بنغلاديش وشيتابونج
منذ 2007-11-14
إنكم أيها الدعاة والعلماء لن تجدوا أنفسكم إلا حيث تفتقدكم هذه الشعوب وتحتاجكم هذه الأمم، وهذا الذي دفع الصحابة لترك مكة والمدينة والإقامة في أرض الله الواسعة لتعليم الدين ونشر الشريعة وقبورهم خير شاهد على ذلك.....
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وبعد:
لم أكن أتصور أن طلاب العلم والعلماء يحظون بالتكريم والتقدير والاحترام والإجلال بل والقدسية حتى سافرت إلى بلاد شرق آسيا الفلبين وتايلند وبنغلاديش وغيرها ورأيت بأم عيني مدى الإجلال والإكبار الذي يحظى به طلبة العلم والعلماء، ودعوني أحكي تجربتي لقد أقمت في بعض هذه الدول سالفت الذكر أكثر من شهر وبعضها أقل من ذلك في دورات صيفية لتعليم العلوم الشرعية، فأول ما شاهدته هو التعظيم الكبير للعرب عامة وللعلماء خاصة وحبهم للعرب حبًا يفوق الوصف، ويعللون ذلك أن القرآن عربي والنبي صلى الله عليه وسلم عربي ومن أوصل لهم الإسلام العرب ولغة أهل الجنة العربية على حد قولهم فهم قوميون أكثر من بني قومنا.
ثم إن هذا التقدير يتمثل في فرحهم باستقبالك عند قدومك عليهم، فمثلاً في إحدى الدول استقبلنا في المطار مدير الجامعة والمفتي وأساتذة الجامعة وإمامهم الكبير وخلق من العلماء نقلتهم سيارتي نقل كبيرة فرحًا بقدومنا، ثم إنهم لا يمتنعون ولا يدققون النظر إلى وجهك هيبة مع طأطأتهم للرؤوس احترامًا وتقديرًا لك وإذا تحدثت فكأن علامة الزمان هو المتحدث، مع علمنا بأن كل من حولنا من الأعاجم هم الأعلم والأحكم وربما الأتقى، لكن دفعهم الحب والشوق إلى التواضع والتفاني، وبعد ذلك وصلنا إلى مقر إقامتنا في المدرسة أو في مخيم أو في جامعة أو قرية أو غابة وقد اصطف الأبناء ينشدون طلع البدر علينا على جنبات الطريق، وخرجت النسوة لتنظر إلى أبناء الصحابة القادمين بوصف يفوق الخيال، وترحاب يعجز عنه الوصف.
ثم وصلنا وتوالى المهنئؤون والمسلمون علينا بحثًا عن البركة، والتماسًا للرحمة بالسلام والمصافحة ولم يقتصر الإكرام على هذا بل رأينا أن كل عالم وطالب علم يوكل به مجموعة من الطلبة في معيته من غسل ملابسه وتنظيف غرفته وحمل نعليه ومشلحه وإلباسه غترته والعمامة وتنظيف حذائه ورفع شنطته وحمل كتبه بل ومسح وجهه وتنشيف قدمه ورجله عند الوضوء وتفقد منامه وطعامه وطهوره كل ساعة والبيات خارج غرفته انتظار أوامره وارتهان هذه المجموعة كاملة بحركة عينيه ورهن إشارته، والمشي خلفه والترجمة له وتلبية مطالبه وحوائجه، وليس هذا خاصًا بنا العرب بل هي سنة ماشية مع كل علمائهم، وفي كل ذلك يعتقد الطلاب أن هذه الخدمة شرف وقربة إلى الله تعالى وهم في ذلك في شوق ورغبة لتلبية حاجات الشيخ ورغباته دون كلل أو ملل، وقد تستمر هذه الخدمة لمدة شهر كامل مع تقديم أنواع الطعام والخدمات اليومية عبر طاقة صغيرة خارج غرفة الشيخ يتفقد بها الطلاب شيخهم بين لحظة وأخرى.
وإذا رغب الشيخ بالاغتسال أو دخول الخلاء جاء العشرة بأنواع من الألبسة والقمص والأزر لكي تأتزر به بعد الغسل كل يرغب أن يقبل منه، وإذا كان وقت الصلاة فلا أحد يؤم إلا نحن مع كثرة الحفظة فيهم إلا أن للقرآن بصوت العرب ولسانهم طعم آخر، ثم إذا كان الدرس غص المسجد قيامًا وقعودًا بالحضور مع بكائهم على النغمة ولو دون فهم المعنى، مع تزاحمهم على الاقتداء واقتدائهم بحركاتنا وسكناتنا وعنايتهم بالسنة النبوية حتى لقيت لي شابًا في الفلبين له شعرة واحدة في ذقنه نبتت من شامة به يدهنها كل يوم ويمشطها ويقول يا شيخ لا تعلم كم يحسدني الشباب على هذه الشعرة وتمنوا أن يكون عندهم مثلها اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، لقد عشنا فترة من الزمن شعرنا فيها بقيمة أنفسنا كعلماء وطلبة علم يستفاد من علمنا وإمامتنا ونرى أثرًا لما نقول على الناس وحضورًا مشجعًا وإقبالا ً وتقديرًا لم نر مثله ولن نر مثله في بني جلدتنا.
ولقد سبح بي الخيال وعادت بي الذاكرة لأتذكر حال كثير من الدعاة والعلماء وطلبة العلم وإجلاء المشايخ في بلادنا ممن لا يلقون تقديرًا ولا احترامًا من صغار المتعلمين بل وامتدت الألسن لتنهش لحومهم وتأكل في أعراضهم وصنفوا وقام سوق التحذير والتصنيف على أشده حتى آثروا الوحدة والانطواء والعكوف على التأليف وترك الخلطة في زمن ومجتمع لا يقدر فيه العالم ولا يلتمس فيه قدرهم فدروسهم مهجورة وخطبهم غير معمورة ومألفاتهم لا يستفاد منها مع التشنج بين طلبة العلم والعزوف عن تعلم علم الشريعة.
لكني في النهاية لا ألقي اللوم على العيال ممن لا يعرف قدر العلماء بقدر ما ألقي اللوم على العلماء وأنفسنا ممن ارتضى أن يقبر نفسه ويعيش بين هؤلاء الدعاة والله يقول { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } [النساء: 97]
ويقول: { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً } [النساء: 100]
إنكم أيها الدعاة والعلماء لن تجدوا أنفسكم إلا حيث تفتقدكم هذه الشعوب وتحتاجكم هذه الأمم، وهذا الذي دفع الصحابة لترك مكة والمدينة والإقامة في أرض الله الواسعة لتعليم الدين ونشر الشريعة وقبورهم خير شاهد على ذلك، فجربوا ولو لفترة قصيرة ولو بالصيف لتشعروا بمكانة العلماء المفقودة ودوركم الجليل في إنقاذ المريض والعليل..
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،،
المصدر: طريق الإسلام
طارق بن محمد الطواري
أستاذ بقسم التفسير والحديث بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الكويت وإمام وخطيب بوزارة الأوقاف والمأذون الشرعي بوزارة العدل وعضو الرابطة العربية للإنترنت وعضو مبَرة السلام الخيرية
- التصنيف:
محمد هارون العزيزي الندوي
منذامال
منذ