ينابيع الرجاء - النبع الرابع: «لأنصرنك ولو بعد حين»
حُكِي أن الأمير نوح بن أسد لما وضع الخراج على أهل سمرقند، بعث بريدًا إلى أميرها، فأحضر الأئمة والمشايخ وأعيان البلد، وقرأ عليهم الكتاب، فقال الفقيه أبو منصور الماتريدي للبريد: قد أدَّيتَ رسالة الأمير، فاردُد إليه الجواب، وقل له: زِدْنا ظلمًا حتى نزيد في دعاء الليل! ثم تفرقوا، فلم تذهب إلا أيام حتى وجدوه قتيلًا.
وهي وصية النبي صلى الله عليه وسلم: «» [1].
والمعنى: لا أُضيِّع حقَّك ولا أردُّ دعاءك، ولو طال الزمن لأني حليمٌ لا أُعاجِل بالعقوبة، لعلَّ الظلمة يَرْجعُون عن ظُلمهم فيردون المظالم إلى المظلومين، وفيه دلالة إلى أن الله يُمْهِلُ ولا يُهمِل.
ولصدق دعوة المظلوم إخلاص صاحبها تصعد في سرعة البرق إلى السماء، ولقوتها ورفعة مكانتها بين الأدعية لا تواجه في طريقها أي حُجَّاب أو حرس؛ ولذا حذَّر نبينا في وضوح: «»[2].
لذا صدق من أنذرك:
خَفْ دعوةَ المظلوم فهْي سريعةٌ *** طلعَتْ فجاءتْ بالعذابِ النازلِ
وليست إجابة دعوة المظلوم متعلِّقة بصلاحه أو فساده، وقربه من الله أو ابتعاده، والسبب واضح جليٌّ في قول نبيك: «» [3].
بل ولا حتى ديانة الداعي تؤثِّر في إجابته! وفي هذا غاية التخويف من عاقبة الظلم مهما كان قدر من وقع عليه، ففي الحديث: «»[4].
وتكرار لفظ « » فيه إشارة إلى ضرورة الهرب من هذه الدعوة وكأنها شبحٌ يطارد الظالم ولعنة تُمسك بخناقه!
ولا تُتَّقى دعوة المظلوم إلا بالتوقف عن الظلم والتحلل من المظلوم.
حُكِي أن الأمير نوح بن أسد لما وضع الخراج على أهل سمرقند، بعث بريدًا إلى أميرها، فأحضر الأئمة والمشايخ وأعيان البلد، وقرأ عليهم الكتاب، فقال الفقيه أبو منصور الماتريدي للبريد: قد أدَّيتَ رسالة الأمير، فاردُد إليه الجواب، وقل له: زِدْنا ظلمًا حتى نزيد في دعاء الليل!
ثم تفرقوا، فلم تذهب إلا أيام حتى وجدوه قتيلًا وفي بطنه زجُّ رمح مكتوب عليه:
بغَى والبغي سهامٌ تنتظر ... أنفذ في الأحشاء من وخز الإبرْ
سهام أيدي القانتاتِ في السَّحر ... يرمين عن قوسٍ لها الليل وَتَرْ
ولهذا لم يحرس الملوك أملاكهم بمثل إقامة العدل وصيانة الحقوق، وهو ما غفل عنه أكثر الولاة والأمراء اليوم فزال ملكهم واهتزت عروشهم، ولذا لما بنى ابن مروان سور آمد قال لأبي يوسف القزويني الفقيه الحنفي، وقد أراه إياه وعجَّبه من حصانته وإحكامه: كيف تراه؟
فقال له العالم الرباني: "يحفظك بالليل، ويردّ عنك السبل، ولا يحجب عنك دعوة المظلوم!"[5].
وذلك أنهم أجمعوا على أنَّ المظلوم موقوف على نصرة الله له مصداقا لقول الله تعالى: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ}.
ولذا قال معاوية بن أبي سفيان مستشعرا قوة المظلوم لوقوف الله إلى جواره: "إني لاستحي أن أظلم من لا أجد له ناصرا عليَّ إلا الله"[6].
وبكى علي بن الفضل يوما فقيل له: ما يبكيك؟ قال: "أبكي على من ظلمني إذا وقف غدا بين يدي الله تعالى ولم تكن له حُجَّة"[7].
ولذا جاء في المثل: أقرب الأشياء صرعة الظلوم، وأنفذ السهام دعوة المظلوم، ومن طال عدوانه زال سلطانه، ومن كثر ظلمه واعتداؤه قرب هلاكه وفناؤه.
نعوذ بالله من دعوة مظلوم!
واسمع هذه القصة تنبيك عن نفاذ سهم المظلوم في قلب الظالم ولو تأخَّر: قال صاحب كتاب (روضة الأزهار، وبهجة النفوس ونزهة الأبصار): ولما مرَّ أمر المنصور بن أبي عامر بسجن المصحفي بالمُطبق (المُطبَق بضم الميم هو السجن لأنه أُطبقَ على من فيه) في الزهراء ودَّع أهله وداع الفُرقة، وقال لهم: لستم ترونني بعدها حيا! فقد أتى وقت إجابة الدعوة، وما كنت أرتقبه منذ أربعين سنة! وذلك أنّي أشركت (شاركت) في سجن رجل في عهد الناصر، وما أطلقتُه إلا برؤيا رأيتها بأن قيل لي: أطلق فلانا فقد أجيبت فيك دعوته، فأطلقته وأحضرته وسألته عن دعوته عليَّ، فقال: دعوت على من شارك في أمري أن يميته الله في أضيق السجون، فقلت: إنها قد أجيبت، فإني كنت ممن شارك في أمره، وندمت حين لا ينفع الندم، فيروى أنه كتب للمنصور بن أبي عامر بهذه الأبيات:
هبني أسأت فأين العفو والكرم *** إذ قادني نحوك الإذعان والنَّدم
يا خير من مدَّت الأيدي إليه أما *** ترثي لشيخ نعاه عندك القلم
بالغتَ في السُّخط فاصفح صفح مقتدر *** إنَّ الملوك إذا ما اسْتُرحِموا رَحِموا
فأجابه المنصور بأبيات لعبد الملك الجزيري:
يا جاهلاً بعدما زلَّت بك القدم *** تبغي التكرُّم لمّا فاتك الكرم
ندمت إذا لم تعد منّي بطائلةٍ *** وقلّما ينفع الإذعان والنَّدم
نفسي إذا جمحت ليست براجعةٍ *** ولو تشفّع فيك العُرْب والعجم
فبقي في المطبق حتى مات، نعوذ بالله تعالى من دعوة المظلوم[8].
ولهذا صار شعار شريح القاضي يحمل في طياته وعد المظلوم ووعيد الظالم، فقد أقام شريح قاضيا ما زاد عن سبعين سنة، وكان إذا جلس للقضاء يلهج بهؤلاء الكلمات التي هي سنن لا تتخلف، وقوانين ربانية لازمة: إن الظالم ينتظر العقاب، وإن المظلوم ينتظر النصر[9].
- أصابع الضعفاء ومجانيق الضعفاء!
ولذا حذَّر الصالحون من أصابع الأيتام؛ يقصدون بها رفع إيديهم بالدُّعاء على الظَّالم، وحذَّروا كذلك من مجانيق الضُّعفاء أي دعواتهم، وقوة هذه الأسلحة في خفائها، حيث لا يراها إلا أصحاب البصائر والتجارب، فالظلم هو الذنب الذي لا يغفره الله لأنه تعلَّق بحقوق العباد إلا أن يعفوا ويغفروا، ولهذا لما حجَّ أبو مسلم الخراساني قام بعرفات يدعو ويقول: اللهم إني تائب إليك مما لا أظنك تغفره لي، فقيل له: أيعظم على الله غفران ذنب؟ فقال: إني نسجت ثوب ظلم لا يبلى ما دامت الدولة لبني العباس، فكم صارخة لعنتني عند تفاقم الظلم! فكيف يغفر لمن هذا الخلق خصماؤه؟![10].
وهذا من عدل الله ورحمته، ففي قانون الله: هيهات أن ينجو ظالم بظلمه، ويفلت مجرمٌ من عقوبته، واسمع البارودي يعرِّض بالحاكم المستبد ويتحدّى بطشه وغروره في عزة وشموخ:
يأيها الظالم في مُلكِه ... أغَرَّك المُلكُ الذي ينفدُ
اصنع بنا ما شئت من قسوةٍ ... فالله عدلٌ والتلاقي غَدُ
- احذر قوة الضعيف!
في الحديث الصحيح: «»[11].
«»: بكسر همزة الوصل أي اطلبوا لي (الضعفاء) يعني مساكين المسلمين لأستعين بهم، ويُقال بَغَيْتُك الشيء: طلبته لك، والمراد به طلب الإعانة، وطلب النبي لهم ليكتبهم في ديوان المجاهدين وليستعين بهم، ولحضورهم فوائد أشار إليها بقوله: «» أي تُرزَقون المطر والغنيمة في المعركة وغيرهما مما تنتفعون به، «» على أعدائكم «» أي ببركة وجودهم بين أظهركم ورعايتكم لهم وبركة دعائهم، فإذا حنَّ الإنسان عليهم ورفق بهم وآتاهم مما آتاه الله؛ كان ذلك سببا لحصول النصر على الأعداء، ومفتاحا لسعة الرزق.
- قال القاضي: والضعيف إذا رأى عجزه وعدم قوته تبرَّأ عن الحول والقوة بإخلاص واستعان بالله، فكانت له الغلبة بخلاف القوي، فإنه يظنُّ أنه إنما يغلب الرجال بقوته، فتُعجِبه نفسه غالبا، وذلك سبب للخذلان[12].
ومن حكمته تعالى أنه أمر بإعداد العدة للعدو، لكنه أخبر مع ذلك أن النصر يكون بالضعفاء ليعلم الخلق أن ما أُمِروا به من الاستعداد وأخذ الحذر هو من قبيل الأخذ بالأسباب فحسب، لكن النصر في الحقيقة هو من عند الله قد يُلقيه على يد الأضعف، فمع قوة الاستعداد يكون ضعف الضعيف سبب قوة ثان له، لأنه اعتراف بأن الأمر كلَّه لله يدبِّره كيف يشاء.
قال ابن بطال في سبب إصابة دعوة الضعفاء عن غيرهم: تأويل الحديث أنَّ الضعفاء أشد إخلاصًا في الدعاء وأكثر خشوعًا في العبادة، لخلاء قلوبهم عن التعلق بزخرف الدنيا[13].
[1] صحيح: رواه الطبراني والضياء عن خزيمة بن ثابت كما في صحيح الجامع رقم: 117.
[2] صحيح: رواه الحاكم عن ابن عمر كما في صحيح الجامع رقم: 118.
[3] حسن: رواه الطيالسي عن أبي هريرة كما في السلسلة الصحيحة رقم:767.
[4] حسن: رواه أحمد والضياء عن أنس كما في صحيح الجامع رقم: 119، والسلسلة الصحيحة رقم: 767.
[5] التذكرة الحمدونية 7/210 - أبو المعالي بهاء الدين البغدادي- ط دار صادر، بيروت.
[6] عيون الأخبار 1/144 – ابن قتيبة الدينوري- ط دار الكتب العلمية.
[7] المستطرف 1/116.
[8] نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب 1/601.
[9] البداية والنهاية 9/29.
[10] ربيع الأبرار ونصوص الأخيار 3/315 – جار الله الزمخشري – ط دار مؤسسة الأعلمي ببيروت.
[11] صحيح: رواه أحمد ومسلم وابن حبان والحاكم عن أبي الدرداء كما في صحيح الجامع رقم: 41
[12] فيض القدير 1/82 بتصرف.
[13] تطريز رياض الصالحين 1/200 - فيصل بن عبد العزيز بن فيصل بن حمد المبارك الحريملي النجدي - دار العاصمة للنشر والتوزيع، الرياض.
- التصنيف: