دلالات في مشي النبي (2)

منذ 2014-04-21

في دلالة قوامته صلى الله عليه وسلم، واحتوائه لصحابته رضوان الله عليهم أجمعين.

قوامة بقدر أمَّة:
يقول هند بن أبي هالة رضي الله عنه: "يسوق أصحابه"
المعنى اللغوي: (أي يقدّمهم أمامه ويمشي خلفهم تواضعًا، ولا يدع أحدًا يمشي خلفه) [النهاية لابن الأثير]. وفي رواية : "كان ينُسّ أصحابه، والنسّ السَّوْق، وكانت مكة تسمى الناسّة؛ لأن الباغي فيها والمحدث يخرج منها[1].

وكان صلى الله عليه وسلم يقول لهم: «امشوا أمامي، وخلوا ظهري للملائكة» [2].

المعنى الدلالي: هنا معنى من معاني التربيت على كتف الصحبة واحتوائهم معنويًّا ونفسيًّا برفع الهمم وشد الأزر؛ لقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يسوق رعيته من قبل بمكة في الجاهلية بنفس الطريقة الحانية التي تُشعر من يرى هذه الصورة من بعيد بمدى تحمله لهذه المسؤولية العظيمة، وكأنه حامي ظهورهم وململم لشملهم ومكفكف جراحهم وخائف عليهم من ذئاب الصحراء ولهيب الفيافي وقفر العيش الأخروي، ولربما كان هذا هو السبب في أنه ما بَعَث الله نبيًّا إلاَّ رعى الغنم [3].

وكما يقول الإمام ابن حجر : "قال العلماء: الحكمة في إلهام الأنبياء من رعي الغنم قبل النبوة: أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم، ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم الحلم والشفقة؛ لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى ونقلها من مسرح إلى مسرح ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها ورفقوا بضعيفها وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة" أ.هـ [4].

إنه معنى راقٍ من معاني القوامة التي لا تعدلها قوامة في تاريخ البشرية، إنها قوامة على الأمة المحمدية بأسرها تستشعرها في مجرد تأخره عنهم صلى الله عليه وسلم، حتى يطمئن على نهاية السرب، وتقر عينه برسو المسير، وكأنه صلى الله عليه وسلم يقول لهم: هيا أكملوا المسير.. لا تتوقفوا وامضوا قدمًا إلى الأمام.. وأنا من ورائكم.. فلن أعيش لكم مديدًا، ولن أدوم طويلا، وماذا لو مت أو قتلت؟ أنتم حماة العقيدة وحراس النصر، قد تأخرت عنكم وأنا شاهد فيكم لأكون في مقدمتكم وأنا غائب عنكم.

إنه تأخر بتوجيه وسوق كما قال هند بن أبي هالة رضي الله عنه: "يسوق أصحابه".
إن سلوكه الحالي صلى الله عليه وسلم لم يكن مغايرًا بحال لمنهجه البعيد وغاياته الكبرى في تحقيق نفس الطريقة معهم في شتى الدروب؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يسوقهم، ليس فقط في المشي، بل في كل صغيرة وكبيرة، لقد كان سوقا حالًّا على أرض الواقع وكان أيضًا تطبيقا وتحقيقا لمدارك عظمى وأهداف جسام.

لذا فقد لاقى أصداءه المشرقة بين جنباتهم رضوان الله عليهم أجمعين حتى علا صوته وارتفع ارتفاع مؤذن الخير في سماء التوحيد ليمتد نور هذا السوق عبر الأزمان والعصور إلى يومنا هذا.

ووالله لو كان هذا السوق لذئاب خادعة أو وحوش ضارية كما يكذب البعض ويفتري على صحابته صلى الله عليه وسلم ما سمعنا له صدى، ولاندثرت معالمه وماتت آثاره فلم يصل لنا منه شيء، لكنهم رضي الله عنهم بلّغوا عنه حق التبليغ، فجزاهم الله خيرًا، فنقلوا لنا حتى لمحات عينيه ولفتات رجليه قولًا وعملًا، حتى كانوا ينقلون حديثه تسلسلا وصفًا لحاله في أثناء التحدث، وتطبيقًا لحال الوصف وما كان ذلك ينبع إلا من قلوب مُحِبة له حق المحبة وموقرة له حق الوقار؛ كما قال عز وجل: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}[الفتح: من الآية 21] فرضي الله عنهم أجمعين.

 

رحاب حسّان

ــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] غريب الحديث لابن قتيبة.
[2] صححه الألباني في السلسلة الصحيحة المجلد الرابع.
[3] أخرجه البخاري وابن ماجة وابن سعد في الطبقات الكبرى، انظر غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام للألباني (ص 121-رقم: [161]).
[4] فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر (كتاب الإجارة،  باب رعي الغنم على قراريط).

  • 0
  • 0
  • 1,118

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً