غزو المغول سمرقند
أحداث سنة 617هـ
كانت هذه السنة من أبشع السنوات التي مرَّت على المسلمين منذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى هذه اللحظة، لقد علا فيها نجم التتار، واجتاحوا البلاد الإسلامية اجتياحًا لم يُسبَق، وأحدثوا فيها من المجازر والفظائع والمنكرات ما لم يُسمع به، وما لا يُتخيل أصلًا.. و{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة من الآية:156]!
وأرى أنه من المناسب أن نُقدِّم لهذه الأحداث بكلام المؤرخ الإسلامي العلامة "ابن الأثير الجزري" رحمه الله تعالى في كتابه القيم الكامل في التاريخ وكلامه في غاية الأهمية، ويُعتبَر به جدًا في هذا المجال أكثر من كلام غيره؛ لأنه كان معاصرًا لكل هذه الأحداث، وليس من رأى كمن سمع.
اسمعوا ماذا يقول ابن الأثير رحمه الله وهو يُقدِّم لشرحه لقصة التتار في بلاد المسلمين:
"لقد بقيت عدة سنين مُعرِضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدِّم إليه رجلًا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟
ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟!
فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا! إلا أنه حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقِّف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعًا.
فنقول:
هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمّت الخلائق، وخصّت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله عز وجل آدم إلى الآن لم يُبتلوا بمثلها لكان صادقًا؛ فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها، ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله "بختنصر" ببني إسرائيل من القتل، وتخريب البيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس؟! وما بنو إسرائيل إلى من قتلوا؟!
فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجال، فإنه يبقي على من اتبعه ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فـ{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح".
كانت هذه مقدمة كتبها ابن الأثير رحمه الله لكلام طويل يفيض ألمًا وحزنًا وهمًا وغمًا.
لقد كانت كارثة على العالم الإسلامي، كارثة بكل المقاييس، كارثة بمقاييس الماضي والحاضر، وكارثة أيضًا بمقاييس المستقبل، فإن هذه المصيبة فعلًا تتضاءل إلى جوارها كثير من مصائب المسلمين في كل العصور.
ماذا حدث في سنة 617 هجرية؟
غزو سمرقند
فبعد أن دمَّر التتار مدينة بخارى العظيمة، وأهلكوا أهلها، وحرّقوا ديارها ومساجدها ومدارسها، انتقلوا إلى المدينة المجاورة "سمرقند" -وهي أيضًا في دولة أوزبكستان الحالية-، واصطحبوا في طريقهم مجموعة كبيرة من أسارى المسلمين من مدينة بخارى، وكما يقول ابن الأثير: "فساروا بهم على أقبح صورة، فكل من أعيا وعجز عن المشي قُتِل".. فضلًا انظر هنا
أما لماذا كانوا يصطحبون الأسارى معهم؟ فلأسباب كثيرة:
أولًا: كانوا يعطون كل عشرة من الأسارى عَلمًا من أعلام التتار يرفعونه، فإذا رآهم أحد من بعيد ظن أنهم من التتار، وبذلك تكثر الأعداد في أعين أعدائهم بشكلٍ رهيب، فلا يتخيلون أنهم يحاربونهم، وتبدأ الهزيمة النفسية تدب في قلوب من يواجهونهم.
ثانيًا: كانوا يُجبِرون الأسارى على أن يقاتلوا معهم ضد أعدائهم، ومن رفض القتال أو لم يُظهِر فيه قوة قتلوه.
ثالثًا: كانوا يتترسون بهم عند لقاء المسلمين، فيضعونهم في أول الصفوف كالدروع لهم، ويختبئون خلفهم، ويُطلِقون من خلفهم السهام والرماح، وهم يحتمون بهم.
رابعًا: كانوا يقتلونهم على أبواب المدن لبث الرعب في قلوب أعدائهم، وإعلامهم أن هذا هو المصير الذي ينتظرهم إذا قاوموا التتار.
خامسًا: كانوا يبادلون بهم الأسارى في حال أسر رجال من التتار في القتال، وهذا قليل لقلة الهزائم في جيش التتار.
تدمير التتار مدينة سمرقند
كانت "سمرقند" من حواضر الإسلام العظيمة، ومن أغنى مدن المسلمين في ذلك الوقت، ولها قلاع حصينة، وأسوار عالية، ولقيمتها الاستراتيجية والاقتصادية فقد ترك فيها "محمد بن خوارزم شاه" زعيم الدولة الخوارزمية خمسين ألف جندي خوارزمي لحمايتها، هذا فوق أهلها، وكانوا أعدادًا ضخمة تُقدَّر بمئات الآلاف، أما "محمد بن خوارزم شاه" نفسه فقد استقر في عاصمة بلاده مدينة "أورجندة".
وصل جنكيزخان إلى مدينة "سمرقند" وحاصرها من كل الاتجاهات، وكان من المفروض أن يخرج له الجيش الخوارزمي النظامي، ولكن لشدة الأسف؛ لقد دب الرعب في قلوبهم، وتعلقوا بالحياة تعلقًا مخزيًا، فأبوا أن يخرجوا للدفاع عن المدينة المسلمة!
فاجتمع أهل البلد وتباحثوا في أمرهم بعد أن فشلوا في إقناع الجيش المتخاذل أن يخرج للدفاع عنهم، وقرَّر البعض من الذين في قلوبهم حمية من عامة الناس أن يخرجوا لحرب التتار، وبالفعل خرج سبعون ألفًا من شجعان البلد، ومن أهل الجَلد، ومن أهل العلم، خرجوا جميعًا على أرجلهم دون خيول ولا دواب، ولم يكن لهم من الدراية العسكرية حظ يمكنهم من القتال، ولكنهم فعلوا ما كان يجب أن يفعله الجيش المتهاون الذي لم تستيقظ نخوته بعد.
وعندما رأى التتار أهل "سمرقند" يخرجون لهم قرَّروا القيام بخدعة خطيرة، وهي الانسحاب المتدرِّج من حول أسوار المدينة، في محاولة لسحب المجاهدين المسلمين بعيدًا عن مدينتهم، وهكذا بدأ التتار يتراجعون بعيدًا عن "سمرقند" وقد نصبوا الكمائن خلفهم، ونجحت خطة التتار، وبدأ المسلمون المفتقدون لحكمة القتال يطمعون فيهم ويتقدَّمون خلفهم؛ حتى إذا ابتعد رجال المسلمين عن المدينة بصورةٍ كبيرة أحاط جيش التتار بالمسلمين تمامًا، وبدأت عملية تصفية بشعة لأفضل رجال "سمرقند".
كم من المسلمين قُتِل في هذا اللقاء غير المتكافئ؟!
لقد قُتِلوا جميعًا!
لقد استشهدوا عن آخرهم!
فقد المسلمون في "سمرقند" سبعين ألفًا من رجالهم دفعة واحدة، -أتذكرون كيف كانت مأساة المسلمين يوم فقدوا سبعين رجلًا فقط في غزوة أحد؟!- والحق أن هذه لم تكن مفاجأة، بل كان أمرًا متوقعًا؛ لقد دفع المسلمون ثمن عدم استعدادهم للقتال، وعدم اهتمامهم بالتربية العسكرية لأبنائهم، وعدم الاكتراث بالقوى الهائلة التي تحيط بدولتهم.
وعاد التتار من جديد لحصار "سمرقند".
وأخذ الجيش الخوارزمي النظامي قرارًا مهينًا!
لقد قرَّروا أن يطلبوا الأمان من التتار على أن يفتحوا أبواب البلدة لهم؛ وذلك مع أنهم يعلمون أن التتار لا يحترمون العهود، ولا يرتبطون باتفاقيات، وما أحداث بخارى منهم ببعيد؛ ولكن تمسكهم بالحياة إلى آخر درجة جعلهم يتعلقون بأهداب أمل مستحيل، وقال لهم عامة الناس: إن تاريخ التتار معهم واضح،ولكنهم أصرُّوا على التسليم، فهم لا يتخيلون مواجهة مع التتار، وبالطبع وافق التتار على إعطاء الأمان الوهمي للمدينة، وفتح الجيش أبواب المدينة بالفعل، ولم يقدر عليهم عامة الناس، فقد كان الجيش الخوارزمي كالأسد على شعبه، وكالنعامة أمام جيوش الأعداء!
وفتح الجنود الأبواب للتتار وخرجوا لهم مستسلمين، فقال لهم التتار: ادفعوا إلينا سلاحكم وأموالكم ودوابكم، ونحن نسيّركم إلى مأمنكم. ففعلوا ذلك في خنوع، ولما أخذ التتار أسلحتهم ودوابهم فعلوا ما كان متوقعًا منهم، لقد وضعوا السيف في الجنود الخوارزمية فقتلوهم عن آخرهم! ودفع الجند جزاء ذلتهم... ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم دخل التتار مدينة "سمرقند" العريقة، ففعلوا بها مثلما فعلوا سابقًا في "بخارى"، فقتلوا أعدادًا لا تحصى من الرجال والنساء والأطفال، ونهبوا كل ثروات البلد، وانتهكوا حرمات النساء، وعذبَّوا الناس بأنواع العذاب البشعة بحثًا عن أموالهم، وسبوا أعدادًا هائلة من النساء والأطفال، ومن لم يصلح للسبي لكِبر سِنه، أو لضعف جسده قتلوه، وأحرقوا الجامع الكبير، وتركوا المدينة خرابًا!
وليت شعري!
كيف سمع المسلمون في أطراف الأرض آنذاك بهذه المجازر ولم يتحرَّكوا؟!
كيف وصل إليهم انتهاك كل حرمة للمسلمين، ولم يتجمعوا لقتال التتار؟!
كيف علِموا بضياع الدين، وضياع النفس، وضياع العِرض، وضياع المال، ثم ما زالوا متفرِّقين؟!
لقد كان كل حاكم من حكام المسلمين يحكم قطرًا صغيرًا، ويرفع عليه علمًا، ويعتقد أنه في أمانٍ ما دامت الحروب لا تدور في قطره المحدود! لقد كانوا يخدعون أنفسهم بالأمان الوهمي حتى لو كانت الحرب على بعد أميال منهم! ولا تندهش مما تقرأ الآن...
وخبِّرني بالله عليك: كم جيشًا مسلمًا تحرَّك لنجدة المسلمين في الفلوجة أو في فلسطين؟!
لم يُفكِّر حاكم من حكام المسلمين آنذاك أن الدائرة حتمًا ستدور عليه، وأن ما حدث في بخارى وسمرقند ما هو إلا مقدِّمة لأحداثٍ داميةٍ أليمةٍ سيعاني منها كل المسلمين، ولن ينجو منها قريب ولا بعيد...
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
- التصنيف:
- المصدر: