محاصرة الشّرور
إن المجتمع الفاضل في الرؤية الإسلامية هو الذي يقوم بمعظم شؤونه دون أن يطلب المعونة من أي دولة أو سلطة بسبب استغنائه بمبادراته ومؤسساته وارتباطاته الأهليّة والشعبيّة.
مضت سنة الله تعالى في الخليقة أن يظل الصّراع مشتعلًا بين الحق وأهله من جهة، وبين الباطل وأهله من جهة أخرى. وحين هبط آدم عليه السلام وزَوْجُه من الجنة؛ هبط معهما إبليس بوصفه المسؤول الأكبر عن إشاعة الشرور.
إن وجود إمكانيّة لاقتراف الشر والوقوع في الرذيلة؛ يشكل مظهرًا هامًّا من مظاهر ابتلاء الله تعالى لعباده، وكلما درجت البشرية في سبيل العمران والتحضُّر اتسعت الإمكانات أمام أهل الخير وأمام أهل الشر؛ لكن بما أننا نعيش في ظل حضارة ماديّة إلحاديّة؛ فإن اكتشاف مساحات نشر الخير تحتاج إلى نوع من الإبداع، على حين أن الشر يطرق الأبواب، وكثيرًا ما يدخل من غير استئذان!
الخبرة القديمة لدينا في مقاومة الشرور؛ كانت تعتمد على النهي والزجر والتشنيع على المفسدين ومعاقبتهم. وهذا الأسلوب سيظل مطلوبًا، لكن التجربة التاريخية علّمتنا أن الضغط الاجتماعيّ إذا لم يصحبه تربية جيّدة وتنمية أجود للوازع الداخلي، فإن آثاره ستكون أقرب إلى السلبيّة منها إلى الإيجابيّة، إنه يساعد على إخراج مجتمع ظاهره الصلاح والاستقامة والامتثال لآداب الشريعة، وباطنه المُرُوق والفسوق.
إذا كنا نريد معالجة نظيفة للانحراف؛ فإن هذا يتطلب معالجة تقوم على النعومة والجاذبيّة والتفاهم، واستخدام الحد الأدنى من القوة والسلبيّة.
إن من شأن التقدم الحضاري أن يوسّع مساحة الحريّة الشخصيّة لكل واحد من الناس، وهكذا فما كان يُظن شيئًا عامًّا يؤثر في الحياة الاجتماعيّة -ومن ثَمَّ فإنه يمكن نقده- صار في جملة الخصوصيّات الفرديّة.
وتتكون الآن أعراف تجعل نصح الجار لجاره والرجل لأحد أقربائه؛ من الأمور غير المستساغة. ولهذا فإن مساحة القول في محاصرة الشر تضيق يومًا بعد يوم.
ومع هذا الانكماش أخذ المبدأ الإسلامي العظيم: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) يَذْبُل، ويفقد منطقيّته وأنصاره على نحوٍ مخيف ومخجل!
في الماضي كان عدد كبير من المسلمين يُعوّل على الدولة في محاصرة الفساد والحد من انتشار الانحراف بوصفها الجهة الوحيدة التي تملك سلطة رادعة ومنظمة معترفًا بها.
وقد كانت الدولة تقوم فعلًا بشيء من ذلك، لكن لابد أن نلاحظ عددًا من الأمور، منها: أن الدولة حين تكون مشروعة، فإنها تستطيع الحد من صور انتشار السوء كثيرًا، لكن كما أشرت قبل قليل فإن الردع من خلال القوة يكون قليل الجدوى إذا لم يُصحب بعمل توجيهيّ إيجابيّ.
ونحن نعرف أن كثيرًا من المنحرفين تحوّلوا إلى مجرمين كبار من خلال سجنهم مع فئة ضالعة في الإجرام أو مع أشخاص من أصحاب السوابق.
أما إذا كانت الدولة غير مشروعة أو كانت لا تخضع لرقابة شعبيّة جيدة؛ فإن قدرتها على حماية الآداب العامة وحفظ ظاهر المجتمع تكون شبه معدومة؛ لأنها هي نفسها تحتاج إلى الكثير من الإصلاح.
وهناك نقطة هامّة لا ننتبه في العادة إليها، وهي أن مطالبة الدولة بالمزيد من التدخل لحماية الأخلاق والآداب والأعراف الحميدة؛ سيعني على نحو آلي منحها المزيد من الصلاحيّة والنفوذ في التدخل في حياة الناس، وهذا يتطلب تضخم أجهزة الدولة، وهذا ليس في صالحها ولا في صالح شعبها.
إن الدولة مثل القلب ومثل الكبد إذا تضخم فسد، وإذا فسد تضخم. وقد صدق من قال: "الدولة وليدة عيوبنا، والمجتمع وليد فضائلنا".
إن المجتمع الفاضل في الرؤية الإسلامية هو الذي يقوم بمعظم شؤونه دون أن يطلب المعونة من أي دولة أو سلطة بسبب استغنائه بمبادراته ومؤسساته وارتباطاته الأهليّة والشعبيّة.
وأعتقد أننا الآن وصلنا إلى بيت القصيد ومربط الفرس في مقالنا هذا؛ إن العالم يعيش حالة فريدة من التضاغط والتزاحم العمليّ، وفي حالة كهذه تتعاظم قيمة الفعل ويتضاءل وزن الكلام، كما أن كثرة المغريات والمحفزات على الانخراط في الشأن الدنيويّ أضعفت قدرة الناس على المقاومة للشهوات على مقدار ما أضعفت فزعهم إلى الآخرة وإلى عالم المعنى على نحو عام.
المستقبل في الحث والتأثير والكف والزجر سيكون للبيئة والجو والسياق والحالة العامة.
إن البيئة الجيدة تؤثر في الشخصية عن طريق (اللاوعي)، وتقلل الميول إلى الشرور بشكل سلس.
السياقات الحسنة تُبنى من خلال الألوف من الأعمال الخيرة والمبادرات الكبيرة، ومن هنا فإن على أهل الدعوة والغيرة على مستقبل الأمة أن يفكروا بطريقة جدّية وعمليّة في كيفيّة الحصول على حضور متألق في كل المجالات وعلى كل المستويات.
إن الطبيعة -كما يقولون- تكره الفراغ. ومن ثَمَّ فإنّ علينا أن نتوقع أن كل فراغ سياسيّ أو تربويّ أو اقتصاديّ أو إعلاميّ لا يقوم الصالحون بملئه؛ فسيُملأ بسرعة هائلة من قِبَل غيرهم.
ونستطيع أن نتعلم من حركة اليهود في العالم أكثر من درس بليغ، حيث استطاعوا أن يتحولوا وبصمت عجيب ومن خلال العمل الدؤوب من أقلية مضطهدة مكروهة إلى أقلية ساحقة ومهيبة ومسيطرة، ومهما قلنا عن محاباة الغرب لهم؛ فإن الصحيح أيضًا أنهم قد أبدَوْا براعة نادرة في التنظيم والتخطيط والجهد المتتابع، وتلمس مكامن القوة ونقاط الارتكاز، بالإضافة إلى الإحساس المبكر بأهمية العلم في تكوين النفوذ...
حين تكون على درجة عالية من الكفاءة تكثر أعداد الذين لهم مصلحة عندك، وأعداد الذين يحتاجونك. ومن خلال الحاجة إليك يمنحونك الفرصة تلو الفرصة لأنْ تكون مؤثرًا وفاعلًا، حتى أعداؤك فإنهم يضطرون إلى مصانعتك من أجل الاستفادة منك.
ملء الفراغ وإحداث التأثير المتميز يحتاج إلى عددٍ من الأمور المهمة، منها:
1. الكفاءة العالية، والتي يأتي كثير منها من وراء التعلم الجيد والتخصص والتدرب الممتاز والمثابرة في اكتساب الخبرة.
2. الأمانة والاستقامة وشعور المرء بالمسؤوليّة الأخلاقيّة عن العمل الذي بين يديه.
3. التضحية وجعل التبرّع والعطاء المجاني انتظارًا للمثوبة من الله تعالى.
4. فن التفريق بين الجوهري والهامشي، وبين المرض وأعراضه، وأعتقد أن انتشار الشرور في المجتمعات الإسلاميّة يعود إلى عدد من الأسباب الجوهريّة، والتي منها: حبّ الدنيا، ضعف التربية الأسرية، وَهَن الإيمان والجانب الروحي، الإعراض عن القراءة والاستمرار في التعلم، عدم كفاءة القوانين والنظم الإداريّة.
5. الشعور بالمسؤولية الشرعيّة عن انتشار المنكرات وشيوع الفواحش، ولنا أن نتأمل قول الله -جل وعلا-: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ. كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة اﻵيتين:78-79]. وفي حديث الشيخين أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على زينب بنت جحش رضي الله عنها فَزِعًا، يقول: « »، قالت زينب: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: « » (رواه البخاري [7059]، ومسلم [2880])، أي: زمان كزماننا.
6. غير المباشر أهم من المباشر، ويكون الردع عن طريق الفعل أقوى من التأثير عن طريق الكلام، كما تكون الحركة الإيجابيّة أهم من الموقف السلبيّ الشاحب والمحتج. وللنية الحسنة والنشاط المستعر قيمة في كل زمان، ولا يكافئ فضيلة الإخلاص إلا كرم التوفيق.
- التصنيف:
- المصدر: