ينابيع الرجاء - النبع السابع والعشرون: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه}

منذ 2014-03-31

شبَّه الله اقتداره على كل شي بالخزائن المودعة فيها الأشياء، المعدَّة لإخراج الكنوز، ومعنى {نُنَزِّلُهُ} أي نُخرِجُه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة بقدر معلوم، والقدَر المعلوم هو الأجل المعين له هو حسبما تقتضي حكمة الله ومشيئته، وكأنه يعلِّمك أن لا تطلب أي شيء إلا ممن عنده خزائنه، ومفاتيح تلك الخزائن بيديه، وأن طلبك من غيره طلبٌ ممن لا يملك ولا يقدر.


شبَّه الله اقتداره على كل شي بالخزائن المودعة فيها الأشياء، المعدَّة لإخراج الكنوز، ومعنى {نُنَزِّلُهُ} أي نُخرِجُه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة بقدر معلوم، والقدَر المعلوم هو الأجل المعين له هو حسبما تقتضي حكمة الله ومشيئته، وكأنه يعلِّمك أن لا تطلب أي شيء إلا ممن عنده خزائنه، ومفاتيح تلك الخزائن بيديه، وأن طلبك من غيره طلبٌ ممن لا يملك ولا يقدر.

لا تخضعن لمخلوق على طمع *** فإن ذاك مُضِرٌّ منك بالدين
واسترزق الله مما في خزائنه *** فإنما هي بين الكاف والنون


وهذه الخزائن إما مادية وإما قلبية إيمانية، والإيمان أهم وأغلى وأثمن، فقوت الصبر والثبات واليقين والتوكل والاستقامة كلها لا يملك مفاتيح خزائنها إلا الله، ولولا ذلك لهلك العبد في الدنيا وشقي في الآخرة، ولهذا كان من روائع وجوامع الدعاء النبوي: «اللهم إني أسألك من كل خير خزائنه بيدك، وأعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك»[1].

وهذا ما يقذف به في قلب كل مؤمن اسم الله (المُقيت)، وأصل المقيت القوت, و«مُقيت» من «قاته» أي أعطاه القوت، لكن لماذا يعطي الله عباده القوت؟
ليحفظ عليهم حياتهم، وإذا تخلف عن العبد هذا القوت لحظة تعطَّلت حياته، وفسد جوارحه وأركانه، فإن امتنع القوت عن أي عضو من أعضائه توقَّف عن العمل، فعينك لها قوت لتبصر، ووقلبك له قوت ليضخ الدم في الجسد، ويدك إن لم تنل قوتها لم تقو على رفعها أو تحريكها، وهكذا، وسبحانه لا يُقيت الإنسان فقط ولكن يقيتُ كل خلقه، فهو يقيت الإنسان والحيوان والجماد والنبات.

وسُمِّي به المقتدر لأنه قادر على إعطاء القوت, ثم صار اسما في كل مقتدر على كل شيءٍ من قوت غيره, كما قال الزبير بن عبد المطلب:


وذي ضَغَنٍ كَففْتُ النَّفْسَ عنه *** وكنتُ على مَسَاءَتِهِ مُقِيتاً


وعليه يدل قوله تعالى: {وكان الله على كل شيء مقيتا}، والمقيت كذلك هو المحافظ عليهم من الهلاك بأن يعطي العبد القوت ليظل حيا فهو (الحفيظ)، وهو مستعمل في معنى الاطلاع ومتضمِّنٌ لمعناه، وهو مشاهدٌ لعبده الذي لا يغيب عن خالقه لحظة فهو (الشهيد)، وبما أنه يعطي القوت للإنسان بحسب حاجته فهو (الحسيب)، فهذه المعاني متداخلة ومتلازمة؛ وقد رأينا العلماء ينظرون إلى «المقيت» من زوايا مختلفة، وهم جميعا على صواب، سواء من جعل اسم المقيت من القوت أو من الحفظ أو من القدرة أو من المشاهدة أو من الحساب، وكل واحد إنما نظر إلى ملمح من ملامح هذا الاسم "المقيت" فوصفه.

وأعظم حديث يظهر اسم الله المقيت هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن المعونة تأتي من الله للعبد على قدر المؤنة، وإن الصبر يأتي من الله على قَدْرِ المصيبة»[2].
بمعنى أن العبد إذا تكفَّل برعيته التي وجب عليه رعايتها، فإنَّ الله يعينه بِحَسَب ما عليه من أعباء، فإن كانت رعيته قليلة قُلِّل له زاده ورزقه، وإِن كانت كثيرة أمدَّه الله برزق أوسع.
 

  • يد الله ملأى!
    وفي الحديث الحاث على الطلب المشوِّق للدعاء الدافع إلى التعلق برب واسع العطاء: «يد الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحَّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يَغِضْ ما في يده، وكان عرشه على الماء، وبيده الميزان يخفض ويرفع»[3].

    يغيض أي  ينقص، ومنه غاض الماء إذا غاب في الأرض، والمراد الإخبار بأن الله تعالى لا يُنقِصه الإنفاق، ولا يُمسِك خشية الإملاق حاشاه،  وعبَّر ^ عن توالي النعم بسح اليمين؛ والسحَّاء هي الدائمة الصب، فيُقال: سحابة سحوح: أي كثيرة المطر، فلا يُعجزه كثرة ما تطلبون، فإن خزائنه لا تنفد، وعطاياه لا تفنى.
     
  • وربطنا على قلوبهم!
    وهو الربط الذي ربطه الله على قلوب أصحاب الكهف الذين فروا بدينهم، والربط يعني أن تربط على الشيء وتشدَّ عليه لتحفظ ما فيه، كما تُربَط القِرْبة حتى لا يسيل منها الماء، وتُربَط الدابة كي لا تنفلت، وقد ربط الله على قلوب هؤلاء الفتية ليستمسكوا بالعقيدة والإيمان بالله، فلا يتزعزع مهما كانت الأحداث والشدائد، وقد وردتْ مادة (ربَط) في القرآن كثيراً، ومنها قوله تعالى في قصة أم موسى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا} [القصص: 10].

    أي ربط على ما في قلبها من الإيمان بالله والثقة بوعده الذي أوحى إليها أن تُلْقِيَ بولدها في الماء، وأي أمٍّ تقدر على أن ترمي فلذة كبدها في الماء لولا قوت الطمأنينة الذي رزقه به (المقيت)؟! ولولا قوت (الثبات) ما أطاقت الانتظار، ولانطلقتْ خلف ولدها تصرخ وتنتحب لتُلفِت إليه الأنظار: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لولا أن ربطنا على قلبها} [القصص: 10]، ولكشفت عن الخِطَّة التي أمر الله بها لإنقاذ موسى عليه السلام، وهكذا اطمأن قلب أم موسى وسكن، ولولا (المقيت) ما سكن.

    وهذا دليل على أن خزائن الله تنفتح على قلوب أوليائه دون أعدائه، ولمن يحب دون من يُبغِض، فطوبى لمن أدناه ربه فأكرمه بعطاياه، ويا بؤس من طرده من قربه وأخزاه.


    [1] حسن:  رواه الحاكم  عن ابن مسعود كما في صحيح الجامع رقم: 1260
    [2] صحيح: رواه الحكيم والبزار والحاكم عن أبي هريرة كما في صحيح الجامع رقم: 1952
    [3] صحيح: رواه الشيخان وأحمد والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة كما في صحيح رقم: 8066 

خالد أبو شادي

طبيبٌ صيدليّ ، و صاحبُ صوتٍ شجيٍّ نديّ. و هو صاحب كُتيّباتٍ دعويّةٍ مُتميّزة

  • 9
  • 0
  • 9,461
المقال السابق
النبع السادس والعشرون: {فإن مع العسر يسرا}
المقال التالي
النبع الثامن والعشرون: {ادعوني أستجب لكم}

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً