رحمة النبي بالفقراء

منذ 2014-04-08

لقد كان يريد لهذه الروح الرحيمة أن تسري في مدينته وفي أُمَّته، وأن يشعر كل إنسان بمن حوله، ويسعى لتخفيف آلامه بقدر طاقته...

"كان محمد لا يقصده فقير أو بائس إلا تفضل عليه بما لديه"[1].

"يوجد أكثر من مليار ومائة مليون شخص على نطاق العالم يجاهدون للعيش على أقل من دولار أمريكي يوميًّا في عام 2001م"[2].

مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخشى على أمته من الغِنى أكثر من خشيته عليها من الفقر، حتى قال: «فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا»[3]، مع كونه صلى الله عليه وسلم على هذه الصورة إلا أنه كان يدرك أن الفقر الشديد فتنة كبيرة؛ لذلك كان يستعيذ منه فيقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ»[4]، وكان يقول أيضًا في دعائه: «اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ، وَأَغْنِنَا مِنْ الْفَقْرِ»[5].

ولشعوره بأزمة الفقر هذه، وما تُورِثُه في نفس الإنسان من ضعف، تحرك قلبه لهؤلاء الفقراء، مع أنه عاش حياته كفردٍ منهم، وكما تقول عائشة رضي الله عنها: "مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ طَعَامٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى قُبِضَ"[6].

شملت رحمته صلى الله عليه وسلم كل الفقراء، حتى كان يعطيهم -على فقره- كل ما يستطيع أن يعطيهم، ويأمر أصحابه وأُمَّته برحمة الفقراء...

وانظر إلى كلماته صلى الله عليه وسلم التي تفيض عذوبة ورقة ورحمة: «يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ، وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ، وَلا تُلامُ عَلَى كَفَافٍ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى»[7].

«مَا أُحِبُّ أَنَّ أُحُدًا لِي ذَهَبًا، يَأْتِي عَلَيَّ لَيْلَةٌ أَوْ ثَلاثٌ عِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ إِلاَّ أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ، إِلاَّ أَنْ أَقُولَ بِهِ فِي عِبَادِ اللهِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا»[8].

وما أكثر كلماته الرقيقة التي تدور حول نفس المعنى...

ولقد كان مجتمع المدينة مجتمعًا فقيرًا في مجمله؛ لذا فحصر مواقف رحمته صلى الله عليه وسلم مع الفقراء أمر لا يستطاع، ولكن نسدد ونقارب...

فنضرب أمثلة، ومن أراد التفصيل فليَعُدْ إلى كنوز السُّنَّة العظيمة... انظر إليه يُعلِّم أبا ذر رضي الله عنه -مع أن أبا ذر رضي الله عنه شديد الفقر- فيقول له: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ»[9].

وكان يأمر النساء أن يتصدقن على جيرانهن ولو بشيء قليل... قال صلى الله عليه وسلم: «يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ، لا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ»[10].

لقد كان يريد لهذه الروح الرحيمة أن تسري في مدينته وفي أُمَّته، وأن يشعر كل إنسان بمن حوله، ويسعى لتخفيف آلامه بقدر طاقته...

دعاه جابر بن عبد الله رضي الله عنه أيام الأحزاب إلى طعام قليل في بيته، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم -مع شدة جوعه- أن يذهب بمفرده، ولكن اصطحب معه المهاجرين والأنصار، وكانت معجزة أطعم فيها الجميع، وما رضي أن يشبع وشعبه جائع...[11].

ويروي جرير بن عبد الله رضي الله عنه فيقول: "جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم الصوف فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حاجة؛ فحَثَّ الناس على الصدقة؛ فأبطئوا عنه حتى رُئيَ ذلك في وجهه"، قال: "ثم إن رجلًا من الأنصار جاء بصُرَّةٍ من وَرِقٍ، ثم جاء آخر، ثم تتابعوا حتى عُرِفَ السرورُ في وجهه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً؛ فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً؛ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ»[12].

وكان صلى الله عليه وسلم يحاول أن يعطي من عنده، فإذا لم يجد اجتهد في حل الأزمة ولو من عند أحد أصحابه، لكنه لا يترك الفقير هكذا بغير عون...

يقول أبو هريرة رضي الله عنه: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: "والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء"، ثم أرسل إلى أخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهُنَّ مثل ذلك: "لا، والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء"؛ فقال: «مَنْ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ»، فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا إلا قوت صبياني. قال: فعَلِّلِيهم بشيء؛ فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج، وأريه أنَّا نأكل، فإذا أَهْوَى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئه.
قال: فقعدوا وأكل الضيف فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «قَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ»[13].

لقد تأصلت هذه الرحمة في المدينة، حتى صارت أحداثها كالأحلام، وصارت قصصها كالخيال... ومع المعاناة المستمرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يتوقف أبدًا عن العطاء مع شدة احتياجه...

يروي سهل بن سعد رضي الله عنه فيقول: "جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ فِيهَا حَاشِيَتُهَا، أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟ قَالُوا: الشَّمْلَةُ قَالَ: نَعَمْ قَالَتْ: نَسَجْتُهَا بِيَدِي فَجِئْتُ لأَكْسُوَكَهَا فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ فَحَسَّنَهَا فُلانٌ؛ فَقَالَ: اكْسُنِيهَا، مَا أَحْسَنَهَا! قَالَ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ لَبِسَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لا يَرُدُّ قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ لأَلْبَسَهُ؛ إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي. قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ"[14].

لقد كان دائمًا يرى أن ما أعطاه خير مما أبقاه، ولذلك كان دائم العطاء، وما أبلغ ما رد به رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين ذبحوا شاة ووزعوا منها معظمها، وقالت له أم المؤمنين: "ما بقى منها إلا كتفها"، قال بفهم عميق: «بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا»[15].

هذه كانت حياته، وهذه كانت رحمته بالناس...

ثم إني أحب أن أختم هذا المبحث بموقف له دلالته الخاصة، إذ لا ينبغي أن يُفهَم من حبه صلى الله عليه وسلم للعطاء، ومن حثِّه صلى الله عليه وسلم للصحابة على الإنفاق أنه كان يرضى للفقير أن يظل فقيرًا أبد الدهر، أو يعتاد أن يمد يده للسؤال، بل كان حريصًا على ترسيخ معنى العمل والكسب عند فقراء الأمة لِيَكْفُوا أنفسهم بأنفسهم، وليستمتعوا بلذة البذل والعطاء بدلًا من معاناة ذل الأخذ والاستجداء...

روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلًا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله[16]، فقال: «أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ؟»، قَالَ: بَلَى حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ، وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِنْ الْمَاءِ قَالَ: «ائْتِنِي بِهِمَا». قَالَ: فَأَتَاهُ بِهِمَا فَأَخَذَهُمَا رسول الله صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ وَقَالَ: «مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ»، قَالَ رَجُلٌ: "أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ"، قَالَ: «مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا»، قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ، وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا الأَنْصَارِيَّ، وَقالَ: «اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ وَاشْتَرِ بِالآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ»، فَأَتَاهُ بِهِ فَشَدَّ فِيهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم عُودًا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: «اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ وَلا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا»، فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ؛ فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِع»[17].

لقد كانت رحمته صلى الله عليه وسلم بالفقراء رحمةً نافعة، دافعةً لكل خير، تهدف إلى إسعادهم سعادة حقيقية لا زيف فيها ولا تزوير...

رحمة لا تهدف إلى كفايتهم فقط، ولكن أيضًا إلى تعليمهم، ورفع معنوياتهم، كما تهدف في ذات الوقت إلى نجاتهم في الدنيا والآخرة، في شمول عجيب، لا نراه في تاريخ الأرض إلا من نبي! وصدق الذي قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].

___________

[1] إيفلين كوبولد (شاعرة إنجليزية)، الأخلاق، ص[66].
[2] تقرير الحالة الاجتماعية في العالم 2005م، الصادر عن الأمم المتحدة، ص[68] بتصرف الرابط الإلكتروني: http://daccessdds.un.org/doc/UNDOC/GEN/N05/418/71/PDF/N0541871.pdf?OpenElement
[3] البخاري: كتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدرًا [3791]، ومسلم: في أوائل كتاب الزهد والرقائق [2961] والترمذي [2462]، وابن ماجة [3997]، وأحمد [17273].
[4] أبو داود [5090]، النسائي [5485]، أحمد [20397]، وابن خزيمة [747]، وابن حبان [1026]، وقال الألباني: حسن الإسناد.
[5] مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقال عند النوم وأخذ المضجع [2713]، وابن ماجة [3831]، وأحمد [9236]، وابن حبان [966].
[6] البخاري: كتاب الأطعمة [5059]، ومسلم في أوائل الزهد والرقائق [2976]، وأحمد [24709]، وابن حبان [6345].
[7] مسلم: كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى [1036]، والترمذي [2343].
[8] البخاري: كتاب الاستئذان، باب من أجاب بلبيك وسعديك [5913]، ومسلم: كتاب الزكاة، باب الترغيب في الصدقة [94]، وابن حبان [170].
[9] مسلم: كتاب البر والصلة والأدب، باب الوصية إلى الجار والإحسان إليه [2625]، وابن ماجة [3362]، وأحمد [21465]، وابن حبان [514]، والدارمي [2079 ].
[10] البخاري: كتاب الهبة وفضلها، باب التحريض عليها [2427]، ومسلم: كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بقليل [1030]، وأحمد [7581]، والدارمي [1672] بلفظ كراع شاه محرق.
[11] البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب [3876]، ومسلم: كتاب الأشربة، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه ذلك [2039].
[12] مسلم: كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة [1017]، والنسائي [2554]، وأحمد [19197]، وابن حبان [3308].
[13] مسلم: كتاب الأشربة، باب إكرام الضيف وفضل إيثاره [2054]، وابن حبان [5286]، والطبراني في الكبير [6342]، وأبو يعلى [6168].
[14] البخاري: كتاب الجنائز، باب من استعد للكفن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه [1218]، وابن ماجة [3555]، وأحمد [22876]، والنسائي [9659].
[15] الترمذي [2470]، وقال: صحيح، والحاكم [7193]، وقال: حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وابن أبي شيبة [9816]، وقال الألباني: صحيح.
[16] أي: يستجديه.
[17] أبو داود [1641]، وابن ماجة [2198].

راغب السرجاني

أستاذ جراحة المسالك البولية بكلية طب القصر العيني بمصر.

  • 2
  • 1
  • 35,357

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً