الـبُـقْعَة التَّـنْويريَّة

منذ 2014-04-04

كان يُقالُ له: الاستقامةُ هي التمسكُ بالهدي المحمدي ظاهرًا وباطنًا فاستقم كما أُمرتَ، فجاء من يقول له: فاستقم كما أردتَ، ومالم تردْه فأنت في النهاية موافق لبعضِ الأقوال الفقهية..

البُقْعَة صارتْ تَتَّسِعُ شيئًا فشيئًا لكلِّ من له خصومة أو موقف مع التيار السائد، ليست المسألةُ أن تنطلق وفقَ قواعدَ محددة ومنهج متبلورٍ وأدوارٍ واضحة؛ المهم أن يكون لك تحفظ على شيءٍ قائم على السَّطح، بعدها ستُمنح بطاقة الشرف وتذكرة الدخول لعالم الأنوار في جَذْر مكافحةِ الظُّلم ومقاومة الاستبداد؛ إنها البقعة التي رسمها أحدهم وأدخلَ في قُطْرِها كوادرَ علمية ذات اليمين وذات الشمال، وحشر في جوفها أقلامًا متباينة بشكل حاد ومشاريع شتى…؛ كانت أَشْبَه بصافرةِ إنذارٍ دَوَّتْ في بعضِ دولِ العالمِ الثالثِ فإذا بالطبيب والمهندس والمزارع بجوارِ الجندي جنبًا إلى جنب في أرض المعركة ..!


كانت أمانيَ أملاها الخيال الرحب والنفس المتطلعة نحو التغيير.. لكن هل لها رصيد من الواقع؟


شَغَلونا بالحديثِ عن الإصلاحِ السياسي ومناهضةِ الفساد المالي، فلما قلنا لهم: سَمُّوا لنا رجالَكَم ..، ذكروا فلانًا وفلانًا من الأفاضِل.. أسماءٌ لا يُعتبرُ الإصلاحُ السياسي من صَلْبِ اهتماماتها، يا تُرى هل هو تَخَلٍ عن المشروع؟ أم أن المسألةَ لا تعدو أن تكونَ استكثارًا للرِّفاقِ لمجابِهَةِ التيارِ الجارِف؛ رأوا أيديَهم خاليةً من الأوراقِ الرَّابِحة، فأدخلوها في جيوبِ الآخرين يبحثون عن أيِّ رهانٍ يضعهم في الواجِهة؛ كنت أتمنى أن يكون الخطاب التنويري واضحَ المعالم والرسوم، لكنه ويا لأسفي الشديد ليس كذلك، كل ما هُنالِك أن تُبديَ تحفظاتٍ شديدةٍ وليونةً في التعامل مع النَصِّ الشرعي في أي مجال شِئت، بعدها ستجد نفسك عضوًا في نادي الأنوار..! لا أعلم لـمَ وُضِعَتْ السِّياجاتِ الوَهْميَّة بين التيارات الإسلامية، يا تُرى هل صارَ مُبرر إثبات الوجود والتجميع المرقَّع أهمَّ من مبرِّرِ وحدةِ الكلمة والصف؟!


الغلو في مكافحة الغلو:
يسأل التنويريون: لم لا تكافحون الغلوَّ والتشدد؟
هل ثمَّ موضوعٌ تناوله الخطابُ الشرعي خلال العقدِ الماضي أكثرَ مما تناول شبهات الجهاديين ومسائل التكفير حتى بات وصف: (الغلو في مكافحة الغلو) ملائمًا لبعضِ حالات الخطاب..!
ما لم يفهمه هؤلاء -تطبيقيًا على الأقل- أن الشريعة نبذتْ الغلوَّ والتفلُّتَ على حدٍ سواء، فالمكتبات السلفية والمحافل المحلية والرسائل العلمية والندوات المختلفة كلها تصب في صالح مكافحة الغلو، لكن السؤال الملقى في قارعة الطريق، من يقف في وجه مطبوعات محسوبة على التنوير تخلخل الثوابت الشرعية ككتاب يتضمن قصر الصلوات الخمس إلى ثلاث، ومن ينتزع المناديل المبللة من أكف نادبي أساطين الانحراف ويصرخ في أحداقهم المحمرَّة: لملموا عواطفكم المتناثرة بحزام الدين، فهؤلاء خصوم الشريعة من المهد إلى اللحد كيف يُندبون؟!


هي الأعينُ نفسُها جمدتْ عن السيلان إثرَ وفاةِ العُلَمَاءِ الربانيين..؟


ثمَّ يسألون بكل براءة: من يقف في وجه الغلو؟
يقفُ في وجهِ الغلوِّ القادرون على تمييزه، وهنا -ربما- مَوضِع الإشكال، فليس من القادرين على تمييزه من يفاخرون بالأخذ بسند عالٍ عن رموز القراءة الجديدة للنص، أحدهم أراد الوقوف في وجهِ الغلو، فاستدرك على أحد العلماء ثم انتهى إلى القول أن شتم النبي صلى الله عليه وسلم مما تتسع له الحرية في حياته واستدل بآيات منها {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة:61]..!

من المؤكد أن هذا بمعزل عن معرفة الغلو من عدمه..

هل مجردُ كثرةِ الحديثِ عن الغلوِّ مفخرةٌ بحدِّ ذاته، إذن فاز بهذه المنقبة لفيفٌ من الصحفيين الليبراليين الذين وضعوا الكلمات التالية: (الغلو، التطرف، آيدلوجيا) فَوَاصِلَ بين الجَمَلِ، وهم أكثر الناس شتمًا وتقريعًا لما يرونه غلوًا، لأنهم يكتسبون شرعية بقائهم من وجوده على الساحة، يؤمل بعض هؤلاء أن تصير كتاباتهم التبريرية أقراصًا منومة وحقن بنج تضخ في الشرايين حتى تبتر الأعضاء في المشرحة التنويرية دون مقاومة؛ فقط سنُبَدِّلُ نظامَ حكمك، ونتيح المجال لأهل الابتداع وأقطاب الانحراف أن يسيحوا في أرضك، ونعيد ترتيب أولويات الإصلاح لا كما رسمها القرآن بل وفق إيقاع العصر ومتطلباته، لن نفعل غير هذا، فلم  الغضب والممانعة؟
نحن وإياك خطان متوازيان؛ أنت تلاحق المنكرات اليومية: البِدَع، والاختلاط، والغناء، والجزئيات الصغيرة..، ونحن نوطن كل هذه الأشياء بقرار حكومي.. فأي داع للغضب؟!


خصومة مفتعلة:
عبثًا يحاول التنويريون أن يُظهِروا عدم قدرة الخطاب الشرعي على معالجة مشكلات العصر الجديدة، ودأبوا على وصم رجالات الخطاب القائم بالتعلق في ركب السلطة والولاء التام للحاكم وهذه هي أسس المعادلة وحرف المسألة، فلتكون متسقًا مع ذاتك، صاحب أطروحات مُقْنعة لغيرك؛ تحدث بإسهاب عن نقائص الآخرين، لا بقصد معالجتها بل لإسقاطها، وإلا فما الداعي لظهور خطاب جديد، وأوضِّحُ الصورةَ في مثال واقعي: النُّشَطاء السياسيون الذين دأبوا على نقد السلطة لم يمسَّهم النقدُ الجذري إلا بعد ولوجِهِم مغاراتٍ مظلمةٍ من إسقاطِ الحديثِ المتواترِ إذا كان متضمنًا طاعةَ السلطان، والسخريةِ بفقه السلف، ونبز المعاصرين من علماء الشريعة بأحطِّ الأوصاف، ولو أنهم وقفوا على حدود نقد الظلم، والمطالبة بالحقوق، وتساوي الفرص، لاعتبرناهم مكمِّلين للنقص الطبيعي في أي خطاب.


أعلم جيدًا أن الوقوف من أجل الإصلاح السياسي قيمة شرعية معتبرة، لكني موقنٌ أيضًا أنَّ هذه الوظيفةَ محفوفةٌ بالمخاطرِ فلا يصمد لها إلا القليلُ، لذا كثيرون يطيب لهم أن يرفعوا الشعار دون تحريك حجر في طاولة الإصلاح، ليغنموا من المناضلين بطولتهم، ومن القاعدين سلامتهم .


نِتـاج التَّنوير:
استطاع أمشاجٌ من هذه الفئة أن يتواصلوا مع بعض الشباب الصَّاعد، لما يتوافر عليه الشاب من ولعٍ بالجديد، ورغبةٍ في ركوب الموجات، فضلًا عن شحن روحه المتوثبة بمعاني النضال والمقاومة؛ لم تكن التنظيرات الجميلة التي أُتْحِفْنا بها حول حِفظِ عقولِ الشباب من الانحراف الفكري والسلوكي مقاربةً لهذا النتاج البشري، ولا أدري هل يعلم هؤلاء أدعياء محاربةِ التشدُّدِ والغلو أيَّ جريرةٍ سيحملون وهم يوهِّنون في نفوس الجيل الجديد المعاني الشرعية المعتبرة، ويشحنونهم ضد العلماء الذين قضوا أعمارهم في دراسة الشريعة.


من المسؤولُ عن لِدَاتي الذين أعرفهم لم يقوَوا على إكمال (الملخص الفقهي) يتحدثون بشيءٍ من الفخامةِ عن التيسير الفقهي، وحاجةِ العصر، ومقاصدِ الشريعة، ثم يهمسون في تعالٍ: نحتاجُ إلى إعادة النظر في فقهِ السلف..!، مَن الذي قال لهذا الفتى الغَض: كم نحن بحاجة إلى تنويري مثلك يخرجنا من غياهبِ الظلام ويخلِّصُنا من عصورِ الانحطاطِ وسلطةِ الرجعيين، فهناك أيها الأسد المغوار تغمرنا نشوةُ التحرير ونعلن انتصارنا على جحافل الليل القاتم وسننقلب في غمضة عين إلى مناضلين أحرار..!


أيَّ نشوةٍ تَهُزُّه حيال هذا الطرح..؟


لـمَّا أَجَلْتُ نظرةً عجلى في (الفيس بوك) خَطَر بِبالي أنه لا داعيَ لثني الرَّكَبِ عند العُلَماء، وتضييعِ العُمُرِ بِحِفْظِ النُّصوصِ وَفَهْمِهَا، ومِنْ ثَمَّ جَرْدُ الـمُطَوَّلات، المسألةُ أسهلُ بكثير: فقط افتحْ حسابًا هناك..، بعد ذلك تَمَتَّعْ بِقَدرٍ من الصفاقة، وفيضٍ من الوقاحَةِ، واجعلْ لحومَ الأكابرِ مضغةً في فَمِك، ولا تنسَ بأن تُرَدِّدَ أنَّ شطرًا طويلًا من عُمُرِكَ -الذي لم يتجاوزْ الثلاثين بعدُ-: خُدِعْتَ بالسَّلَفية، وأنَّ الدعوةَ الوهابيةَ سلبياتُها أكبرُ من إيجابياتِها، وفي خِضَمِّ ذلك الانتِشاء بالتنظير؛ اكتبْ مَقَالا بِعُنوان: (رحلتي من السَّلَفيةِ الضَّيقةِ إلى الإسلامِ الأرحب)، حاولْ أن تورد فيه اسمي مارتن لوثر وكالفِنْ، وطعِّمِ المقالَ بنقولٍ عن الأئمة: ابن حزم وابن تيمية… بعد هذا ستلقى من يُبَجِّلُك ويراك مظلومًا في عصرك، وأن لديك من الأفكارِ ما يَسْتَحِقُّ الإشادَةَ والقِرَاءَةَ، سَتَلقى مَن يَظُنَّك أبو حامد الغزالي الذي غَرِقَ في بحر متلاطمٍ من الفَلسَفَة، لن يَعْلَموا أنَّ قُصَارى قِراءاتِك لم تتجاوزْ رواياتِ علاء الأسواني، وإحدى روايات دان براون، ثم وَجَدتَّ الطريق قصيرًا نحو التَّصَدُّرِ والتَّنظيرِ ..


ما معنى أن تُطلق العباراتُ المفتوحةُ مصحوبةً بتأوهات، من نوع: الحريةِ، الفكرة الجديدة، امتداح القلق الفكري والحيرة،…؟ وإذا ما استُوقِفَ أحدُهم فَزِعَ من التطرف الذي يغرق فيه المجتمع، تساءلت كثيرًا، كيف استطاع أن يكون دقيقًا في تعبيره، متقعرًا في استخراج نوايا المحتسبين، ثم إذا جاء الحديث عن المشاريع النهضوية المترجمة رأيت عباراتٍ مجملة، وحديثًا فارغًا حول النظر للكأس الفارغ والملآن، ونسبية الحقيقة..، كان أضرابُ هذا الفتى قبلَ سنين عندما يقع في ذنبٍ يستشعرُ التقصير ويستغفر الله الكريم، الآن جاء من يقول له: إن جميع ما تشتهي أن تفعله لا يعدو أن يكون قولًا شرعيًا معتبرًا، طبعًا ما لم يصل لحدِّ الإلحاد…!، كان يُقالُ له: الاستقامةُ هي التمسكُ بالهدي المحمدي ظاهرًا وباطنًا فاستقم كما أُمرتَ، فجاء من يقول له: فاستقم كما أردتَ، ومالم تردْه فأنت في النهاية موافق لبعضِ الأقوال الفقهية، لا أدري من أين جاءت قاعدة (خذ بالأيسر –مطلقا!- ما دمنا في عصر العولمة)، ولا أعلمُ أن من وسائل الدعوة الصحيحة تقليمَ بعضِ الأوامرِ الشرعيةِ التي تتعارضُ مع رغبةِ المدعوين أثناء تكالب الفتن.


أخيرًا بقي أن أقول: حين يتحدث من لا تود عن فوائد التنفس لا تمتْ مختنقًا فلسنا في مقام تنزيه مجمل الخطاب عن الزلل أو التقصير، ومن الخطأِ المخالفِ للشرعِ والعقلِ أن يَسْتَخِفَّنا الذين لا يوقنون عن تَتِمَّة مَكامِنِ النَّقْص، فمن الذكاءِ الفرحُ بأيِّ ابتداراتٍ أمينة تسعى لسدِّ هذه الثغرة أو تلك، وتستبطن تمديد الخطاب الشرعي لا تحديده، وتعظيم النص لا تقزيمه، إننا على اعتراف تامٍ بوجود أخطاء تستلزم التصويب والتقويم، لكن رَاعَنا من أراد إزالة الذبابة الصغيرةَ بالفأس الحاد، فَنَزَعَ الفَسَائِلَ واقتلع الجذور، فحاجتنا الماسَّة للنقد لا تلغي عقولنا ومداركَنا الشرعية لقبولِ أيِّ نقد…، ومن المهمِّ لمسألةِ معالجة الأخطاء هذه أن تفردَ لها الأحاديثُ الخاصة، وتُعْقَدُ لها وُرَشُ العمل، لكني أردت هنا الإشارة الخاطفة لئلا يُظَنَّ أن الدافعَ وراء المقال العزوفُ عن المعالجة، وادعاءُ الكمال.

 

الشيخ سليمان بن ناصر السالم
13 ذي القعدة 1431هـ

  • 0
  • 0
  • 1,534

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً