مَقصدُ الاجْتِمَاعِ وَمَكَانَتُهُ عند شيخ الإسلام

منذ 2014-04-26

يُعَدُّ شيخ الإسلام ابن تيمية صاحب القِدْح المُعَلَّى والنَّصيب الأوفَى في تقرير هذا المقصد قولًا وعملًا، تطبيقًا وتنظيرًا، فهو من أكثر الفقهاء إعمالًا لهذا المقصد في سلوكه وتعامُله مع الموافق والمخالف بصفة عامة، وفي الفروع الفقهية بصفة خاصة

كاد الفُقهاء يقطعون بأنَّ التأكيد على مقصد الاجْتِماع والائْتِلاف ونَبْذِ التفرق والاختلافِ؛ كان دَيدن النبي صلى الله عليه وسلم، عَبَّرَ عن ذلك الإمام الشوكاني (المتوفى سنة 1250هـ) بقوله: "وقد كان ديدنه صلى الله عليه وسلم وهِجِّيرَاه -أي: دأبه وعادته- الإرشاد إلى التيسير دون التعسير، وإلى التبشير دون التنفير، فكان يقول: «يسِّروا ولا تُعسروا، وبشِّروا ولا تنفروا» (رواه البخاري [69])، وكان صلى الله عليه وسلم يُرشد إلى الأُلفة واجتماع الأمر، ويُنفِّر عن الفُرقة والاختلاف؛ لِمَا في الألفة والاجتماع من الجلب للمصالح والدفع للمفاسد، وفي الفُرقة والاختلاف من عكس ذلك"؛  (أَدَب الطَّلَب ومُنْتَهَى الْأَربِ،  [ص 188]).

ويُعَدُّ شيخ الإسلام ابن تيمية (المتوفى سنة 728هـ) صاحب القِدْح المُعَلَّى والنَّصيب الأوفَى في تقرير هذا المقصد قولًا وعملًا، تطبيقًا وتنظيرًا، فهو -بِحَقٍّ- من أكثر الفقهاء إعمالًا لهذا المقصد في سلوكه وتعامُله مع الموافق والمخالف بصفة عامة، وفي الفروع الفقهية بصفة خاصة، مما دفعني لاختياره على وجه الخصوص دون غيره، كما دفعني لهذا الاختيار أمر آخر، وهو أَنَّ بَعْضًا مِمَّنْ يقرؤون لهذا العَلَم  الْهُمَامِ، ويحتجون بكلامه؛ لا يُعِيرُونَ مقصد الاجتماع أيَّ اهتمام في اختياراتهم الفقهية، كما هو ملاحَظ ومشاهَد.

وسأقف في هذه المقالة على بعض الأمثلة التي تُثْبِت مدى اهتمامه رحمه الله بهذا المقصد، من خلال النقاط التالية:

1- فهو يرى أَنَّ هذا المقصد من أعظم أصول الإسلام، فيقول: "وهذا الأصل العظيم، وهو الاعتصام بحبل الله جميعًا وألاَّ نتفرق؛ هو من أعظم أصول الإسلام، ومما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه، ومما عظم ذمُّه لمن ترَكَه من أهل الكتاب وغيرهم، ومما عظمت به وصية النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن عامة وخاصة"؛ (مجموع الفتاوى [22/ 359]).

2- ويقرر رحمه الله أَنَّ الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين، والفرع المتنازع فيه غالبًا ما يكون مِن الفروع الخفيَّة، فكيف يقدح في الأصل بحفظ الفرع؟! فيقول: "فمن شفع الإقامة -أي: للصلاة- فقد أحسن، ومَن أفردها فقد أحسن، ومَن أوجب هذا دون هذا، فهو مخطئ ضالٌّ، ومَن والَى مَن يفعل هذا دون هذا بمجرد ذلك، فهو مخطئ ضالّ، وبلاد الشرق من أسباب تسليط الله التتر عليها كثرةُ التفرُّق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها، وكل هذا من التفرُّق والاختلاف الذي نهى الله ورسوله عنه، وكل هؤلاء المتعصبين بالباطل المتبعين الظنّ وما تهوى الأنفس المتبعين لأهوائهم بغير هدى من الله؛ مستحقُّون للذم والعقاب، وهذا باب واسع لا تحتمل هذه الفتيا لبسطه؛ فإنَّ الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين، والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية، فكيف يقدح في الأصل بحفظ الفرع؟!" (مجموع الفتاوى [22/ 254]).

3- كما يبين أَنَّ أهل هذا الأصل هم أحق الناس بِمُسَمَّى الجماعة، فيقول: "وتعلمون أَنَّ مِن القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين: تأليف القلوب واجتماع الكلمة وصلاح ذات البَين؛ فإنَّ الله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]، ويقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، ويقول: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105]، وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف، وتنهى عن الفُرقة والاختلاف، وأهل هذا الأصل: هم أهل الجماعة، كما أَنَّ الخارجين عنه هم أهل الفُرقة" (مجموع الفتاوى [28/ 51]).

4- وكان رحمه الله يُصْلِحُ بَيْنَ المختلفين حتى وإِنْ كان بعضهم من المخالفين له، فيقول: "والناس يعلمون أَنَّه كان بين الحنبلية والأشعرية وَحْشة ومنافرة، وأنا كنتُ من أعظم الناس تأليفًا لقلوب المسلمين، وطلبًا لاتفاق كلمتهم، واتِّباعًا لما أُمرنا به من الاعتصام بحبل الله، وأزلتُ عامة ما كان في النفوس من الوحشة" (مجموع الفتاوى [3/ 227]).

5- ومِنْ حُسْنِ خُلُقِه، وسلامة صدره، وصفاء نفسه أنه كان يُسامح مَنْ أخطأ في حقِّه وتسبَّب في أذاه، فيقول: "وأول ما أبدأ به من هذا الأصل: ما يتعلق بي، فتعلمون -رضي الله عنكم- أني لا أحب أن يُؤذَى أحدٌ من عموم المسلمين -فضلًا عن أصحابنا- بشيء أصلًا، لا باطنًا ولا ظاهرًا، ولا عندي عَتب على أحد منهم، ولا لوم أصلًا، بل لهم عندي من الكرامة والإجلال والمحبة والتعظيم أضعاف أضعاف ما كان، كلٌّ بحسبه، ولا يخلو الرجل: إما أن يكون مجتهدًا مُصيبًا، أو مخطئًا، أو مذنبًا، فالأول: مأجور مشكور، والثاني: مع أجره على الاجتهاد، فمعفوٌّ عنه مغفور له، والثالث: فالله يغفر لنا وله ولسائر المؤمنين" (مجموع الفتاوى [28/ 52]).

6- بل ويذهب رحمه الله إلى أبعد مِنْ هذا، فيلوم أتباعه ومحبيه على استعمالهم بعض الكلمات التي فيها مذمة لمخالفيه، فيقول: "فإني لا أسامح مَن آذاهم -أي: آذى مخالفيه- مِنْ هذا الباب، ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل مثل هذا يعود على قائله بالملام...وقد عفا الله عما سلف" (مجموع الفتاوى [28/ 52]).

7- ويرى رحمه الله أَنَّ النقد البنَّاء إِنَّمَا هو لصالح المؤمنين، وأَنَّ النقد لا يُغيِّر من قدر المُنتَقَدِ شيئًا، بل يرتفع ذِكْره ويعلو قدره بعد النقد، فيقول في نفس الموضع السابق: "وتعلمون أيضًا: أَنَّ ما يجري من نوع تغليظ أو تخشين على بعض الأصحاب والإخوان، فليس ذلك غضاضة ولا نقصًا في حق صاحبه، ولا حصل بسبب ذلك تغيُّر منَّا ولا بُغْض، بل هو -بعد ما عومل به من التغليظ والتخشين- أرفع قدرًا وأَنْبَه ذِكْرًا وأحب وأعظم، وإِنَّمَا هذه الأمور هي من مصالح المؤمنين التي يُصلِح الله بها بعضهم ببعض؛ فإنَّ المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى".

8- ويلتمس رحمه الله العُذر للمخالفين في الفروع الفقهية بأنَّهم ما اختاروا ذلك الرأي إلا لمناسبته لحالهم، فيقول: "فهذه الأمور وإن كان أحدها أرجح من الآخر، فمَن فعل المرجوح فقد فعل جائزًا، وقد يكون فعل المرجوح أرجح للمصلحة الراجحة، كما يكون ترك الراجح أرجح أحيانًا لمصلحة راجحة، وهذا واقع في عامة الأعمال...وقد يكون العمل المفضول أفضل بحسب حال الشخص المُعيَّن؛ لكونه عاجزًا عن الأفضل، أو لكون محبته ورغبته واهتمامه وانتفاعه بالمفضول أكثر، فيكون أفضل في حقه؛ لما يقترن به من مزيد عمله وحبه وإرادته وانتفاعه، كما أنَّ المريض ينتفع بالدواء الذي يشتهيه ما لا ينتفع بما لا يشتهيه، وإن كان جنس ذلك أفضل، ومن هذا الباب صار الذِّكْر لبعض الناس في بعض الأوقات خيرًا من القراءة، والقراءة لبعضهم في بعض الأوقات خيرًا من الصلاة، وأمثال ذلك؛ لكمال انتفاعه به، لا لأنه في جنسه أفضل"؛ (مجموع الفتاوى [24/ 198]).

اللَّهم اجعلنا مِمَّنْ يَدْعُونَ إلى الحق، ويرحمون الخَلْقَ، ويُصْلِحُونَ ذات البَين، آمين.

 

أحمد عبد المجيد مكي.

المصدر: موقع اﻹسلام اليوم.
  • 0
  • 0
  • 1,894

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً