أمضاها "مانديلا" وراء القضبان قبل أن يخرج ويرى نور الحياة، وفي عام 1990م تم الإفراج عنه، وكان التصور أنه سيخرج بقلب مليء بالكراهية والحقد، والتطلع للثأر، ولكن العالم فوجئ بوجهه الطيب وكلماته حيث كان قد دخل في مرحلته الأخيرة لتحقيق رؤيته ألا وهي جمع الشعب على التوحد.
فقد راهن كثير من البِيض على فشل السود الذين تعدَّدت أحزابهم في التوحُّد، وعلى أن خلافاتهم ورغباتهم في التزعم سوف تُمزِقهم، ولكنهم فوجئوا باتفاق 26 رئيس حزب في جنوب أفريقيا على إجراء الانتخابات يوم 27 أبريل 1994م، ولأول مرة في تاريخ جنوب أفريقيا يدخل رجل أسود في اللجنة الانتخابية ليُدلي برأيه، وكان الفائز كما كان متوقعاً هو "نلسون مانديلا" الذي أصبح رمزاً وأسطورة يعرفها الملايين في أنحاء الدنيا.
ختاماً:
هؤلاء عظماء لم يمنعهم اليتم من أن يصلوا إلى أعلى الدرجات، فماذا يؤخرك عزيزي القارئ؟
لا شيء سوى أن تبدأ معتمداً على الله، واثقاً فيما حباك، باذلاً جهدك ووسعك، وستصل إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
أهم المراجع:
1- (أيتامٌ غيَّروا مجرى التاريخ، عبد الله صالح الجمعة).
2- (ذيل طبقات الحنابلة: ابن رجب).
3- (صيد الخاطر: ابن الجوزي).
4- (سير أعلام النبلاء: الذهبي).
5- (تاريخ الإسلام: الذهبي).
6- (البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب: ابن عذاري).
7- (نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب: أحمد بن محمد المقري التلمساني).
مصطفى كريم
- التصنيف: