تعذيب المؤمنين
الخطبة الأولى:
الحمد لله الحليم الحكيم؛ بحلمه يُنظر الظالمين، وبحكمته يبتلي المؤمنين، وهو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وفعال لما يريد، نحمده في العافية والبلاء، والسراء والضراء، فهو المحمود في كل حال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
لن يحقق عبد الإيمان به حتى يوقن أنه لا مدبر للأمر إلا هو سبحانه، ولا مقدر للقدر سواه تبارك وتعالى، وأنه لا يختار للمؤمن إلا ما هو خير له، وأن إملاءه للظالمين ليس إلا استدراجا، وأن ابتلاءه للمؤمنين ليس إلا اصطفاء، وهو سبحانه ينزل المعونة على قدر المئونة، وينزل الصبر على قدر البلاء؛ رحمة بالمؤمنين، وعونا للمبتلَين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أيقن بوعد الله تعالى ونصره، وثبت في امتحانه وابتلائه، ورضي به وعنه سبحانه فحقق كمال الرضى، ونقل في سيرته أنه قال في محنته الشديدة: «إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي»، وقال: »لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك»، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وثقوا به سبحانه، واملئوا القلوب بمحبته وتعظيمه وخوفه ورجائه؛ فوالله الذي لا إله إلا هو إن ربكم أقرب إلى أحدكم من حبل الوريد، وهو سبحانه أرحم بكم من أنفسكم، فلا تظنوا به إلا خيرًا، فإنه سبحانه عند ظن عبده به {هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلَامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر:23].
أيها الناس: من سُنة الله تعالى في البشر أن التمكين لا يكون إلا بعد ابتلاء، وأنه كلما زاد البلاء فقوبل بالصبر والرضا واليقين اقترب النصر والتمكين {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ} [يوسف:110].
وقَالَ سَعْد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: «الشافعي رحمه الله تعالى أيما أفضل للرجل أن يُمكَّن أو يبتلى؟ فقال: "لا يُمكَّن حتى يبتلى". " رواه أحمد، وسُئل
فلما كانت هذه سُنة الله تعالى في عباده المؤمنين لازمهم البلاء منذ بدايات دعوة الرسل عليهم السلام ويستمر إلى آخر الزمان، ومن قرأ تاريخ الأمم وجد أن المؤمنين يبتلون في دينهم، ويساومون على تركه، فيثبت من يثبت، ويفتن من يفتن.
قال قوم نوح له {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء: 116]، ولولا أن الله تعالى أهلكهم لرجموه ومن معه من المؤمنين، وتآمر قوم الخليل عليه بقذفه في النار وهو حي {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ} [العنكبوت:24]، وهُدد لوط عليه السلام بالتهجير والتشريد، ولولا أن قومه أُهلكوا لفعلوا ما هددوا {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} [الشعراء: 167].
وعُذِّب المؤمنون من بني إسرائيل أشد العذاب على يد فرعون وجنده حتى بلغوا مبلغا قالوا فيه لموسى عليه السلام {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف:129]، وكانوا يكتمون إيمانهم من شدة تعذيب فرعون لهم، ولا يظهرون صلاتهم فقد أخبر الله تعالى أن رجلا من آل فرعون كان يكتم إيمانه، {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [يونس:87] فكانوا يستخفون بصلاتهم في بيوتهم من شدة البلاء والعذاب الذي يصبه فرعون وجنده عليهم.
وتفنن فرعون وزبانيته في عذابهم فحين بارز موسى السحرة بطلب من فرعون، وتبين لهم الحق فآمنوا، كان جواب فرعون لهم {آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71]، فثبتوا مصلوبين مقطعين حتى لقوا الله تعالى شهداء بررة، وكان فرعون أول من عذب بالصلب وتقطيع الأطراف.
وبُعث عيسى عليه السلام فآمنت به طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة، فالطائفة الكافرة عذبت الطائفة المؤمنة، وحاولوا قتل عيسى عليه السلام، فرفعه الله تعالى، فأخذوا شبيهه فصلبوه وقتلوه بعد أن عذبوه.
وقصَّ الله تعالى علينا خبر مؤمنين فتنوا في دينهم فأحرقوا وهم أحياء، والمحرقون لهم يتلذذون بحرقهم {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ . النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ . إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ . وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ . وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ . الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج: 4 - 9]
وأخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام أنهم حفروا حفرا في أفواه السكك، وأضرموا فيها النيران، وقذفوا المؤمنين فيها وهم أحياء، وأنهم شقوا بالمنشار رأس راهب وجليس للملك لما آمنوا فقسموا كل واحد منهما قسمين، وأخبر عليه الصلاة والسلام عن أنواع أخرى من تعذيب المؤمنين السابقين فقال: « » رواه البخاري.
والظاهر أن تعذيب المؤمنين وإيذاءهم على إيمانهم كان كثيرًا في الأمم السابقة بدلالة قول الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146]، فإن قوله تعالى «وَكَأَيِّنْ» كلمة بمعنى التكثير.
وأمة الإسلام هي أعلى الأمم وخيرها وأفضلها ولذا ختمت الرسالات بنبيها، وختمت الكتب بقرآنها، وكان دينها للناس عامة إلى قيام الساعة، وهي أمة عزيزة منصورة، تمن على الأمم الأخرى ولا منة لأمة عليها، ولا ينال أحد من دينها وإن نال من أفرادها لأن دينها محفوظ إلى ختام الدنيا ولما كانت أمة ممكنًا لها في غالب تاريخها، وكان دينها ظاهرًا، وتكون العاقبة لها بالتمكين لها في آخر الأمر فإنه لا بد من أن يقابل هذا التمكين موجات عنيفة من الابتلاء والشدة والتعذيب، والبأساء والضراء، وهذا ما وقع للنبي عليه الصلاة والسلام وللصحابة رضي الله عنهم؛ فإنه عليه الصلاة والسلام ضُرب وخُنق حتى كاد أن يموت، ووضع سلى الجزور على ظهره، ورجم بالحجارة حتى أدمي، وأخرج من مكة غير مرة، ووضع له السم في طعامه، وشج رأسه، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وأوذي في الله تعالى أذى شديدًا، وتآمر المشركون واليهود والمنافقون على قتله مرات عدة.
وأصحابه رضي الله عنهم أوذوا في الله تعالى، وعذبوا عذابًا شديدًا، وعذب المشركون المستضعفين من المؤمنين في مكة بالتجويع والتعطيش والحرق حتى كانوا يلبسونهم أدرع الحديد ويصهرونهم في الشمس، وكان بلال يبطح في رمضاء مكة الحارقة، ويوضع الحجر الضخم الساخن على صدره العاري، وكان خباب يعذب بأسياخ النار يكوى بها رأسه وجسده، وفاضت روح ياسر وسمية والدي عمار تحت التعذيب، وقُتل سبعون من أفاضل الصحابة يوم أحد ومثل بأجسادهم، وغدر بسبعين آخرين في بئر معونة، وظفر ملك الروم بعدد من الصحابة أسرى، فغلى ماء في قدر فقذف فيها بعضهم حتى الموت.
ولما ضعفت أمة الإسلام واجتاحها الصليبيون في أخريات القرن الخامس الهجري عذبوا أهلها عذابا أليما، وقطعوهم تقطيعا، وقتلوا من قتلوا، وأحرقوا من أحرقوا، وبقروا بطون الحوامل، وهشموا رؤوس الأطفال بدقها في العمد، وقذفوا أحياء من أعالي البناء، ولما اجتاح التتار بلاد المسلمين، واستحلوا بغداد في القرن السابع نكلوا بالمسلمين، وعذبوهم وقطعوهم.
ولما سقطت الأندلس بأيدي الصليبيين في أخريات القرن التاسع أنشئوا دواوين للتحقيق، تفننوا فيها في تعذيب المسلمين بما لم يسمع بعذاب مثله أبدًا، ولا زالت المتاحف الأوربية تحتفظ بجملة من أدوات التعذيب، وفي تواريخ ديوان التحقيق، ومحاكم التفتيش من أساليب تعذيب المسلمين ما لا يخطر على بال أحد.
وكل هذه الفتنة والتعذيب من أجل ماذا؟، من أجل أن يصدوا الناس عن دين الإسلام، وما زاد ذلك الإسلام إلا تمددًا وانتشارًا، ولا زاد المسلمين إلا صلابة وثباتًا، {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217].
بارك الله لي ولكم في القرآن.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين، أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
أيها المسلمون: بما أن العلوم والمعارف تراكمية، واللاحق يأخذ ما عند السابق ويضيف إليه جديدًا، وهكذا تتراكم المعرفة مع مرور الزمن؛ فإن أساليب التعذيب كذلك، فهي من المعارف التي تتراكم، وبما أن أمة الإسلام كانت آخر الأمم فإنها نالت جميع أساليب التعذيب ووسائله القديمة عند كل الأمم، مضافا إليها أساليب جديدة، حتى سُخِّر التقدم الطبي والهندسي في التعذيب.
لقد نقل إلينا عن الأمم السابقة من التعذيب أنواع: كالطرد والتهجير والصلب وتقطيع الأطراف والحرق أحياء، ونشر الأجساد بالمناشير، وتمزيقها بأمشاط الحديد، وكل هذا العذاب الأليم المفرق على أمم شتى قد اجتمع في أمة الإسلام، وزاد الأعداء عليه أضعافه من أساليب التعذيب ووسائله التي لا تخطر على قلب بشر.
ومن رأى بعض المقاطع والصور المنقولة لتعذيب المسلمين في بورما وفي إفريقيا الوسطى على أيدي النصارى والوثنيين، وصور ومقاطع التعذيب التي سربت من سجون الباطنيين في الشام والعراق، لا يملك إلا أن يستعيذ بالله تعالى من شر الإنسان الذي انقلب إلى شيطان، وأن يخاف من القيم الإنسانية المتوحشة، ومن إعلانات حقوق الإنسان ومواثيقها الدولية؛ لأنها كلما زادت زاد تعذيب المسلمين، آلاف الصور، وعشرات المقاطع التي تصيب الإنسان السوي بالغثيان فيتساءل هل من يقومون بذلك بشر أم ماذا؟! وما هذه الأحقاد الدفينة على المسلمين؟! ولماذا العالم الحر الذي أصم الآذان بحقوق الإنسان يشارك بطريقة أو أخرى في هذا التعذيب.
إنها مقاطع وصور تدمي قلوب المؤمنين على ما أصاب إخوانهم من أنواع العذاب الأليم المهين، وما وقع عليهم من الفتنة في الدين، لم تصب بمثله أمة من الأمم السابقة بهذه الكثافة والوحشية.
ولولا أن المؤمنين يعلمون أنها من قدر الله تعالى على هذه الأمة المباركة، وأن الابتلاء سلم التمكين لانفطرت قلوبهم أسى على ما يحل بإخوانهم، ومما يهونها أنها في ذات الله تعالى، وابتغاء مرضاته، فما فتنوا هذه الفتنة العظيمة، ولا أحاط بهم هذا البلاء الكبير إلا لتمسكهم بإيمانهم والله تعالى لا يضيع أجر المحسنين، فمن قضوا في هذا العذاب فهم مأجورون إن شاء الله تعالى على ما أصابهم في دينهم، وارتاحوا من نصب الدنيا وقسوة الإنسانية ووحشيتها، ومن تلذذوا بعذابهم فهم معذبون لا محالة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: « » رواه مسلم.
وهي وإن كانت صورًا مؤلمة فهي من وجه آخر مشرقة تدل على الثبات على الحق مهما كلف الأمر، وكيف تهزم أمة يصب هذا العذاب على أفرادها فما يردهم ذلك عن دينهم؟! وإنها لتدل على قوة الإسلام وتمكنه حتى بلغ الحنق والحقد بأعدائه هذا المبلغ من التوحش والهمجية.
فلنتعلم الثبات على الحق من صور إخواننا المعذبين، ولنكثر الدعاء لإخواننا المستضعفين، ولنسل الله تعالى العافية من البلاء، والثبات على الحق إلى الممات فإن القلوب بيد الله تعالى يقلبها كيف يشاء.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
وصلوا وسلموا.
- التصنيف: