التماس رضا الله وإن سخط الناس

منذ 2014-04-13

مَن الْتمَس رضاء الله بسخط الناس، كفاه الله مؤونة الناس، ومَن التمس رضاء الناس بسخط الله، وَكَله الله إلى الناس

كتب معاويةُ إلى عائشة رضي الله عنهما أنِ اكتُبي لي كتابًا توصيني فيه، ولا تُكثري عليَّ؛ فكتبتْ إليه: "سلامٌ عليك، أما بعد، فإني سمِعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«مَن الْتمَس رضاء الله بسخط الناس، كفاه الله مؤونة الناس، ومَن التمس رضاء الناس بسخط الله، وَكَله الله إلى الناس»، وسلام عليك"  (رواه الترمذي).

مَنقَبتان كريمتان:
منقبتان كريمتان، تلمعان في سيرة الراشدين المُقسِطين، من خلفاء المسلمين وأمرائهم.

فأما أولاهما، فهي تعهُّدهم للوُلاة والعمال بالرعاية والمراقبة، وإيصاؤهم كلما حانت فرصة بالعدل والإحسان، وتقوى الله في السر والإعلان.

وأما أخراهما -ولعلها أكرمُ من سابِقتها وأجلُّ- فهي إصاختهم لنُصح الناصحين، مِن أُولي المكانة في العلم والدين، بل هشاشتهم لهذا النصح وارتياحهم له، والتماسهم إيَّاه ممن هو به قَمِين؛ إذ يعلمون أن الدين النصيحة، وأن أكفأ مَن يؤدّيها على وجهها - وبخاصة إذا استنصحوا - هم أئمة الفضل وأعلام الهدى، الذين لا يُبالون غير الحق، ولا يخافون في الله لومة لائم.

وقد حفِظ لنا التاريخ من هذين الصِّنفين من الوصايا مُثلاً عُليا، تكفُل للأمم وحكوماتها -إذا اهتدت بهُداها- سعادة الأبد، وعزَّ الخلود.

وصية موجزة جامعة:
ومن الصِّنف الثاني: هذه الوصية الموجَزة الجامِعة، التي اقتبستها أم المؤمنين عائشة من غُرَر حِكَمه صلوات الله وسلامه عليه وأنفذتْها إلى معاوية، ردًّا على كتابه، وإجابة لاستيصائه.

لِمَ اختصَّ معاويةُ عائشةَ لكتابة وصية له؟
والذين يعلمون شيئًا من تاريخ معاوية، وكياسته وبُعْد نظره لا يعجبون له إذ يختص عائشة بالكتابة، وبين يديه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جمٌّ غفير، كلهم على هدى من ربِّهم وبصيرة.

وقد يخطُر بالبال أن هذا الاختصاص مظهرٌ من مظاهر الدَّهاء وسَعَة الحيلة؛ ابتغاء التحبُّب إلى أم المؤمنين وشيعتها، ومن وراء هذا تثبيت المُلْك وتأييده.

ولئن صحَّ هذا، إنه لمن السياسة الرشيدة، والنظرات البعيدة، والكياسة النادرة التي ماز الله بها معاويةَ رضي الله عنه والتي ينفسح لها صدر الدين الحنيف، ولا تأباه مروءة ولا كرامة.

ومَن أحقُّ بهذا الفضل من معاوية، وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون هاديًا مهديًّا  (الترمذي؛برقم:3842)، وقال فيه ابن العباس رضي الله عنهما وكان نقَّادًا: "ما رأيت رجلاً أَخلَقَ للمُلْك من معاوية؟"
وأجمَع المؤرخون وأولو البصر بالسياسة أنه كان أسوس الناس وأسْوَدَهم، وأحقَّهم بالمُلْك والرياية.

والذين يعلمون مقامَ عائشة من الدِّين، وسَبْقها في الفضل، ومكانها من النبي صلى الله عليه وسلم لا يَعجبون كذلك لهذا الجواب السديد المُحكَم، وهذه النصيحة الفاذة البالغة، ثم هم يُنصِفون معاوية، ويوقنون أنه على الخبير سَقَط.

ليس عجبًا من عائشة رضي الله عنها وهي تتوقَّد ذكاء، وتمتلئ إيمانًا وهدى، أن تُدرِك بُغية معاوية وحبه للمُلْك، وحياطته له باجْتذابه القلوب واصْطناع النفوس، وأنه قد يحوم لهذا حول مساخط الله في مراضي عباده، ومَن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فتنفِذ إليه هذا البلاغَ ليُنذَر به، وليتَّخذه دستورَه ومِنهاجه، وليعلمَ أن بيد الله قلوب العباد ونواصيهم؛ فمن أطاعه وأرضاه، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، حتى يرضى عنه مَن أسخَطه في رضاه، ويزيِّن لديه قوله وعمله وشأنه كله، ومَن أعرَض عنه وأسخطه، سَخِط الله عليه، وأسخط عليه مَن أرضاه في سخطه، وعاد حامده من الناس ذامًّا له وناقمًا عليه؛ ذلك بأن للباطل غشاوةً على البصر والبصيرة، لا تلبَث أمام الحق حتى تزول، وقديمًا قيل: الحق أبلج، والباطل لجلج.

حاجة الملوك إلى رضا الرعية:
ولا يَدورَنَّ بخَلَد أحدٍ أن الملوكَ والأمراء بغنى عن رضا الرعيَّة، بل إنَّهم إلى رضا رعاياهم أحوجُ من الرعايا إلى رضاهم؛ إذ لا ترسخ دعائم المُلْك إلا على المحبة والرضا، ومِن ثَم كانوا أحوج الناس إلى العدل وأولاهم به؛ يحفظ مُلْكهم، ويكبت عدوَّهم، ويَقيهم فتنةَ الحقد والضغينة، ويوطِّد لهم الأمن والسكينة، وبحقٍّ قيل: العدل أساس الملك.

الذين يلتمسون رضا الناس بسخط الله:
هذا، والذين يلتمِسون رضا الناس بسخط الله صُنوف شتى، هم أصل البلاء، ومكمن الداء، وبأمثالهم مُنِيَ الإسلام، في كل زمان ومكان.

فمنهم المنافقون المداهنون، الذين يُسِرُّون خلاف ما يعلنون، أو يراؤون الناس ويزعمون أنهم مخلصون.

ومنهم الجبناء المستضعفون، الذين تأخذهم من الناس هيبةٌ تُخرِس ألسنتَهم، وتُعمي قلوبهم، فلا يقولون حقًّا، ولا يُنكِرون باطلاً.

ومنهم الذين يوادُّون من حادَّ الله ورسوله، ويتَّخذون بطانة من دونهم لا يألونهم خَبالاً.

يتزلَّف هؤلاء إلى الناس، ويترضَّونهم بمساخط الله،؛ رجاء حظٍّ موهوم، أو جاهٍ مزعوم، أو عَرَض خادع،           {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النورمن الآية:39].

وشرٌّ من هؤلاء مَن يشتري مساخط الله بسخرية الناس وازدرائهم، من أولئك المجاهرين الماجنين، والسخفاء المتظرّفين، ومَن على شاكِلتهم.

الترفق والتلطف والمُداراة:
وليس منهم مَن يتلمَّس رضا الله والناس، فيترفَّق في المعادلة، أو يتلطَّف في المجاملة، أو يُداري السفهاء في غير مسٍّ لكرامته ودينه، حتى إذ لم يكن بد من أحد الأمرين: سخْط الله، أو سخْط عباده، آثر الحقَّ على الخَلْق، ولم يبالِ الناس شيئًا.

أوفى الناس بمحبة الله والناس:
وليس عجبًا أن يكون العاملون على رضا الله، وإن سخط عباده أحمدَ الناسِ عاقبة، وأوفاهم من محبة الله والناس نصيبًا؛ ذلك بأنهم حفِظوا الله فحفِظهم، ونصروا الله فنصرَهم، وتولّوا الله فكفاهم، {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء من الآية:45].

موعظة الحسن البصري لابن هُبيرة:
لما وَلِي ابن هُبَيرة العراق وخراسان ليزيد بن عبدالملك، بعث إلى الحسن البصري، وابن سيرين، والشعبي، فاحتفى بهم وأحسَنَ مثواهم، ثم قال: إن الخليفة أخذ من الناس عهودهم وأعطاهم عهده؛ كي يسمعوا له ويُطيعوا، وأنه تأتيني منه كتب إن أمضيتها أسخطتُ الله، وإن أهملتُها أسخطتُ أمير المؤمنين، فماذا تأمرون؟ فأجاب الشعبي بكلام فيه تَقيَّة، وسكت ابن سيرين، فقال: يا أبا سعيد، ما تقول؟ فقال الحسن: يا بن هبيرة، خَفِ الله في يزيدَ ولا تَخف يزيدَ في الله؛ فإنَّ الله جلَّ وعز مانعُك من يزيدَ، ولن يمنعك يَزيدُ من الله، يا بن هبيرة، أنه لا طاعة لمخلوقٍ في معصيةِ الخالق، فما كتب إليك يزيدُ، فاعرِضه على كتاب الله؛ فما وافَقه فأنفِذه، وما خالَفه فلا تُنفِذه؛ فإنَّ الله أولى بك من يزيد، وكتاب الله أولى بك من كتابه، وما زال به حتى أبكاه.

فما كان من الوالي بعد أن انصرف في عَبرته إلا أن أرسَل إليهم جوائزهم، فأعطى الحسن أربعة آلاف درهم، وصاحبيه ألفين ألفين، فنادي الشعبي على باب المسجد: مَن قَدَر منكم أن يُؤثِر الله على خلقه، فليفعل؛ فإن الأمير قد سألَنا عن أمر الله، ما علِم الحسن شيئًا جهِلتُه، وما علِمتُ شيئًا جهله ابن سيرين، ولكنا أردْنا وجه الأمير، فأقصانا الله عز وجل وقصَر بنا، وأراد الحسنُ وجهَ الله، فحباه تبارك اسمُه وزاده.

وما لنا نسوق الشواهد ونضرب الأمثال، ونحن نراها كل يوم بأعيننا، ونكاد نَلْمَسها لمسًا بأيدينا؟!
إيثار طاعة الله ومرضاته:
ألاَ إن مَن آثر الله واتَّقاه، وقدَّم مرضاته على هواه، جمع اللهُ حوله القلوب، ودفع عنه عواديَ الخطوب، وجعل له من عدوه نصيرًا، ومن مناوئه ظهيرًا، ألاَ وإنَّ مَن باع دينه بدنياه، وخشي الناس ولم يخشَ الله، هَتَكَ الله سِتره، ونكَس عليه أمْرَه، وصرَف عنه قلوب العباد، ولم يُبلِّغه حظًّا مما أراد. وسبحان مقلب القلوب والأبصار، يُصرّفها كيف يشاء!

طه محمد الساكت

  • 2
  • 0
  • 4,437

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً