احذروا ضياع الأمانة (خطبة مقترحة)

منذ 2014-03-12

التنبيه على خطورة تولية غير الأمناء والفاسدين ودعاة التحرر من الدين أمورَ المسلمين.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالغرض من الخطبة:
التنبيه على خطورة تولية غير الأمناء والفاسدين ودعاة التحرر من الدين أمورَ المسلمين.

المقدمة:
التمهيد لموضوع الخطبة من خلال حديث ‏أَبِي هُرَيْرَةَ‏ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ ‏قَالَ: ‏بَيْنَمَا النَّبِيُّ‏ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏‏فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ‏ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏يُحَدِّثُ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: «أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنْ السَّاعَةِ؟» قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ‏: «فَإِذَا ضُيِّعَتْ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ». قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: «إِذَا‏ ‏وُسِّدَ ‏‏الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ» (رواه البخاري).

معني الأمانة (1):
بيان أن المراد من الأمانة ما هو أوسع من أمانات الأموال، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} [الأحزاب:72].

قال القرطبي في التفسير: "الأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال، وهو قول الجمهور".

وقال الكفوي: "الأمانة هي كل ما افترض الله على العباد، فهو أمانة: كالصلاة، والزكاة، والصيام، وأداء الدين، وأوكدها: الودائع" (الكليات: [176]).

الأمانة من أبرز سمات الأنبياء والصالحين:
حرص الأنبياء على إبرازها: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء من الآية:107]، قال تعالى: {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الدخان:18].

محمد صلى الله عليه وسلم صاحب الحظ الأوفى من الأمانة: سمَّاه قومه: "الأمين" قبل وبعد البعثة.

إبقاؤه صلى الله عليه وسلم على عليً بن أبي طالب رضي الله عنه بعد هجرته؛ ليرد الأمانات التي كانت عنده إلى أهلها.

وكذا سيد الملائكة جبريل، قال تعالى : {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء:192-194].

وهي من صفات الصالحين، قال عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1]، إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:8].

وجوب تأدية الأمانة وحرمة الخيانة:
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء من الآية:58].

سبب النزول هو: "تولية الأمر لمن هو أصلح له، لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة وتسلم مفاتيح الكعبة من بني شيبة؛ طلبها منه العباس بن عبد المطلب؛ ليجمع له سقاية الحاج وسدنة البيت، فأنزل الله هذه الآية فدفع مفاتيح الكعبة إلى بني شيبة".

تولية غير الأمناء خيانة للأمانة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].

وعن عمر بن الخطاب قال: "ومن ولَّى رجلاً على عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه؛ فقد خان الله ورسوله والمؤمنين".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره؛ لأجل قرابة بينهما أو... لرشوة أو لضغن في قلبه على الأحق أو عداوة بينهما؛ فقد خان الله ورسوله والمؤمنين" (السياسة الشرعية).

تولية غير الأمناء من شهادة الزور: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أََلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟». قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ: «أََلا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ». قَالَ: فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ: لا يَسْكُت (متفق عليه).

شهادة الزور ستكتب عليك في حياتك: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].

شهادة الزور ستحمل آثارها في الدنيا كلما أفسد غير الأمناء: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» (رواه مسلم).

شهادة الزور تحمل آثارها بعد موتك: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِين} [يس:12].

من نولي علينا؟!

خطورة الولاية والإمارة: قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهَا أَمَانَةُ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيها» (رواه مسلم).

الولاية لها ركنان: القوة والأمانة، قال تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِين} [القصص من الآية:66]، وقال صاحب مصر ليوسف عليه السلام: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف من الآية:54].

المقصود بالقوة: القوة في كل ولاية بحسبها، فالقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى أهل العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام.

المقصود بالأمانة: خشية الله وترك خشية الناس، وعدم بيع الدين بالدنيا، قال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً} [المائدة من الآية:44].

القوة والأمانة في الناس:
اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل؛ لذا كان عمر يقول: "اللهم أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة".

الواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها (2):
كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل خالد بن الوليد على الحرب منذ أسلم، وقال: «خالِدُ بنُ الوَلِيدِ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ الله، سَلَّهُ الله على المُشْرِكِينَ» (رواه أحمد، والترمذي وابن عساكر واللفظ له، وصححه الألباني)، مع أنه أحيانًا قد كان يعمل ما ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو ذر أصلح منه في الأمانة والصدق، ومع هذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَأَمََّرنَّ عَلَى اثْنَيْنِِِ، وَلاَ تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتيمٍ» (رواه مسلم).

وأمَّر النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه في غزوة "ذات السلاسل" استعطافًا لأقاربه الذين بعثه إليهم، وفي الجيش من هو أفضل منه.

وكان أبو بكر يستعمل خالد بن الوليد رضي الله عنه على الجيش، وكان عمر رضي الله عنه يؤثر عزل خالد واستنابة أبي عبيدة بن الجراح؛ لأن خالدًا كان شديدًا كعمر بن الخطاب، وأبو عبيدة كان لينًا كأبي بكر رضي الله عنهم، وكان الأصلح لكل منهما أن يولي من ولاه؛ ليكون أمره معتدلاً.

في الختام:
احذروا تولية الرويبضة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ». قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: «الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ» (رواه أحمد وابن ماجة، وصححه الألباني).

تمنُّوا الأمين: فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "إنما بعثتُ عُمالي عليكم؛ ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم ويقسموا بينكم فيئكم". وكان يقول: "إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حافظ عليها وحفظها؛ حفظ دينه، ومن ضيعها؛ كان لما سواها من عمله أشد إضاعة".

وقال رجل لعمر رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين لو وسعت على نفسك في النفقة من مال الله تعالى، فقال عمر: "أتدري ما مثلي ومثل هؤلاء -يعني الأمة-؟ كمثل قوم كانوا في سفر فجمعوا منهم مالاً وسلموه إلى واحد ينفقه عليهم، فهل يحل لذلك الرجل أن يستأثر عنهم من أموالهم؟!".

اسألوا الله أن نكون ممن يصدق فيه قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُور} [الحج:41].

فاللهم وَلِّ علينا خيارنا ولا تول علينا شرارنا، وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.

والحمد لله ربّ العالمين.

ــــــــــــــــ

المراجع:

(1) يراد من هذا العنصر إبراز معنى: أن الذين ينادون بالتحرر من الدين وإبعاده عن الحياة الدنيا ليسوا أهلاً لتحمل الأمانة.

(2) معناه: إذا تعيّن رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة؛ قُدِم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضررًا فيها.
 

 

سعيد محمود

المصدر: مجلة البيان
  • 5
  • 0
  • 58,588

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً